فكر وفلسفة

بحثاً عن المدينة الفاضلة: موجز تاريخ الفلسفة الغربية

  • مقـــــدمة

بدأ الكثير من الفلاسفة حياتهم كدارسين للعلوم الطبيعية، لكن قدرتهم على التحليل المعمق وضعتهم وجها لوجه أمام المشاكل الميتافيزيقية الكامنة وراء كل علم، فاتجهوا لدراسة الفلسفة. وأشرقت شمس الفلسفة في اليونان القديمة وتحديدا في أثينا، وبعدما زوى مجد اليونان بزغ فجر الرومان، لكن على سواعد القوة هذه المرة لا على ضوء الفكر. واستمرت الإمبراطورية الرومانية لألف عام، قبل أن تدخل أوروبا عصور الظلام لألف عام أخرى.


وفي طريق الإنسان لدخول عصر النهضة، بدأت الكشوف الجغرافية، وظهرت حركة الإصلاح الديني، واختُرعت الطباعة. وفي القرن السابع عشر وبعد انقضاء أكثر من مائة عام من الحروب الدينية الدموية حاول زعماء أوروبا في معاهدة ويستفاليا تخفيض نفوذ الدين واحتواءه في السياسة. وفي القرن التالي رفع مفكرو التنوير العقل إلى مرتبة أعلى من الإيمان كمصدر للفهم الإنساني، ثم شهد القرن التاسع عشر ثقة متزايدة في العلم بحيث تم إنزال الدين عن عرشه.

ومع كل هذه التطورات وانطلاق الثورة الصناعة (التي هي نتاج العلم والعقل) أصبحت الحداثة أمرا واقعا، وانشغل الفلاسفة – كعادتهم – بتوصيف الواقع الجديد، وجاء ذلك على عدة مستويات:

  • مركزية العقل: حيث رفع فلاسفة الحداثة العقل (كديكارت) إلى مراتب عالية.
  • السياسي: وقام به عدد من الفلاسفة أبرزهم هوبز ولوك وجان جاك روسو (العقد الاجتماعي)
  • الاقتصادي: وقام به عدد من الفلاسفة أبرزهم آدم سميث وريكاردو (الرأسمالية)

ثم بدأ نقد الحداثة من عدة أوجه:

  • نقد فكرة مركزية العقل: حيث كتب كانط كتاب “نقد العقل المحض”، بهدف محاكمة آلة التفكير (العقل) وتعيين حدود عملها.  فيما أكد فرويد على الدور الكبير للاشعور. أما شوبنهاور فأكد على أن الإرادة أو الرغبة تسبق العقل وتسخره لمصلحتها.
  • نقد على المستوى الاقتصادي: ممثلا في ماركس الذي قيد العقل بالبنى الاقتصادية (نقد للرأسمالية)، وقال: ليس وعي الناس هو ما يحدد وجودهم الاجتماعي، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم. مؤكدا أن الأفكار ليست سوى انعكاس لعالم المادة.
  • نقد على المستوى الأخلاقي: جاء به نتشه واعتبر أن أكبر خطأ في تاريخ البشرية هو النزعة الأفلاطونية التي أعلت العقل على الغريزة. وقال إن فلسفة الحداثة ما هي إلا مبادئ لاهوتية مسيحية محرفة. وطالب بالتخلص ليس فقط من الإله، ولكن أيضا من “أخلاق الإله”، معتبرا أن قوة الإنسان وسيطرته على الطبيعة هي الغاية الأساسية.

الخلاصة أن عصري النهضة والتنوير أنتجا الحداثة، فشهد الأول تأليه الإنسان، بينما أله الثاني العقل. ثم جاءت أفكار كانط لتشكك في أهلية العقل، وتلقى ضربات موجعة من ماركس الذي اعتبره نتاج ظروف اقتصادية مادية (البنى التحتية)، ومن فرويد الذي قلل من تأثيره وأعلى من تأثير اللاشعور، ومن نيتشه الذي أعلى من شأن الغرائز على حساب العقل، ومن هيدجر الذي أسقط العقل من مقام التأليه، ووضع مكانه اللغة.

وقال: في الواقع نحن لا نتكلم اللغة، بل اللغة تتكلمنا! وهي الفلسفات التي اصطلح على تسميتها بفلسفات ما بعد الحداثة وخلالها تم الارتحال عن أرضية الذاتية والعقل والوعي والإنسان، إلى أرضية الغريزة واللاوعي. فقد كان فلاسفة عصر التنوير يحتقرون العاطفة ويقللون من أثرها خوفا من أن تصبح مدخلا للدين، لكن ذلك الخوف تراجع مع الوقت. 

وفي بداية الحداثة كانت الرياضيات هي السائدة على الفلسفة خاصة في القرن الـ17 وأنجبت للعالم ديكارت وهوبز وسبينوزا وبسكال، ثم أخذ علم النفس يسطر الفلسفة في آراء بركلي وهيوم وكانط، وأخيرا جاءت الأحياء (خاصة بعد نظرية دارون للتطور) لتمثل في القرن الـ19 عمود الآراء الفلسفية الفقري في آراء شوبنهور وسبنسر ونيتشه.

وبعد كل ما سبق جاء هابرماس ليقول إن الحداثة لم تستنفد أفكارها بعد، وأنه لايزال في أفكار التنوير الكثير الذي يمكن أن يقدَم للبشر، لذلك لا يمكن القول بأن البشر تجاوزوا الحداثة لمرحلة ما بعد الحداثة.

في هذه الأثناء كانت الحرب العالمية الثانية قد وضعت أوزارها لتندلع حرب باردة لبست دثارا أيدولوجيا بين القوتين العالميتين الجديدتين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي)، وبعد انتهاء الحرب بانهيار الاتحاد السوفيتي بات على الفلاسفة أن يوصفوا الحالة الجديدة التي وصلنا إليها.

فخرج فرانسيس فوكوياما متسرعا ليقول إننا وصلنا إلى “نهاية التاريخ”(وهي فكرة هيجلية بالأساس)، معتبرا أن النموذج البشري ظل يتطور ويبحث عن لحظة الاستواء في نمط اقتصادي وسياسي وثقافي حتى وصل إلى الليبرالية الرأسمالية، وأن البشرية غير قادرة على إبداع نمط أفضل.

غير أن صامويل هنتنجتون رفض هذا الطرح تماما، وقال إن التاريخ لم ينتهي بعد، معتبرا أن هناك “صراع الحضارات” بين ثماني ثقافات هي: الغربية، واللاتينية، واليابانية، والصينية، والهندية، والإسلامية، والأرثوذكسية، والأفريقية، والبوذية.

وبعد هذه النبذة السريعة، يمكن أن ننتقل في السطور التالية إلى مزيد من التفصيل حول الفلسفة التي هي “حب الحكمة”، ونستعرض تاريخها وتاريخ كبار الفلاسفة، ونطوف بين مباحثها الثلاثة الكبرى: الوجود (الأنطولوجيا) ويسأل عن نشأة الكون وسبب الوجود والإلهيات والمصير …إلخ، أو من أين جئنا وماذا نفعل وما مصيرنا؟ والمعرفة (الأبستمولوجيا) ويسأل عن أساس المعرفة وحدودها وطرق الوصول لها وما هي الحقيقة …. إلخ، والقيم (الأكسيولوجيا) ويسأل عن الجمال والخير والشر والأخلاق ….إلخ.

الفلسفة اليونانية

بحلول العام 600 ق. م. تقريبا ظهرت المدن الكبيرة في اليونان وكان العبيد يقومون بالأعمال اليدوية مما وفر لـ”السادة الأحرار” وقتا للتفكير والتأمل، فظهرت إجابات وطريقة تفكير خارج إطار الدين والأساطير القديمة سميت بالفلسفة.

وقد سمحت طبيعة اليونان المكونة من العديد من الجزر المستقلة سياسيا، بنشأة الديمقراطية، فكل جزيرة أو مدينة كانت دولة، وبما أن عدد سكان المدينة (الدولة) صغير كان من الممكن أن يجتمع السكان في ساحة عامة لاتخاذ القرارات. ومع ظهور الديمقراطية فإن الاستدلال والاهتمام بالحجج أصبح ذا شأن، لذلك وجدت الفلسفة مناخا خصبا في اليونان.

ورغم أن اليونانيين لم تكن تجمعهم سلطة مركزية، إلا أن أثينا وإسبارطه توحدتا وتناستا خلافاتهما بين عامي (490-470 ق م) لصد هجوم الفرس. فقدمت إسبارطه الجيش، وأثينا الأسطول. وبعد الحرب سرحت إسبارطه الزراعية جيشها مما سبب لها مشاكل كبيرة، بينما حولت أثينا أسطولها الحربي إلى تجاري، وأصبحت مركزا تجاريا عظيما. ومع التجارة جاء الرخاء والأفكار والعلوم من كل صوب، ومعها جاء الشك.

وتطور الفكر الفلسفي اليوناني عبر ثلاث مراحل: الفلسفة ما قبل السقراطية (الطبيعية)، والفلسفة السقراطية الأفلاطونية الأرسطية، وأخيرا مرحلة الفلسفة الهلينستية.

