الحدود في فكر “سيلا بن حبيب”
يتوجّس الفكر النقدي ريبة من المصالحات الفكرية التي تصادر المفاهيم والأفكار لتعزلها في حدود لحظة التأسيس، فتحجّرها عند زمن الأصل.
يحتجز هذا الأخير طاقة الفكر المتوثبة ويعوقها من الإثراء والتجدد ومجاراة لحظتها التاريخية، فيتنكّر الفكر الإنساني لإرهاصات الواقع المتغيّر ويخضعه لحدوده ويأسره إلى جمود المدلول والمعنى، فيقبع أسيراً بانتظار اللحظة النقدية لتطلق إمكاناته، ولتحررها من قيود الحدود.
هذه هي عادة القول الفلسفي الذي يتبرعم متطاولاً متمرّداً، ويشبّ يقظاً متوثّباً، ويهرم قابضاً على ناصية الحقائق التي انتزعها ذات برهة نقدية من سلطة الحيازة والمصادرة.
إنه ميكانيزم العقل الذي يحوّل ثورته في مطلع كل حقبة متجددة إلى عقلانية سكونية تتمركز في حدود ذاتها، وتنجلي مقاصد تثبيت الحدود وإدامتها عند الكشف عن منطق استعمالات السلطة الذي يعتاش ويتغذى من بسطه لنفوذ حدوده، وضخّها بمدلولات القداسة العصية على التفكيك.
فيخسف على الحدود التي هي أحجية الرهان الفلسفي عبر التاريخ، والتحدّي الذي ما هابه فلاسفة انتصروا لحرية العقل، وانحازوا له، وتفرّدوا بجرأة النقد الملتزم الجذري الذي يقتحم وينبش ويفحص ويعرّي ويفضح ويكشف ويخترق كل حدود.
ويزخر تاريخ الفلسفة بإرث نقدي تمثل مدرسة فرنكفورت أو النظرية النقدية، واحدة من أهم روافده بخاصة أنها تأصلت في عمق التاريخ النقدي الألماني.
ولقد تشكّلت مفاهيم النظرية النقدية، وتلونت عبر سياقات تاريخية ما زالت مستمرة في لحظتنا المعاصرة. وهي، وبالرغم من محطات الإنفصال والإتصال على مستوى إنتاج المفاهيم واتخاذ المواقف، إلا أنّها حافظت على جذر النقد متوقّداً، انطلاقا من حسّ الانتصار المطلق والحاسم للإنسان ولواقعه.
ربما يكون أكثر المداخل ملاءمة للاطّلاع على مقاربة سيلا بن حبيب النقدية لموضوعة الحدود، هو التعرّف إلى هويّتها التي شكّلت الموجّه الأساسي لاختيار مسارها الفكري المتشعّب. هذا المسار الذي اعتاش من القلق واغتنى بالنقد.
ولم يأبه بالوصول إلى نهايات محسومة النتائج. فلقد لازم سيلا منذ صغرها سؤال الاختلاف، من النحن؟ ومن الهم؟ وهي التي تنتمي إلى عائلة يهودية سفردية طردت من إسبانيا عام 1492 بسبب من اختلافها الديني، وهربًا من محاكم التفتيش آنذاك.
ولجأت العائلة إلى تركيا حيث ولدت بن حبيب عام 1950. أثقلت ذاكرتها منذ الصغر بذلك الإحساس النفسي المبكر بالاختلاف الهوياتي، ما حثّها على تقصّي تاريخ عائلتها ودراسة قضية طرد الأقليات في أطروحتها المعدّة لنيل الليسانس من إحدى جامعات اسطنبول. ولم يشفع لهويتها المأثومة بالاختلاف، تدرّج صاحبتها الأكاديمي الجامعي وحصولها على الدكتوراه.
فهي تقول:” … إذ بدلًا من تقديمي كأستاذة جامعية في جامعة YALE، يتمّ تقديمي دائمًا بوصفي يهودية تركية، وخلال مساري الأكاديمي، تكون هويتي وأصلي العرقي – والذي لا أخفيه – أوّل شيء يتم ذكره في ألمانيا”.
يأخذ الإختلاف بعدًا مزدوجًا، إثنياً وأنثويًا، وتصرّح سيلا بن حبيب قائلة:” نعم النساء هن مجموعة ضحايا إرث تراكمت مفعولاته، فولّد نموذجًا من براديغم الصراع”.