ففي البداية كان الفلاسفة يحاولون تفسير الظواهر الكونية، لتحل محل الأساطير التي تتحدث عن آلهة الخصب والرياح والحرب …إلخ، لذلك كان يطلق عليهم “الفلاسفة الطبيعيون” (مثل طاليس، هيراقليطس، فيثاغورس، أبيقور، ديمقريطس) وأبرزهم طاليس الذي قال إن الماء أساس كل الكائنات، وسافر إلى مصر وقاس طول الهرم عبر ظله. وأيضا الفيلسوف أناكسيماندر الذي قال إن الماء ليس سوى هواء مركز. والفيلسوف هيراقليطس الذي قال إن كل المواد في الطبيعة تغير طبيعتها باستمرار، وقال إن هناك “عقلا كونيا” واحدا يدير كل شيء.

وثلاثتهم تعود أصولهم إلى آسيا الصغرى (تركيا الحالية). وبدوره كان أمفيدوكليس يقول إن الطبيعة تتكون من أربع مواد هي الهواء والماء والتراب والنار. أما آخر الفلاسفة الطبيعيين فكان ديمقريطس (460 – 370 ق م) وقال إن كل شيء مكون من ذرات بما في ذلك الروح نفسها!

وفي تلك الفترة ظهر أيضا تراجع التفكير في حركة التاريخ باعتبارها تسير وفقا لإرادة الآلهة القابعين في جبل الأوليمب، وبدأ الاهتمام بالتاريخ كعلم حقيقي، فظهر مؤرخون كبار مثل: هيرودوت وتوسيديد. كما بدأ الطب الإغريقي على يد هيبوقراطس الذي ولد عام 460 ق م. وبهذا دخل اليونانيون في قطيعة مع التصور الأسطوري للعالم. 

ومنذ 450 ق. م. أصبحت أثينا العاصمة الثقافية للعالم اليوناني، واستبدلت دراسة الطبيعة بدراسة الإنسان وموقعه في المجتمع. وبدأ شكل من أشكال الديمقراطية في التبلور، بعد أن كانت التربة الشعبية مهيأة لذلك بسبب انتشار فن الحوار والجدل بين الأثينيين، وكان ذلك بسبب موجة من أساتذة الفلسفة القادمين من المستعمرات الإغريقية وأطلقوا على أنفسهم لقب “السفسطائيين” أي الرجال الحكماء.

ثم ظهر فلاسفة الأخلاق (سقراط وأفلاطون وأرسطو) الذين أثاروا الأسئلة عن الإنسان والروح والحياة والموت والفضيلة والدولة. وأولهم سقراط (470-399 ق م) الذي لم يكتب سطرا واحدا، وكل ما وصلنا عنه كان عن طريق تلميذه أفلاطون. واكتفى بمناقشة طلابه والناس العاديين في الأسواق والشوارع، وطرح الأسئلة التي تقود الآخرين لاستنتاجاتهم الخاصة.

وكان يقول إن العقل يحوي كل العلوم، وإن الجهل بها ليس سوى نسيان. ولإثبات نظريته أحضر صبيا عمره 12 عاما لم يتعلم شيئا من الرياضيات قط، وأخذ يسأله السؤال تلو الآخر حتى جعله يستنتج بنفسه نظريات فيثاغورس الرياضية. وقد أزعج سقراط الكثيرين في أثينا حتى اتهموه بإفساد الشباب، وحُكم عليه بتجرع السم.

ثم جاء تلميذه أفلاطون (427-347 ق م) الأرستقراطي الذي كره ديمقراطية الجموع بسبب قتلها أستاذه، وزار مصر وإيطاليا ودولا أخرى بحثا عن الحكمة. وألف كتاب الجمهورية الذي دعا فيه لدولة يوتوبية يحكمها الفلاسفة، كما تحدث عن شيوعية جزئية. وكان يقدم العقل الذي يقودنا لمعرفة الحقيقة على الحواس التي تعطينا معرفة تقريبية وغير كاملة.

وكان أفلاطون يقول إن كل إنسان تتنازعه ثلاث قوى هي العقل، والقوة العضلية والشجاعة، والشهوة، وعلى الإنسان أن يجعل العقل يتحكم في باقي القوى. وعلى المستوى السياسي فإن المجتمع مقسم أيضا لثلاثة أقسام هم العوام المشغولون بالغرائز والشهوات، والجند الذي يمثلون القوى العضلية والشجاعة، والفلاسفة الذين يمثلون العقل، لذلك يجب أن يحكم الفلاسفة المجتمع.

وتحققت أمنية أفلاطون بحكم الفلاسفة عندما حكم أحد أصدقائه المتفلسفين صقلية، فرحل إليه وعاش في كنفه، لكن الصديق ضاق بأوامر أفلاطون ونواهيه فباعه كعبد في السوق، وظل عبدا حتى رآه أحد تلاميذه فاشتراه وحرره. ثم عاد إلى أثينا ليؤسس أكاديمية للفلاسفة كتب على بابها: لا يدخلها إلا من كان رياضيا! وذلك لأن الرياضيات تقتضي التجريد، وهو أمر ضروري في الفلسفة.

وكان أرسطو ‏(384 – 322 ق.م.) أنبغ تلاميذ تلك الأكاديمية وأراد أفلاطون أن يخلفه في رئاستها، لكن أثينا رفضت أن يتولى أرسطو المقدوني أهم مراكزها الثقافية فتم تولية سبوسيبوس ابن شقيق أفلاطون رئاسة الأكاديمية! وبعد وفاة أفلاطون رحل أرسطو إلى مدينة آترنيوس اليونانية بآسيا الصغرى، وتزوج شقيقة حاكمها هرمياس، وبعد ثلاث سنوات تلقى دعوة من الملك فيليبوس المقدوني ليكون معلم ابنه الذي أصبح فيما بعد الإسكندر الأكبر.

ثم عاد أرسطو مرة أخرى لأثينا بدعم من تلميذه الإسكندر، وقضى فيها 11 عاما ويؤسس مدرسته الخاصة (لوقيون). وبعد موت الإسكندر الذي بدأ الحقبة الهلنستية (هي حقبة سادت فيها اللغة والثقافة الإغريقية لنحو 300 عام، وتمكن خلالها الإسكندر الأكبر من هزيمة الفرس تماما وربط مصر والشرق كله بالحضارة الإغريقية) ثارت أثينا على المقدونيين فخرج أرسطو منها ليموت خارجها بعد شهور (وعندما سُئل: لماذا خرجت؟ قال لأني لا أريد لأثينا أن ترتكب جريمة أخرى في حق الفلسفة! يقصد بالأولى قتل سقراط)، كما انتحر ديمستين خطيب أثينا الأشهر، وهكذا فقدت أثينا خلال عام واحد حاكمها الأعظم وخطيبها الأشهر وفيلسوفها الأكبر.

ورغم حبه لأستاذه أفلاطون إلا أن أرسطو اختلف معه كثيرا، وأكد على الفردانية وحذر من المثالية ويوتوبيا أستاذه، كما أنه آمن بالحواس بعكس أفلاطون الذي ركز على عالم الأفكار. ودعا لحكومة دستورية تكون وسطا بين الديمقراطية والأرستقراطية. واعتبر أن المرأة “رجل غير كامل”، وقال إن الإنسان “حيوان اجتماعي” بطبعه، وأن الدولة هي أفضل أشكال التنظيم الاجتماعي. كما أسس علم المنطق، وكان عالم أحياء حقيقي، وسيطرت أفكاره على أوروبا ومناطق واسعة من العالم لأكثر من ألف عام. وقيل: لقد ربى سقراط مستبدين اثنين: الإسكندر الأكبر والمنطق الأرسطي!


ولم يطور اليونانيون الآلات كما طوروا الأفكار، لذلك لم تكن إسهاماتهم في العلوم الطبيعية كبيرة. لكن مساهماتهم الفكرية كانت شديدة الأثر، فمعظم الأسئلة الفلسفية التي تثار الآن ترجع أصولها إلى أسئلة أثارها فلاسفة اليونان قديما.

وبعدما زوى مجد اليونان وحقبتهم الهلنيستية بزغ فجر الرومان، لكن على سواعد القوة هذه المرة لا على ضوء الفكر. وعندما تمكنت روما من السيطرة على العالم الإغريقي كانت قد تحولت بالفعل إلى مقاطعة من مقاطعات الثقافة الإغريقية.

ولفترة طويلة في العهد الروماني ظلت أثينا مركز الفلسفة بينما كانت الإسكندرية بوصفها نقطة التقاء الشرق والغرب عاصمة العلم وخصوصا الرياضيات والفلك والطب. وظهرت في العصر الهلنستي مدارس فلسفية تحاول جميعها الإجابة على سؤال: أين تكمن السعادة وكيف يمكن تحقيقها، وأهم هذه المدارس:

  • الكلبية: وضع أسسها أنتيستانس تلميذ سقراط، وكانت ترى أن السعادة تكمن في الاستغناء عن الحاجات المادية.
  • الرواقية: وولدت فلسفتهم في أثينا على يد زينون (وسمي بالرواقي لأنه اعتاد أن يجمع تلامذته في رواق)، وساهموا في نشر الثقافة الإغريقية في روما. وكانوا يرون أن كل فرد هو “عالم مصغر” يشكل انعكاسا لـ”العالم الأكبر”، وكانوا لا يرون أي تعارض بين المادة والروح، ويؤكدون على “وحدة الوجود”. وكانوا يرون أنه على الإنسان أن يتصالح مع قدره، وأن يتلقى الحوادث السعيدة والتعيسة بقدر من الهدوء والطمأنينة، وهو ما أطلق عليه مصطلح “هدوء رواقي”.
  • الأبيقورية: وظهرت في أثينا أيضا نحو 300 ق م على يد الفيلسوف أبيقور، لكنها وعلى عكس الرواقية كانت ترى أن هدف الحياة هو تحقيق أكبر قدر من المتعة سواء كانت حسية أم معنوية، وتجنب كل أشكال الألم، فـ “الخير المطلق هو المتعة، والشر المطلق هو الألم”. كما أنه لا يجب أن نخاف من الموت لأنه برأيهم لا حياة بعده. لدرجة أن البعض قلص فكرة الأبيقورية في جملة “عش اللحظة الحاضرة”.
  • الأفلاطونيون الجدد: وأبرز فلاسفة هذه المدرسة هو “أفلوطين” (205-270 ق م) الذي درس الفلسفة بالإسكندرية قبل أن يذهب لروما ويؤسس نظرية تجمع بين الفلسفة الغربية والروحانية الشرقية لتكون المنافس الأهم للمسيحية في مهدها، بل وتركت تأثيرها على اللاهوت المسيحي نفسه. وكانت المدرسة تميز – كما فعل أفلاطون – بين عالم الأفكار وعالم الحواس، وبين الجسد والروح.

بعد فترة ليست بالطويلة ظهرت المسيحية، وأخذ بولس (ولد في طرطوس 5م وتوفي في روما 67م) يطوف المدن الإغريقية يبشر بها. وكانت روما في العام 300م تواجه تهديدين خطيرين شعوب الشمال من جهة، وصراعاتها الداخلية من جهة أخرى. وفي العام 313م اعترفت الإمبراطورية الرومانية بالمسيحية في عهد الإمبراطور قسطنطين، وفي 330م نقل قسطنطين العاصمة إلى القسطنطينية التي اعتبرت “روما الجديدة”.

وبحلول العام 380 أصبحت المسيحية الدين الرسمي للإمبراطورية. وفي 395م انقسمت الإمبراطورية إلى غربية وعاصمتها روما وشرقية وعاصمتها القسطنطينية. وفي العام 410 اجتاح البرابرة روما ونهبوها، وفي 476م انهارت الإمبراطورية الرومانية الغربية بالكامل.

وبحلول العام529  أغلق الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول أكاديمية أفلاطون في أثينا، وفي نفس العام ظهر تقليد منح البركة الذي اعتبر أول قانون كهنوتي. لتكون الكنيسة بذلك قد وضعت يدها على الفلسفة الإغريقية، ومنذ ذاك سيطر الكهنة على التعليم والفكر والتأويل. 

وبذلك تكون روما قد اندثرت بعد ألف عام من العظمة، ليسود أوروبا ظلام طويل تغولت فيه سلطات الكنيسة واستمر ألف عام أخرى، كانت مهمة الفلسفة خلالها أن تؤيد بالدليل العقلي ما سلمت به النفوس بالإيمان، فأصبحت الفلسفة تابعة للعقيدة، وانتظر العالم أن تنبعث الفلسفة من جديد.


  • القرون الوسطى

يعتبر البعض أن القرون الوسطى كانت مرحلة “تخمر دامت ألف سنة”، ففيها ظهرت الجامعات الأولى 1200، ووصلت المسيحية لجميع أنحاء أوربا، كما ظهر عدد من الفلاسفة مثل القديس أوغسطين (354 – 430م) الذي ولد بالجزائر وانتقل إلى قرطاجة قبل أن يحط رحاله في روما ويتبنى أفكار “الأفلاطونية الجديدة”. وقد حاول التوفيق بين العقل الفلسفي اليوناني والدين المسيحي، وأعجب برأي أفلاطون القائل بأنه يجب حرمان الجسد وعدم الاستجابة لغرائزه لكي تسمو الروح.

وكانت هذه الفكرة هي منطلق الرهبنة بالمسيحية فيما بعد، والتأكيد على أن السعادة غير ممكنة في الأرض. لكن أوغسطين انتقد أفكار الوحدانية عند أفلاطون بسبب مخالفتها قاعدة التثليث الكنسية. وعلى كل حال انتهى الأمر بأوغسطين ليصبح الرمز الفلسفي للمسيحية بالقرون الوسطى.

ومن هؤلاء الفلاسفة أيضا القديس توما الإكويني (1225-1274م) الذي ولد في شمال إيطاليا وتعلم في جامعة باريس، وتأثر بشكل أكبر بأرسطو. وحاول كليهما التوفيق بين الفلسفة الإغريقية والمسيحية وبين الإيمان من جانب والعقل والمعرفة من جانب آخر، أو كما يقال بين الكنيسة والمكتبة.  

وطوال القرون الوسطى كانت الكنيسة تهيمن على السلطة الزمنية، كما سيطرت على المجال الثقافي ووضعت محاكم التفتيش، ومع نهاية هذه القرون وفي لحظة ضيق مادي اخترعت الكنيسة “صكوك الغفران” باعتبار أن التجارة الوحيدة التي لا تنتهي هي الاستثمار في “ذنوب العباد”. فظهرت حركة احتجاجية تهدف لتحقيق الإصلاح الديني، قادها الراهب الألماني مارتن لوثر (1483- 1546) وسميت بالبروتستانتية (Protestantism) وهي مشتقة من لفظة احتجاج (protest).

في هذه الأثناء وتحديدا خلال القرن السادس الميلادي وعدة قرون بعده كان الإسلام قد سيطر على مناطق واسعة من العالم امتدت من حدود الصين إلى شبه الجزيرة الأيبيرية، فضم العرب المدينة الهللينية الهامة الإسكندرية، مما سمح لهم بالاطلاع على العلوم اليونانية. وطوال القرون الوسطى لعبوا دورا مهيمنا في مجال الرياضيات والكيمياء والفلك والطب والفلسفة ومجالات كثيرة أخرى.

وظهر علماء مثل الكندي وابن باجه وابن طفيل وابن رشد الذي درس فلسفة المشرق والفلسفة الأغريقية على السواء ليترك الأثر الأكبر على الفلسفة الأوروبية. أما فلسفة الاجتماع والعمران فمدينة أساسا للعرب لأن مؤسسها هو الفيلسوف ابن خلدون المعروف بمقدمته الشهيرة.

ومع نهاية القرون الوسطى وبالتحديد في أواخر القرن الـ14 التقى في شمال إيطاليا التيار الفكري القادم من عرب أسبانيا (حيث نقل علماء إيطاليون فلسفة أرسطو وبعض العلوم الطبيعية من العربية للغتهم)، مع التيار الإغريقي القادم من اليونان وبيزنطة، ليبزغ عصر جديد أطلق عليه عصر النهضة، وأصبح تعلم اليونانية القديمة موضة العصر، وبعثت فيه العلوم اليونانية القديمة من جديد فيما يمكن اعتباره “ولادة ثانية”.

وفي هذا التوقيت كانت مدن كبيرة قد نمت، بما تحتويه من أيد عاملة وفيرة، واقتصاد مبني على المصارف والنقد الحر، وأصبح بالإمكان شراء كل شيء بالمال مما تسبب في إتقان العمل وتطويره، فتشكلت طبقة رأسمالية بدأت تتحرر من الإقطاع وهيمنة الكنيسة، وصار للإنسان قيمة بعد أن كان يُنظر إليه باعتباره “خاطئا”. فظهر “الفكر الإنساني” الذي انتقم لنفسه بأن جعل الإنسان مركز الكون، وعاد الاهتمام بالتشريح ورسم الجسد العاري، وظهر مصطلح “إنسان النهضة”.

ومما تسبب في دخول أوروبا عصر النهضة اكتشاف الأمريكتين وتحول التجارة من البحر المتوسط إلى المحيط الأطلسي ما رفع شأن الشعوب الأطلنطية. كما انطلقت الصناعة والتجارة في ربوع غرب أوروبا، وظهرت حركة الإصلاح الديني، وهاجر الكثير من العلماء والمفكرين من القسطنطينية التي سيطر عليها العثمانيون إلى غرب أوروبا، وجاءت الطباعة بتأثيرها الواسع، ليبدأ عصر النهضة في القارة العجوز متأثرا بعلوم كوبرنكس وجاليليو ونيوتن، ومخترعات كالبوصلة والبارود والمجهر والمطبعة التي أفقدت الكنيسة احتكارها للمعرفة.

وكان أعلام الفن الإيطاليون في عصر النهضة لا يهتمون أبدا بالأخلاق أو الدين ما دامت الكنيسة اعترفت بعبقريتهم ودفعت لهم ثمن رسومهم على سقوف الكاتدرائيات. وأصبح العرف في إيطاليا ألا يتعرض رجال الثقافة إلى الكنيسة بسوء، إذ كيف يقسو إيطالي على كنيسة سادت العالم وجمعت الجزية والخراج من كل بلد لتجعل من إيطاليا معرضا للفن!! إن إيطاليا بلد ازدهرت فيها نهضة لكنها لم تعرف الإصلاح. إنها على استعداد لأن تضحي بنفسها من أجل الجمال، ولكنها تشك في وجود الحقيقة عندما تفكر بها، وقد يكون الإيطاليون أعقل منا جميعا!!