تبلورت صيغة سؤال الاختلاف وتحوّلت إلى إشكاليات تناسلت؛ فمن إشكالية التعددية الثقافية، إلى إشكالية الحداثة، وصولًا إلى سبر غور إشكالية الحدود التي تثوي في عمق الفكر الغربي.
فمن الذي يضع الحدود بين الهويّات؟ وكيف تتحدّد الثقافات وتتقلص إلى دوائر مغلقة؟ كيف تتحوّل الثقافة إلى فضاء حدودي مغلق؟
إن تقصّي إجابات هذه الأسئلة قاد بن حبيب للبحث في إشكالية التعددية الثقافية، فالتنوع الثقافي والديني والإثني واللغوي هو ظاهرة طبيعية، لكنه يتحوّل إلى مثار إشكالي عندما يحرّض على النزاعات ويولّد الصراعات، ليس فقط في الدول التي تعاني هشاشة في الديموقراطية، بل وحتى في الدول ذات العراقة في تاريخها الديموقراطي.
هذه الدول ذات الأنظمة الجمهورية والليبرالية أفضت ممارساتها حيال الأقليات المهاجرة إليها، إلى الكشف عن أعطاب مؤسساتها القانونية والدستورية.
فهي تضع حدًّا بين الفضائين الخاص والعام (الحدود التي تضيّق نطاق الفضاء العام وتحدّ من ممارسة الحرية فيه) (تعطي سيلا هنا أمثلةً عن منع الحجاب في كلّ من ألمانيا وفرنسا في الجامعات وفي الفصول الدراسية).
فالأقليات تمنع من إظهار هويتها الدينية أو الثقافية أو اللغوية بحجة التجانس، فالفضاء العام محدودٌ بثقافة الأكثرية المنتمية قوميا ووطنيا بينما يخشى من الأقليات تفكيك هذا التجانس واختراق نسيج التماثل.
يستبطن هذا السلوك الإقصائي إدماجًا قسريًا للأقليات، التي تعرقل أنظمة بعض الدول دخولها إلى حدودها أو تجنيسها من خلال اختلاق عوائق لغوية أو حدود لغوية، أو تمنعها من المشاركة في الحياة السياسية كالحق في الانتخاب مثلًا.
تحصل هذه الارتكابات تحت مسميات مسوّغة وعناوين كالشرعية الديموقراطية التي هي ديموقراطية الأكثرية، أو حفاظًا على نقاء الشعب المتجانس المنتظم في إطار ماهية مشتركة مقدّسة كالقومية والوطنية.
(يقول روجيس دوبريه في كتابه مديح الحدود أن كلمة Sacre، أي مقدّس مشتقة من لفظ Sancire اللاتيني، وهو يعني التحديد والإحاطة والمنع).
تدفع إشكالية التعددية الثقافية سيلا بن حبيب إلى البحث في طبيعة الثقافة من جهة، وإلى استدعاء مفاهيم الديموقراطية والليبرالية والحرية والمواطنة بوصفها موروثات المشروع الحداثي الذي ورثت سيلا تقليد مساءلته ومحاكمته من الفرنكفورتيين السابقين، لاسيما هابرماس.
تشخّص سيلا الخلل في التصوّر المشوّه لطبيعة الثقافة. فهذا التصوّر يقيّد الثقافة ضمن منظور ستاتيكي جامد، ويحوّل الثقافات العالمية المختلفة إلى أبنية مستقلة قابلة للتحديد والتنميط. فتظهر الثقافات كخانات متخارجة وككيانات منفصلة، في محاولة لضبطها بطريقة آلية وتحويلها إلى بنًى قائمة بذاتها بحسب ليفي شتراوس.
إن تذرير الهويات والثقافات والحضارات، وإبرازها كوحدات متفرّقة ومحدّدة في سياجات مسوّرة مغلقة، يستبطن وظيفة أيديولوجية، ويُعبّأ بمدلولات تحريضية ليشيد الحدود ما بين المنتمين إلى هذه الهويات ويباعد فيما بينهم.
وإن كان سياق هذا الكلام يجعلنا نستحضر هنتنغتون ونبوءته حول صراع الحضارات، الذي ينتهي بسيادة النموذج الليبرالي بصفته النموذج الإرشادي للرقي والتحضّر، فإنّ سيلا التي تبذّ مقولة صراع الحضارات وترفضها.
تعود في التاريخ إلى أبعد من هنتنغتون لتتقصّى جذور لازمة الحدود الملازمة للفكر الغربي، فتتوقف عند وثيقة السلام ويستفاليا 1648 التي، أعلن فيها انتهاء حرب دينية دامت 30 سنة بين البروتستانت والكاثوليك.