وفي القرن السابع عشر الذي يطلق عليه البعض اسم “عصر الباروك”، كانت أوربا متورطة في ثورة سياسية لا تقل عمقًا عن ثورتها العلمية والفكرية، وكان العنف مظهرًا بارزًا لتلك الثورة. حيث مزقت حرب الثلاثين عاما (1618-1648) أوروبا ودمرت ألمانيا وأحاطت بإيطاليا وإسبانيا، ووضعت فرنسا في موقع القوة الأوروبية الأولى، والتي كان ظاهرها حربا بين الكاثوليك والبروتوستانت بينما كانت في حقيقتها حربا سياسية لا دينية. وفى عام 1640 زلزلت ثورة البيوريتانيين (المتطهرين) إنجلترا. 

ومن هذه الزوابع ظهر صلح وستفاليا 1648 فنشأت الدولة ذات السيادة من التعددية الإقطاعية المعهودة، وسعى الجميع لإيجاد توافق ديني. كما أن أجواء الحزن والزهد التي سادت أوروبا تسببت في انتشار المسرح، وكتب بسببها شكسبير أهم مآسيه. 

كما ظهرت الأفكار المادية والآلية (التصور الميكانيكي للعالم) على نطاق واسع في هذا العصر، وذهب بعض الماديين إلى أن سيرورة الفكر بالنسبة للدماغ كالبول بالنسبة للكلى والصفراء للكبد. فالدماغ مجرد عضلات تتحرك لكنها تنتج فكرا بدلا من إنتاج المادة.

وقال هوبز إن جميع الكائنات بما فيها الإنسان مكونة من جزيئات مادية، حتى ضمير الإنسان أو روحه، فإنهما ينتجان عن حركة جزيئات دقيقة في الدماغ. وبدوره قال نيوتن إن الكون محكوم بقوانين فيزيائية واحدة، وصور العالم على أنه “آلة ضخمة”.

ورغم أن توماس هوبـز (1588 – 1679) ونيوتن لم يكونا ملحدين، إلا أن مثل هذه الأفكار ساهمت في تقويض الأفكار الدينية لمصلحة الأفكار المادية.


  • فرانسيس بيكون

وظهر علماء وفلاسفة من أمثال فرانسيس بيكون (1561 – 1626) الذي اهتم بالعلم التجريبي ووضع حدا للفلسفة المدرسية الجامدة. وعزا دوران الفلسفة والعلوم في مكانها لألفي عام إلى طرق البحث ذاتها. وقال إن الخطأ الذي وقع فيه فلاسفة اليونان هو أنهم صرفوا وقتا كبيرا في النواحي النظرية والقليل في الملاحظة والتجربة والبحث العلمي.

فالفكر يجب أن يكون مساعدا للملاحظة لا بديلا عنها. ولخص مشكلة الفلاسفة في أنهم كانوا يؤمنون بالرأي ثم يبحثون عن أدلة عليه لا العكس!! وكثيرا ما تحدثوا – عن جهل أو قلة ضمير – عن مسبب بلا سبب أو محرك بلا حركة، ونسجوا عالمهم الخاص الأقرب إلى المسرح منه إلى الحقيقة العلمية. باختصار كان “بيكون” يرى أن العالم لا يحتاج إلى أساليب جديدة للتفكير أو وسائل جديدة للفهم ما لم يخرج من قفص الاكتشافات القديمة إلى بحر العلوم والاكتشافات الجديدة.  

وكان بيكون يرى أن الفلسفة الحديثة تنقسم بين تيارين: الفرق بينهما مثل الفرق بين العنكبوت والنحلة، فالأول ينسج من داخله الخيوط ليشكل شبكته في الخارج، بينما الثانية تأخذ الرحيق من الخارج إلى داخلها لتخرجه في النهاية عسلا.

وكان هوبز أول فلاسفة العقد الاجتماعي سكرتير فرانسيس بيكون وتأثر به كثيرا، كما أنتجت المدرسة التجريبية الإنجليزية لنا جون لوك (1632 – 1704) وديفيد هيوم (1711 – 1776) وغيرهم. متأثرين بإسحاق نيوتن (1642 – 1727) الذي شغل منصب رئيس الجمعية الملكية، وتولى رئاسة دار سك العملة الملكية، وكان عضوًا في البرلمان الإنجليزي، وأستاذا للرياضيات في جامعة كامبريدج، كما أسس كتابه الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية، وأسس لحساب التفاضل والتكامل، وأزال آخر الشكوك حول صلاحية نظرية مركزية الشمس كنموذج للكون.

وافترض المذهب التجريبي أن العقل ليس سوى صفحة بيضاء تكتب عليها الحواس، وهو ما ينتج الذاكرة التي بدورها تنتج الأفكار.


  • ديكارت

وفي فرنسا المجاورة ظهر رينيه ديكارت (1596-1650) الذي ولد لأسرة من صغار النبلاء، وكان مغرما بالرياضيات، ووضع النواة الأولى للهندسة التحليلية، وعاش متنقلا بين فرنسا وهولندا وألمانيا. ومن أبرز كتبه: “مقال في المنهج” و “تأملات في الفلسفة الأولى”، وقد أطلق عليه البعض “أبو الفلسفة الحديثة”.

وعلى عكس بيكون ركز ديكارت على أسبقية الوعي وأن أساس المعرفة هو العقل وليس الحواس. وافتتح كتابه “مقال في المنهج” بجملة: “العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس”، فسُئل: إذا لماذا يختلف الناس في مقامات عقولهم؟ فقال: من إساءة استعماله. فالفلسفة الديكارتية تنتهي لأن تعتبر العقل جوهرا يحمل الحقيقة الفطرية المطلقة، وليس مجرد أداة.

وقد بنى ديكارت منهجه على أساسين، هما: البداهة التي تشير إلى  التصور الذي يتولد في النفس السليمة، والاستنباط، وهو العملية العقلية التي تنقلنا من الفكرة البديهية إلى نتيجة أخرى تصدر عنها بالضرورة.

ورغم الخلاف بين ديكارت وبيكون إلا أن كلاهما قال إن الغاية من العلم والمعرفة ينبغي أن تكون “تسييد الإنسان على الطبيعة”، بعدما كانت المعرفة لدى اليونانيين القدماء مغرقة في التنظير ومتعالية على المنفعة الحسية. كما أن ديكارت نقل مفهوم العقل من الدلالة الكونية لدى اليونانيين القدماء (حيث كانوا ينظرون للطبيعة ونجومها نظرة إيحائية تراها عقولا تعقل وتفكر)، إلى الدلالة الذاتية الإنسانية التي صارت محور الحداثة. 

وقال إن كل شيء يمكن أن يكون حلما أو خداعا، لكن التفكير نفسه لا يمكن أن يكون سوى تفكير، ومن هنا جاءت عبارته الشهيرة: أنا أشك إذا أنا أفكر إذا أنا موجود. 

وسبب التزامه بمنهج الشك هو أنه جاء في عصر مليء بالأساطير والخرافات الدينية والعلمية والفلسفية. والشك عند ديكارت مؤقت، هدفه هدم الماضي لبناء المستقبل على أسس علمية سليمة. وقال إن الشك يشمل كل شيء، لكن هناك ٣ يقينيات: النفس والله ووجود العالم.


  • سبينوزا

ومن علامات عصر النهضة أيضا باروخ سبينوزا اليهودي المولود عام 1632 في هولندا التي استقبلت عددا كبيرا من اليهود المهاجرين من الأندلس عقب طرد المسلمين منها، وكان كاهنا في الكنيس اليهودي قبل أن يطرد منه، وقال إن العالم ينقسم إلى جوهر (الله أو قوانين الطبيعة، فإرادة الله وقوانين الطبيعة شيء واحد عنده)، والعرض (وهو كل شيء مخلوق).  

واعتبر أن الأخلاق المثالية والمثل العليا تنقسم إلى ثلاث صور: الأولى هي المحبة التي دعا إليها بوذا والمسيح وتدعو للمساواة بين الناس وتميل في السياسة للمثالية المطقة، والثانية هي القوة والعنف والرجولة التي دعا إليها ميكيافيللي (ونيتشه فيما بعد) وتدعو لعدم المساواة بين الناس وتمجيد الحرب والحكم وتعظم الأرستقراطية الوراثية، والثالثة هي العقل الذي دعا إليه سقراط وأفلاطون وأرسطو حيث يجب أن يجمع نظام الحكم بين الأرستقراطية والديمقراطية.

وقد جاء سبينوزا ليجمع بين الفضائل الثلاث، فهو يؤكد على أهمية الأخلاق لكنه يرى أن العاطفة أو الأخلاق الطيبة هي التي تزيد من قوة الإنسان، ويؤكد في نفس الوقت أن الفهم هو الأساس الأول والأوحد للفضيلة، وأن العواطف أقوى من أي عقل، لذلك يجب مكافحة العواطف الهوجاء بالعواطف التي يدعمها العقل. وبعبارة أوضح، فإنه كلما تمكن العقل من تحويل ما فيه من العواطف إلى أفكار كلما صار أقوى.

وقد أصبحت فلسفة سبينوزا إحدى المنابع الأساسية لجدول الأفكار التي بلغت أوجها في روسو والثورة الفرنسية، وقد وضع سبينوزا فلسفته الديمقراطية في نفس العصر الذي كان فيه هوبز يمجد الملكية المطلقة في إنجلترا ويستنكر ثورة الشعب الإنجليزي. وذلك رغم أنه يتفق مع هوبز في كون الإنسان ليس خيرا بطبعه، لكنه تنازل عن جزء من قوته وعنفه مقابل تنازل الآخرين أيضا عن جزء من قوتهم وعنفهم.

فتنازله سمح لقوته بأن تعمل في مجال أوسع. وهكذا لا يجب أن تنزع الدولة حرية من مواطنيها إلا إذا أضافت مكانها حرية أوسع، فغاية الدولة ليست التسلط على الناس، ولكن تحرير كل المواطنين من الخوف والسماح لهم بالعمل في أمان، كي لا يبددوا قواهم في الكراهية والغضب والغدر. وقال إن وضع السلطة في يد رجل واحد يؤدي إلى العبودية لا السلام.

لقد حاول سبينوزا – كما فعل سقراط قبله – وضع نظام أخلاقي كامل يحث البشر على التمسك بالفضيلة دون إيمان بالغيب. لكن هذا النوع من النظم الأخلاقية صعبة التطبيق ظل خيالا في أذهان الفلاسفة.


  • فولتير

في صباح الأحد الأول من نوفمبر 1755 وقع في لشبونة زلزال قوي، تزامن مع الاحتفال بيوم كل القديسين، فانهارت الكنائس الغاصة بالمصلين. فرّ الناجون إلى الميدان الرئيس في المدينة، قرب البحر، فاجتاحهم تسونامي هادر أغرق أجزاء واسعة من المدينة. وفي نهاية اليوم المدمر، شبّت حرائق ظلت مشتعلة خمسة أيام، فأتت على ما خلفه الزلزال وتسونامي.

أثارت هذه الكارثة تساؤلاتٍ فلسفية ولاهوتية عميقة في أوروبا الكاثوليكية: كيف يعاقب المؤمنون القانتون من السماء وهم في بيوت الله، يتوسّلون ويجأرون بالدعاء؟ بالنسبة لرجال الدين لم تكن المعضلة كبيرة، فقد كتب جورج وايت عن “خرافات ووثنية” لشبونة الكاثوليكية، وانتقد انعدام الحرية الدينية فيها. أما اللاهوتي جون ويزلي فقد رأى في الزلزال عقوبة إلهية مستحقة على ما سفك من دماء في محاكم التفتيش. 

بين الفلاسفة، تصدّى فولتير لدعوى لايبنيتز اللاهوتية في روايته “كانديد” التي سخر فيها من صاحبها. أما جان جاك روسو فقد لام مخططي المدينة الذين بنوا المنازل المتلاصقة في ازدحامٍ غير مناسب، بينما ركّز إيمانويل كانط على النواحي العلمية فيما يتعلق بالزلازل ومصادرها. ورغم كل شيء فإن الزلزال زلزل الرؤية الدينية المهيمنة في أوروبا.

وانتقلت أوروبا من عصر النهضة إلى عصر التنوير في أواخر القرن الـ 17 وخلال القرن الـ 18 الذي تم فيه تقويض السلطة الملكية وسلطة الكنيسة، واندلعت الثورة الفرنسية، وكان فولتير  (1694- 1778) من أبرز رموز هذا العصر واشتهر بغزارة إنتاجه الفكري وبانتقاده الشديدة للسلطة الاجتماعية والكنسية المسلطة على الناس. وكان فولتير – كما يقول فكتور هوجو – يلخص القرن الـ 18. حيث ساهم في الانتقال السياسي والاقتصادي من النظام الإقطاعي إلى حكم البرجوازية، وربما كان نتيجة لهذا الانتقال.  

وعندما نُفي فولتير إلى إنجلترا بسبب آرائه، اكتشف مناخ الحرية الذي يعمل فيه المفكرون الإنجليز، بعد أن تمكن الشعب من فرض رأيه وإجراء إصلاحات دينة، وتدجين الملكة وفرض مجلس منتخب. وخلال إقامته بإنجلترا حضر فولتير جنازة نيوتن الذي أثر على العالم بقوانينه وآرائه في الفيزياء. وقد تأثر فولتير به كثيرا، وسطر كتابا عن فلسفته. كما ألف قاموسا في الفلسفة كان من أهم أعماله.

وخلال سنواته الثلاث في إنجلترا استوعب فولتير آداب الإنجليز وعلومهم وفلسفتهم ثم سبكها بنار الثقافة والروح الفرنسية، ودونها فيما أطلق عليه “رسائل عن الإنجليز” والتي أصبحت بلا قصد أو معرفة من فولتير نعيق الغراب الأول في الثورة الفرنسية، حيث طبعها أحد الناشرين ووزعها على نطاق واسع في فرنسا.

ورغم اشتهار فولتير بانتقاد رجال الدين، إلا أنه كان يكافح الخرافات لا الإيمان ذاته، وبنى في نهاية حياته كنيسة. وعندما سُئل: هل من الممكن لمجتمع من الملحدين أن يستمر؟ أجاب فولتير: “نعم، إذا كان أبناء هذا المجتمع كلهم من الفلاسفة. فلابد للبلد لكي يكون صالحا أن يكون له دين، فأنا أريد من زوجتي وخياطي ومحامي أن يؤمنوا بالله وبذلك يقل غشهم وسرقاتهم لي”.

وعندما تم التضييق على فولتير في فرنسا، انتقل إلى جوار فريدريك الأكبر – ملك بروسيا – الذي كان صديقًا مقربًا منه ومعجبًا بأدبه، ثم هرب من عنده بعد خلاف بينهما إلى ضيعته في جنيف جعل منها مزارا لمفكري القارة العجوز، ثم انتقل إلى باريس في نهاية حياته ليموت فيها عن 83 عاما. 


  • روسو

اختلف فولتير مع جان جاك روسو (1712-1778) عالم النبات المولود في جنيف وصاحب الأصل البروتستانتي وأحد فلاسفة العقد الاجتماعي المعاصرين لفولتير. حيث اعتقد الأخير أن التغيير يأتي من التثقيف والتعليم التدريجي بالوسائل السلمية، لكن روسو قال إن التغيير يأتي عن طريق العمل العاطفي الغريزي، وقد تكون الحقيقة بين هذين الرأيين، حيث أن الغريزة قادرة على القضاء على النظم القديمة، بينما العقل وحده هو القادر على بناء النظم الجديدة.

وقد وقف روسو – وحده تقريبا – يحارب المادية ويكافح الإلحاد الذي جاء به عصر التنوير، عندما أكد على تفوق الشعور والفطرة على العقل. لكنه في نفس الوقت كان يحارب خرافات رجال الدين، وضرب أفكارهم في مقتل عندما قال إن الإنسان خير بطبعه، في تناقض واضح مع عقائد مسيحية تتحدث عن الخطيئة الأولى وأن الإنسان يولد محملا بها.

ورغم أن روسو مات قبل اندلاع الثورة الفرنسية إلا أن كتابه “العقد الاجتماعي” الذي نُشر عام 1762، اعتبر على نطاق واسع “إنجيل” هذه الثورة. وفي الكتاب قال روسو: إن البشر تركوا الحالة الطبيعة البدائية لضرورات التعاون وتقسيم العمل والملكية الخاصة والاعتماد على مؤسسات القانون.

ويستطيع الأفراد الحفاظ على أنفسهم والبقاء أحرارًا من خلال الانضمام إلى المجتمع المدني عن طريق العقد الاجتماعي والتخلي عن مطالبهم بالحق الطبيعي، وذلك لأن الخضوع لسلطة الإرادة العامة للشعب ككل يضمن للأفراد عدم الخضوع لإرادة الآخرين ويضمن أيضًا طاعتهم لأنفسهم بشكل جماعي لأنهم هم من وضع القانون.

وعلى عكس علاقته بفولتير جمعت روسو بديفيد هيوم صداقة قوية (رغم الخلاف الكبير في أفكارهما) أدت لأن يصحبه معه إلى إنجلترا لينعم بنصيب من الحرية وقتها، لكن هذه الصداقة انتهت إلى خصومة، حيث ترك روسو إنجلترا ليعود إلى فرنسا ويموت فيها.

وقد كان روسو خاتمة عقد فلاسفة العقد الاجتماعي، حيث بدأت السلسة بتوماس هوبز الذي عاش في ظل اضطرابات سياسية كبيرة وعاصر الثورة الإنجليزية، فافترض أن البشر كانوا يعيشون “الحالة الطبيعية” وهي حالة حرب الكل ضد الكل حيث الإنسان فيها ذئب لأخيه الإنسان، لا أحد يأمن على نفسه أو ممتلكاته، لذلك قرر الناس أن يبرموا عقدا بين المواطنين من جهة وفردٍ ليس طرفا في العقد من جهة أخرى، وبمقتضى هذا العقد تنازل الناس عن كافة حقوقهم التي كانت لهم في حالة الطبيعة لذلك الشخص (الذي أصبح الملك)، دون أية التزامات عليه (لأنه ليس طرفا في العقد)، ولكن عليه واجب واحد هو تأمين المجتمع وتحقيق السلام. فمثلها كمثل رجل اشترى بكل ماله خزانة، ولم يتبق له شيء يضعه في تلك الخزانة! لذلك فإن الملكية المطلقة هي أفضل أشكال النظم السياسية طبقا لهوبز، وهو ما شرحه في كتابه “اللفياثان”. 