ومع هذه الاتفاقية ستتحول أوروبا إلى أمم ودول بحدود ترابية ذات صبغة سيادية مطلقة، حيث يمارس الأمير أوالملك الذي يحكم هذا الكيان مطلق سيادته فوق أرضه.
ولكن أوروبا شهدت محطات مبشرة كالثورة الفرنسية وعصر الأنوار الذي دخلت على إثره مرحلة الحداثة وشخصت التطلّعات صوب مشروعها الذي عُدّ مشروع خلاص إنساني بما حواه من منطوقات واجتهادات في كافة الحقول العلمية والتنظيرية.
وتمظهرت قيم الحداثة كالديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان والمواطنة في بعد عملاني كرّسته القوانين والدساتير والشرائع، وحمته مؤسسات الدولة الحديثة.
مجّدت هذه القيم الفرد، وعبرت به إلى ضفة الكينونة الرحبة حيث إنسانيته هي القيمة الفارقة في وجوده، تعلو به فوق حدود الانتماءات الأيديولوجية والإثنية والعرقية والحضارية واللغوية والدينية التي ترسّم بطبيعتها الحدود بين المنتمين إلى دوائرها وبين من هم خارجها.
خيّبت نهاية الحداثة آمال أولها وتطلّعاته، وانجلت نهايتها عن ذاكرة مفجوعة بحرب كونية هي الحرب العالمية الثانية.
وحدها الحرب تنفلت خارج الحدود، ووحدها تمتلك لغة العبور السريع نحو العالمية، لتشيّد بعد أن تضع أوزارها الجدر العازلة وتعيد ترسيم الحدود الشوفينية والقومية والعنصرية. فبعد كل حرب تنكمش فضاءات العالم وتضمر اتساعات آفاقه.
نتج عن الحروب الدينية معاهدة ويستفاليا التي ماهت ما بين مفهومي السيادة والحدود الترابية، و أفضت الحرب العالمية الثانية إلى تشييد الحدود بين الكيانات القومية وشاعت مقولات النقاء الخالص والشعب الخاص والثقافة الخالصة المتشبّعة بإرادة الانغلاق وكراهية الآخر، وبعد الحرب الباردة انغرزت الحدود بين الثقافات والهويات الحضارية وهو ما يشهده عالمنا اليوم.
تلجأ سيلا إلى الحداثة لاستنطاقها ونقد موروثاتها السياسية فواقع ممارسة قيم الحداثة، بات مأزومًا بتناقضات الليبرالية ولا إنسجامها المعرفي، والديموقراطية باتت بحاجة إلى مواجهة نقدية صريحة تنقذها من ازدواجية الاستنساب والجهوية.
وكذلك صار ضروريًا على المواطنة الانتقائية أن تطلق معانيها متحرّرةً من أشكال ويستفاليا المتجددة و المستمرة (تركّز سيلا على واقعة ويستفاليا التاريخية التي أسّست لتوريث مفهوم الحدود في الفكر السياسي الغربي).
وبما أنها تتبنّى مقولة هابرماس عن أن الحداثة مشروع لمّا يكتمل بعد، فإنّ سيلا تجد ملاذها أيضا في الإرث الحداثي لاستشراف الحلول، فتستعين برمز الحداثة كانط في مشروعه حول السلام الدائم ومن هيغل باعتباره من الفلاسفة الذين فكروا في” إشكالية الحداثة، من خلال دعامات أساسية تقوم عليها الدولة: الأخلاق، المساواة، والحياة الإثنية”.
أعجبت سيلا أيّما إعجاب بحنة أرندت “باعتبارها المفكرة الكبيرة لهذا القرن، من حيث أنّ أعمالها تذكّرنا بقوة الكنوز المفقودة من تقاليد فكرنا السياسي”، واستمدّت منها مفهوم” الحق بالتمتع بكافة الحقوق”.
تجد سيلا في الحداثة بذورًا تمكن زراعتها من أجل الانطلاق في مشروع كوني عالمي يتخطى الحدود ويؤسس لقيم أخلاقية إنسانية عابرة للحدود. ولأنّ الحدود مسألة أخلاقية وفكرية قبل أن تتجسّد بأشكال واقعية شتّى كما يذهب روجيس دوبريه.
وبعد أن لامست سيلا عمق إشكالية الحدود التي يصطنعها الفكر المنغلق ويقيّد بها المفاهيم ويصيب معانيها بالانكماش، تجترح سيلا مفهوم ديموقراطية التكرار لتطلق المعنى من انحباسه ولتوسّع حدود المفاهيم.