بعد هوبز جاء جون لوك (1632-1704) الملقب بـ”أبو الليبرالية”، فرفض السلطة المطلقة للملك، وقال إن حالة الطبيعة لم تكن سيئة بالكامل، فالناس كانوا فيها أحرارا سواسية يتمتعون بحقوق كاملة، لكنهم أرادوا الانتقال من هذه الحالة الطيبة إلى حالة أفضل فاجتمعوا وأبرموا عقدا بينهم من جهة، وأحدهم (الذي سيصير ملكا) من جهة أخرى، وبمقتضى هذا العقد تنازل الناس لحساب ذلك الشخص عن بعض حقوقهم الطبيعية في مقابل أن يلتزم بصيانة ما تبقى للناس من حقوق وحريات طبيعية وإلا حقت لهم الثورة عليه وخلعه. لذلك فإن شرعية السلطة عند لوك مرهونة بالتزام الحاكم بصيانة الحقوق والحريات الفردية. وقال إن السيادة للأمة وليست للملك، وأن البرلمان يمارس السيادة نيابة عن الأمة.

وأخيرا جاء روسو الذي وافق لوك في أن الحالة الطبيعة ليست سيئة، وقال إن العقد الاجتماعي يتنازل الناس بمقتضاه عن حقوقهم الطبيعية لصالح الكل أو الإرادة العامة (التي تتكون من مجموع إرادات الأفراد) فالسيادة للشعب أو الإرادة العامة التي لن تكون جائرة لأنه لا يتصور من الفرد أن يجور على نفسه. أما الحكومة أو البرلمان فهما ليسا صاحبي سيادة، ولا حتى ينوبان عن الشعب أو الإرادة العامة وإنما هما مجرد مندوبين (خادمين) عند الشعب صاحب السيادة.


  • آدم سميث

وبينما كانت أوروبا تشهد هذه الثورة الفكرية، كان الأسكتلندي آدم سميث (1723 – 1790)  يؤسس علم الاقتصاد الكلاسيكي، ويعلن ثورة اقتصادية عام 1776م عبر كتابه “بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم”، المعروف اختصارا بـ”ثروة الأمم”. وقد أثر الكتاب كثيرا في السياسة الاقتصادية لبريطانيا، رغم اصطدامه مع النزعة التجارية/الميركنتيلية السائدة حينها كتعبير اقتصادي عن الدولة القومية الصاعدة.

وقد تأثر سميث كثيرا بفلاسفة عصر الأنوار والتقى بعضهم خلال رحلاته لباريس وجنيف، ومرافقته للفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم. وعمل أستاذا للمنطق ثم لفلسفة الأخلاق ثم عميدا لجامعة غلاسكو، كما عمل لفترة ضابطا للجمارك وهو ما ساهم في تكوين رؤيته الاقتصادية.

وقد وضع سميث العديد من الفرضيات الجوهرية في الاقتصاد، فقال إنه يجب أن لا يتم مساواة الثروة بالنقد، معتبرا أنه من الخطأ اعتبار أن الثروة تكمن في مراكمة المعادن النفيسة،  وأن نموّ أمة لا يمكن أن يتحقق سوى على حسابِ أمة أخرى! ولكن يجب التركيز على خلق الثروة بدلا من تحصيلها فقط، وذلك عبر تشجيع الصادرات وتقليل الواردات. وأكد أن المصلحة الشخصية هي المحفز الأساسي للبشر، وأشار إلى أهمية التخصص وتوزيع العمل، كما أكد على أن الأسواق لديها آليات قادرة على ضبط نفسها من خلال التحكم في عمليات العرض والطلب وغيرها من العوامل، وهو ما أطلق عليه “اليد الخفية”.

ونبذ سميث الحمائية وأكد على أهمية التجارة الحرة بين الأمم، داعيا إلى أن تتخصص كل بلد في إنتاج سلع بعينها بأقل الأسعار على أن تستورد ما ينقصها من البلدان الأخرى (نظرية الميزة المطلقة). وقد ترك سميث خلفه إرثا هاما تأثر به العديد من كبار فلاسفة الاقتصاد أبرزهم ديفيد ريكاردو وجون ستيوارت ميل.


  • كانـــــــط

لم يشهد تاريخ الفكر فلسفة بلغت من السيادة والنفوذ في عصر من العصور ما بلغته فلسفة عمانويل كانط (1724 – 1804) في القرن الـ 19 الذي سمي بقرن الفلسفة. حتى قال عنه شوبنهاور: إن الإنسان يبقى طفلا في معرفته حتى يفهم كانط.

لقد جاء كانط بعد عصر التنوير حيث انتشرت الأفكار التي تركز على سيادة العقل. وقد غالى الباريسيون في تمجيده لدرجة دفعتهم إلى تجسيم “إلهة العقل” في شكل امرأة باريسية حسناء. وتمخضت بعض أفكار التنوير عن الإلحاد والنزعة المادية، حتى قيل إن الإله القديم سقط عن عرشه بسقوط أسرة البوربون عن عرش فرنسا. لكن الدين الذي كان قد تأصل بعمق في قلوب وحياة الشعوب لم يلبث أن نهض ليستجوب أهلية العقل الذي حكم عليه بالبطلان. وجاء كانط ووضع العقل موضع الاتهام وأخذ في الحكم عليه.

في هذه الأثناء جاء كتاب “نقد العقل المحض” لكانط ليحدث انقلابا لم يحدثه أي كتاب آخر في عالم الفلسفة. وافترض فيه أن العقل الخالص أو المحض هو المعرفة المجردة الفطرية التي لا تأتي عن طريق الحواس ولكنها معرفة مستقلة فطر عليها الإنسان.

حيث أن الحواس تقدم لنا المادة الخام والتي يدركها العقل ويحولها إلى معرفة عن طريق تشكيل العلاقات بينها مستخدما قانون السببية. فليس شرطا أن تأتي المعرفة عن طريق الحواس فقط، فالمعرفة الرياضية مثلا حقيقة وثابتة حتى قبل التجربة. وإلا كيف نفسر أن شخصين وصلتهما نفس المعلومات عن طريق الحواس، فأنتج أحدهما علما وحكمة، بينما لم يدرك الثاني إلا ظاهرهما فقط!

والعقل قبل كانط كان يتحدث عن غيره، فأصبح مع مؤسس مشروع “نقد العقل” يتحدث عن نفسه. فكانط كان يرى أن الفلسفة كانت تستعمل أداة العقل دون تحديد طبيعتها. 

ورغم أن كانط أنكر إمكانية الاستدلال على الميتافيزيقيا (والتي تبحث في: الله – الذات – الجوهر) عن طريق التجربة العملية أو عن طريق المنطق، إلا أنه أكد على أن الإنسان مفطور على حب الفضيلة والأخلاق الصالحة (التي بدونها لا يمكن بناء حضارة)، لكن الثواب على الخير والعقاب على ارتكاب الشرور لا يكون في الدنيا غالبا (بالعكس فقد تكون مصلحة الفرد المباشرة في ارتكاب أعمال غير أخلاقية)، لذلك فإن الإنسان مجبول على الاعتقاد بوجود حياة أخرى بعد الموت (الخلود)، وهو ما يعني بالضرورة أن الإنسان مفطور على الاعتقاد أو الشعور بوجود إله. وقد قال روسو إن “شعور القلب فوق منطق العقل”، وقال باسكال إن “للقلب أسبابا خاصة به لا يمكن أن يفهمها العقل”.  

وكان كانط يقول: إن الأخلاق تقود على نحو لابد منه إلى الدين، ولا يصبح الإنسان خلوقا لأنه متدين، ولكن يصبح الإنسان متدينا لأنه خلوق.

وبهذا أنقذ كانط الدين والعلم معا من المذهب التجريبي الذي تبناه بيكون ولوك وخاصة هيوم الذي كان يقدم التجربة والحس على كل شيء حتى مبدأ السببية نفسه.

الخلاصة أن هناك مدرستين فلسفيتين في النظر للمعرفة: الأولى (العقلانية) وأشهر فلاسفتها ديكارت وترى أن المعرفة يتم اكتسابها عن طريق التأمل النظري كما هو حال الرياضيات، لأن الحواس قد تخدع. والثانية (التجريبية) وترى أن المعرفة لا تكتسب إلا عن طريق التجربة واستخدام الحواس وأشهر فلاسفتها بيكون وهيوم ولوك. وجاء كانط فاتخذ مسارا وسطيا بين المدرستين.. وقال إن المعرفة تحتاج للاثنين معا، فالتجارب بدون مفاهيم عمياء، والمفاهيم بدون تجارب جوفاء.

فكانط يتفق مع ديكارت في وجود محتوى في العقل تنكره الفلسفة التجريبية، لكن كانط تخطى عقلانية ديكارت وتجريبية بيكون من خلال ثنائية مفاهيمية، فالعقل عند كانط ليس مجهزا بأفكار فطرية ولا هو صفحة بيضاء، بل يحتوي على مفاهيم (مقولات) قبلية متعالية على التجربة وسابقة لها، فهي التي تنظم تلك التجارب وتصنف معطياتها المتناثرة وتحولها لمعرفة كلية.

بمعنى أن العقل يعمل على ثلاثة مستويات: أولا هناك أمور حسية يستوعبها، وفي المستوى الثاني يتم فهم هذه الأمور، أما المستوى الثالث ففيه يتم تحويل ما تم فهمه إلى مبادئ عامة. فالعقل له علاقة مباشر بالفهم لكن علاقته بالتجربة غير مباشرة. فهو بذلك ذو طبيعة تركيبية.

ويرى كانط أن الفهم لديه اثني عشر مقولة ينظم من خلالها إدراك الوجود، ويمكن استنباط مبادئ العقل من تلك المقولات، وهي مقولات لا يمكن للعقل أن يتجاوزها. فالعقل الكانطي له مستويان: الفهم والعقل الخالص.

وقد فرح كانط كثيرا باندلاع الثورة الفرنسية، ودعا في كتابه “مقالة من أجل سلام دائم” إلى وقف الحروب، معتبرا أن الشعوب لن تتمدن حقا ما لم تعمل على تسريح الجيوش التي تستنزف مواردها.


  • هيجل

في هذه الأثناء كانت ألمانيا على موعد مع بزوغ نجم جديد في عالم الفلسفة، وهو فريدريك هيجل (1770-1831) الرجل المحافظ الذي ولد في شتوتغارت لوالد يعمل موظفا صغيرا في وزارة المالية. تأثر كثيرا بالحضارية اليونانية، وقال إن الأوروبيين أخذوا دينهم من الشرق لكنهم استمدوا علومهم وفنونه من اليونان.

وكان يقول إنه لا يمكننا التفكير في شيء إلا إذا قارناه بشيء آخر، فكل فكرة تؤدي بالضرورة إلى فكرة معارضة، ومع الوقت تنتج الفكرتان المتضادتان فكرة ثالثة تكون وسطا بينهما، وبدورها تنتج الفكرة الثالثة ضدها، وهكذا في جدلية مستمرة تؤدي إلى التطور والتقدم.

وقد وافقه صديقه الفيلسوف الألماني فيخته (الذي كانت فلسفته جسرا بين كانط وهيجل وكون ثلاثتهم أعمدة مدرسة الفلسفة المثالية) بقوله: إن الموضوع وضده واتحادهما معا يشكل سر التطور وكل الحقيقة. فمثلا الرأسمالية ضدها الشيوعية والتوحيد بينهما يؤدي إلى ظهور نظام ثالث أرقى، وهكذا فإن الصراع هو وسيلة النمو والتطور والرقي (الجدلية التاريخية).

وكان يقول إن الحياة لم توجد للسعادة ولكن لتحقيق الأعمال وإنجازها. والتاريخ حركة منطقية وهو في الغالب مجموعة من الثورات يستخدم فيها المطلق (الله) الشعوب والعباقرة كأدوات لتحقيق النمو والتطور (مكر التاريخ). وقال إن غاية التاريخ تحققت بالفعل في الدولة البروسية الحديثة (وهو ما كرره فوكوياما عندما تحدث عن نهاية التاريخ مع الليبرالية الرأسمالية).

وقد أكد هيجل على أن الوعي بالحرية وعيا تاما، لابد أن يسبق تحققها عمليا، فتاريخ العالم ليس إلا وصف لعملية تطور الوعي بالحرية. وهو ما خالفه ماركس الذي قال إن الأفكار ليست سوى انعكاس لعالم المادة.   

لقد كانت فلسفة هيجل غامضة لدرجة أنه قال: لم يفهمني سوى رجل واحد وحتى ذلك الرجل لم يفهمني جيدا. لذلك انقسم تلاميذه بعد وفاته إلى مدرستين متناقضتين، الأولى يمينية محافظة والثانية يسارية قادها كارل ماركس منتجا أفكار الجدلية المادية وصراع الطبقات.

وكان هيجل من الدعاة للمركزية الأوربية، ولديه استعلاء على الثقافات الأخرى.

وكما ألف فولتير قاموسا في الفلسفة، فإن هيجل ألف بدوره موسوعته الفلسفية، فيما لم تنشر كتبه ” المدخل إلى علم الجمال” و”فلسفة الدين” و”فلسفة التاريخ” إلا بعد وفاته بالكوليرا عام 1831.


  • شوبنهاور 

لقد طغت روح التشاؤم على الشعراء والموسيقيين والأدباء والفلاسفة في مطلع القرن الـ19، فقد اتحدت أوروبا ضد نابليون وهزمته في معركة واترلو، وتم القضاء على الثورة الفرنسية وعاد البوربون إلى عرش فرنسا، وعاد أمراء الإقطاع للمطالبة باسترجاع أراضيهم وانتشرت حركة رجعية راحت تعمل على قمع التقدم في كل مكان. وقد كان شوبنهاور تجسيدا لروح التشاؤم في ذلك الوقت، بل إنه فاق الجميع في هذا المضمار، حتى أنه قيل إن فولتير زرع أرض الثورة، وجاء شوبنهور لحصد هذه الأرض!

ولد شوبنهاور في ألمانيا عام 1788 لأب يعمل تاجرا، وأم روائية كانت علاقته بها سيئة، وهذا ربما أحد أسباب احتقاره للمرأة ونزوعه للتشاؤم. وقد كان يسخر من الحب والعالم وعاش بلا زوجة ولم يعترف بابنه غير الشرعي ولم يكن له صديق سوى كلبه، وكان ينام ومسدسه بجانبه. 

وفي العام 1844 ألف كتابه “العالم كإرادة وفكرة” غير أنه لم يلق قبولا كبيرا، في وقت كان الناس فيه في حاجة للطعام أكثر من القراءة، مما دفعه للقول: “إن كتابا مثل هذا أشبه بالمرآة، إذا نظر فيها حمار فلا ترجو أن يرى فيها ملاكا”. وقد كان الكتاب سهلا في أسلوبه وخلا من تعقيدات كتب كانط والتشويش في كتابات هيجل والمصطلحات الهندسية في مؤلفات سبينوزا. وكان يرى أنه من المستحيل فهم الميتافيزيقا عن طريق البحث في المادة أولا ثم الانتقال إلى الفكر بل يجب البدء من داخل النفس إلى العالم الخارجي.

وفي الكتاب قال إن مثل العقل والإرادة كمثل رجل أعمى قوي (الإرادة) يحمل رجلا أعرج مبصر (العقل)، أو كالدليل يوجه سيده، فالإنسان مسوق بإرادته لا بعقله. فإرادة الإنسان هي رغبة آمرة عاتية، ونحن لا نريد شيئا لأننا وجدنا أسبابا له، ولكننا نجد الأسباب لأننا نريد الشيء. لذلك يسمى شوبنهاور الإنسان بـ”الحيوان الميتافيزيقي”، فالحيوان يرغب بغير اللجوء إلى الميتافيزيقيا.

ويضيف شوبنهاور لشرح فكرته: لا شيء أكثر سخفا من محاولة إقناع إنسان عن طريق الأدلة والبراهين المنطقية، ثم يتضح لنا أخيرا أنه لم يفهم وسوف لن يفهم، وأننا ينبغي أن نخاطبه عن طريق إثارة ما يريد ويرغب، أي عن طريق إرادته. إن الذاكرة خادمة للإرادة (الرغبة) فنحن نخطئ في حساباتنا خطأ يكون في الأغلب لمصلحتنا أكثر مما نخطئ لمصلحة غيرنا. وقد يتمكن العقل من السيطرة على الإرادة (الرغبة) ولكن هذا أمر نادر الحدوث كما هو الحال مع العباقرة.


وإرادة الحياة وحفظ النسل من أقوى الإرادات (الرغبات)، فترى الحبة تحتفظ بالحياة داخلها آلاف السينين إلى أن تصادف الظروف الملائمة فتنموا شجرة تنبض بالحياة. ولذلك فإن العلاقة بين الجنسين هي النقطة المركزية الخفية لجميع الأعمال والسلوك، وهي سبب الحرب وغاية السلام وأساس الجد وهدف الهزل ومفتاح كل وهم وخداع. وقال إن الحب هو “خداع الجنس للفرد”.

إن إشباع الإرادة والرغبة يؤدي إلى الألم، وما إن يشبع الإنسان رغبته ويتخلص من الألم، فإنه ما يلبس أن يصيبه الممل والسأم، وتدفعه الإرادة إلى رغبة جديدة وبالتالي إلى مزيد من الألم. لذلك فإنه إذا أزيح عن صدورنا هم كبير يضغط عليها، حل مكانه على الفور هم آخر. لذلك فالحياة مأساة في جوهرها. وكان يقول: متى سنجد الشجاعة لتحدي الإرادة وإخبارها أن حب الحياة أكذوبة وأن الموت أعظم نعمة للناس!! 

وبينما كان شوبنهاور يسعى لمزاحمة هيجل في تدريس الفلسفة بجامعة برلين العريقة، ضربت الكوليرا العاصمة الألمانية عام 1831، ففرا منها، غير أن هيجل استعجل العودة لبرلين قبل تطهيرها تماما فمات مصابا بالمرض، أما شوبنهاور المشهور بتشاؤمه فلم يعد إلى برلين أبدا، وعاش في فرانكفورت حتى بلغ 72 عاما.