فكل تكرار هو تحويل للمعنى وإثراء له وإغناء ليواكب السياقات المختلفة للزمان والمكان. فالمفهوم يتكرر ويعدّل ويصوّب بحسب تاريخية اللحظة التي ينتمي إليها فلا يسقط إسقاطًا من علٍ، بل يستجيب لمتطلبات العصر ولحاجاته.
وهكذا يصبح مطلوبا من الديموقراطية أن توسّع حدودها و تصبح أكثر رحابة لتسع كل الاختلافات الثقافية والإثنية والدينية، ومن الفضاء السياسي العام أن يكون مضيافًا ليستمع إلى سرديات الأقليات كما الأغلبية، ومن حدود الذات التي حدّتها الليبرالية بالفردية الذرية أن تتواصل مع الذوات وتتبادل المواضع فيما بينها لتصغي إلى حكاية الآخر.
هنا تفتح سيلا كوى في جدر الحدود على أنواعها، بدءاً من الحدود المفاهيمية، فالحدود في الثقافة السياسية، والحدود القانونية المؤسساتية، وصولًا إلى حدود الذات، وذلك بهدف تأسيس ثقافة تواصلية بينذاتية.
وتعود سيلا إلى محطة 1948 التي شكّلت منعطفًا جديدًا فيما يختص إطلاق حقوق الإنسان الذي ترى فيها إلزامًا وتقييدًا ذاتيين التزمت به الدول الكبرى، لكنها تطيح بها عندما يتعارض والقوانين المرعية داخل حدودها الترابية، وذلك تحت حجة السيادة.
وتسأل سيلا هل يمكن صياغة قيم عالمية تتجاوز سيادة الحدود؟ تؤسس سيلا لمثل هذه القيم من خلال دعوتها إلى مشروع المواطنة العالمية حيث الفرد هو مواطن العالم ومواطن دولته، والسلطات العالمية هي الراعية لحقوق المواطنة عندما يقع الاعتداء عليها من طرف الدولة الوطنية.
والقاعدة الأساسية لهذه المواطنة أن الإنسان ليس فقط مواطنًا داخل دولة ذات سيادة بل هو مواطن عالمي وموجود في العالم، وعلى الحكومة العالمية أن تصون كرامته في حال تعرّض لأي اعتداء.
وتدعو سيلا إلى سهولة التجنيس وإزالة الحدود اللغوية كشروط تعجيزية تفرضها بعض الدول للحصول على الجنسية، وتحثّ على إشراك الأقليات النازحة والمهاجرة في الحياة السياسية وعلى تطوير المؤسسات لتضمن الحقوق السياسية والدينية لهذه الأقليات.
إن طموح سيلا في الإطاحة بالحدود يذهب إلى أقصاه، عندما تصرّح أن الموقف الوحيد الذي يبدو أخلاقيًا هو فتح الحدود أي كسر القيود على تحركات الناس وعدم حرمانهم من حقهم في التنقل والسفر، لكنها تبدي حذرها تجاه هذا الإجراء لأنه غير متطابق مع حق تقرير المصير في المجتمعات الديموقراطية.
وهنا تدعو بن حبيب إلى حدود أكثر مرونةًً، أو حدود معدّلة، لا تتم المغالاة فيها لتصير قيودًا عصية على التجاوز، وهي تقول في هذا الصدد:” سأدافع عن حدود مرنة لرفع الحصار بشكل نهائي عن العضوية (عضوية المواطن العالمي)، ومن أجل إدخال مطالب المواطنة في نظام كونية حقوق الإنسان”.
إن حذر سيلا من إزالة الحدود مشروع. فكما أنّ تنصيب الحدود يصيّر العالم فضاءً مسدودًا خانقًا، كذلك امّحاء الحدود له محاذيره، فجدلية الحدود بين الإنفتاح والامّحاء، الانفلاش والانكماش، هي إشكالية منفصلة للبحث والتحليل.
والمطلوب هو ليس محوًا للحدود السيادية، وإنّما طرق جديدة لتدبيرها، بخاصة في ظل الرهانات والتحديات التي باتت ملحة و ضرورية وهي تتجاوز حدود الدولة الوطنية وحتى الحدود القارّية، فظواهر الهجرة والإرهاب ومشاكل البيئة وغيرها تقتضي فتح العلبة السوداء للسيادة الوطنية.