  • ماركـــس

كتب الفيلسوف وعالم الاجتماع والاقتصادي الألماني كارل ماركس (1818 – 1883) “البيان الشيوعي” وهو في الـ 29 من عمره، وشاركه فيه رفيق عمره إنجلز وهو في الـ27. وذلك عام 1848، وظهر للمرة الأولى، كراسا مستقلا بالألمانية في لندن. ويقال إنه أكثر الكتب التي طبعت في العالم بعد القرآن والإنجيل.

وتعد فكرة العدالة الاجتماعية مركزية في فكر ماركس الذي غادر ألمانيا وعاش في باريس وبروكسيل وأخيرا لندن التي نشر فيها أول مجلد من كتابه الشهير “رأس المال” عام 1867، وهو العمل الذي تناول بالتحليل والنقد العملية الإنتاجية الرأسمالية، وفصل نظريته عن فائض القيمة.

وقدم ماركس سرديته الخاصة، حيث يقول إن الاكتشافات الجغرافية وتنامي الاستعمار الأوروبي خلق طلبا أوسع على المنتجات وهو ما أدى لظهور المصانع الصغيرة (المنيفاتورة) بدلا من المشاغل البدائية، ثم تزايد الطلب، وبالتزامن مع ذلك ظهرت الآلات البخارية، فدخلت أوروبا في عصر التصنيع الواسع. وبذلك ازداد البرجوازيون ثراء، في حين ظل العمال يعانون الفقر.

كما بدأت البرجوازية شيئا فشيئا تحصل على حقوقها السياسية بعد أن كانت مقهورة تحت سيطرة الإقطاعيين. حتى سيطرت على السلطة السياسية كاملة في الدولة التمثيلية الحديثة، وأصبحت السلطة نفسها مجرد هيئة تدير المصالح المشتركة للطبقة البرجوازية.

وحاجة البرجوازية إلى تصريف دائم لمنتجاتها، متسع باستمرار، تسوقها إلى كل أرجاء الكرة الأرضية .فلا بد لها من أن تعشش في كل مكان، ومن أن تقيم علاقات في كل مكان. فالصناعات لم تعد تستعمل المواد الأولية المحلية، بل تجلبها من أقصى المناطق، كما أنها لا تستهلك منتجاتها في البلد المصنع فقط. .ومحل الاكتفاء الذاتي الإقليمي والقومي والانعزال القديم، تقوم علاقات شاملة في كل النواحي، وتقوم تبعية متبادلة شاملة بين الأمم.

وتواجه البرجوازية دائما أزمة فائض الإنتاج، وهو ما تتغلب عليه بطريقتين: أولها تدمير كتلة من القوى المنتجة بالعنف، وثانيها غزو أسواق جديدة.

ومع تزايد ضغط البرجوازية وتطور الآلات على العمال، تبدأ الطبقة العاملة في تأليف اتحادات نقابية بهدف النضال للحصول على حقوقهم. ومع تطور وسائل المواصلات تتحد طبقة العمال في مناطق واسعة. ومع اقتراب الصراع من نهايته ينضم جزء من البرجوازية إلى طبقة العمال التي تحمل المستقبل بين يديها. مثلما انتقل في الماضي قسم من النبلاء إلى البرجوازية.

لا سيما هذا القسم من الإيديولوجيين البرجوازيين، الذين ارتفعوا إلى مستوى من الفهم النظري لمجمل الحركة التاريخية. أما الطبقات الوسطى فتحارب البرجوازية للحفاظ على وجودها كطبقات وسطى، أما الطبقات الدنيا جدا أو (تحت البروليتارية) فإنها تنجر مع الطرف الرابح ولديها الاستعداد لبيع نفسها.

وعلى البروليتاريا أن تنسف البنى الفوقية (الفكرية والمفاهيمية) للطبقة الحاكمة، وتسمح بحكم الأغلبية بعيدا عن حكومات الأقلية. ومع أن نضال البروليتاريا ضد البرجوازية ليس قوميا في محتواه، فإنه يتخذ في البداية الشكل القومي، ولا حاجة إلى القول إن على البروليتاريا في كل بلد أن تتخلص من برجوازيتها الخاصة، حسب ماركس.

طالب بإلغاء الملكية الخاصة، كما طالب بإلغاء “العائلة البرجوازية” باعتبار أنها تعتمد على رأس المال والتملك الخاص. وقال إن في العائلة يستغل الآباء الأبناء، ويتحول الأبناء إلى مجرد سلع! وطالب بإحلال التربية الاجتماعية محل التربية البيتية.

يتبنى ماركس التفسير المادي للتاريخ، ويقول “ليس تاريخ كل مجتمع إلى يومنا هذا سوى تاريخ صراع الطبقات.” و”ليست الحكومة الحديثة سوى لجنة تدير الشؤون العامة للطبقة البرجوازية”،  فالتاريخ الإنساني عبارة عن حركة تطور في أدوات الإنتاج الاقتصادية، وكل نمط اقتصادي ينتج ترتيبا طبقيا خاصا بالمجتمع، ونمطا خاصا في التفكير. والتحول الذي يحدث في التاريخ ليس نتاج فكر وإنما تفاعل مادي في البنية الاقتصادية للمجتمع. فالماركسية تنظر للتاريخ – كما يقول ألتوسير – على أنه تاريخ بدون الذات الإنسانية. وتنقسم الفلسفة الماركسية إلى قسمين:

المادية الجدلية: المنهج ونظرية المعرفة الماركسية

المادية التاريخية: وفيها يتم تطبيق المادية الجدلية على التاريخ الإنساني

وقد قيد ماركس العقل بالبنى الاقتصادية (نقد للرأسمالية) . حيث اعتبر أن تفكير الإنسان يتأثر بموقعه الطبقي والبنى التحتية. وقال: ليس وعي الناس هو ما يحدد وجودهم الاجتماعي، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم.

ويقول مارك سكويسين: إذا كان عمل آدم سميث هو سفر تكوين الاقتصاد الحديث، فإن عمل ماركس هو سفر خروجه. وإذا كان الفيلسوف الإسكتلندي الخالق العظيم لـ”دعه يعمل دعه يمر”، فإن ماركس هو مدمرها العظيم! 


  • ماكس فيبر

وبالتزامن مع ماركس عاش في ألمانيا الفيلسوف وعالم الاجتماع ماكس فيبر (1864- 1920) الذي أنتج رؤية مناقضة تماما للماركسية في فهم التحول الرأسمالي. فإذا كان ماركس اهتم بتأثير الرأسمال الاقتصادي على الفكر، فإن فيبر اهتم بتأثير الرأسمال الثقافي في الاقتصاد.

فقدم كتاب “الأخلاق البروتستانتية ونشأة الرأسمالية”، وقال فيه إن بداية الرأسمالية كان في الدول البروتستانية، وأن الدين (وليس البنية الاقتصادية كما يقول ماركس) هو الذي صنع التحول التاريخي نحو الرأسمالية، وخاصة البروتستانتية الكالفينية، حيث ينص المذهب الكالفيني على أن رضا الله على الإنسان هو في أن ينجح اقتصاديا (بخلاف الكاثوليكية التي كانت تقدر الفقر). ودعت الكالفينية إلى فضيلتي العمل والادخار، وقد تكون رأس المال من العمل والادخار وبالتالي تحركت العملية الإنتاجية والتطور الاقتصادي فظهرت الرأسمالية.

فالمجتمع حسب فيبر هو نتاج معنى يتشربه الفاعلون الاجتماعيون ويتحركون به في الواقع، بعكس ماركس الذي قال إن المجتمع وظروفه الاقتصادية هي التي تنتج الأفكار والمعنى.

وفي كتابه “اقتصاد ومجتمع” حدد فيبر خصائص المجتمع الحداثي في مجموعة من السمات أبرزها: العقلنة والبيروقراطية. فيرى فيبر أن العقلنة أزالت عن العالم صبغته السحرية وحولته إلى مادة قابلة للإدراك والتنبؤ. وإذا كانت العقلنة تنظيما لفهم العالم، فإن البيروقراطية هي الآلية المنهجية لتنظيم الدولة الحداثية. وعلى هاتين الآليتين يتأسس المجتمع الحداثي.


  • أوجست كونت

بسبب إسراف هيجل وفخته وآخرين في الميتافيزيقا كان من الطبيعي أن يخرج من بين الفرنسيين الذين عرفوا بالشك من يؤسس الفلسفة الوضعية وهو “أوجست كونت” (1798- 1857). لكنه وبسبب تجربة عاطفية عاد ليمجد الشعور ويضعه في منزلة أسمى من العقل، وانتهى إلى أن العالم لا يمكن إنقاذه إلا بدين جديد يغذي في قلوب الناس محبة الغير ويقويها بتمجيد الإنسانية واتخاذها دينا وموضوعا للعبادة، واقترح تقويما جديدا استبدل فيه أسماء الآلهة الوثنية وقديسي العصور الوسطى بأبطال الرقي والتقدم الإنساني.  

و يمكن أن نطلق على كونت مؤسس علم الاجتماع الحديث، حيث يرى كونت أن الفكر البشري تطور على ثلاث مراحل: المرحلة اللاهوتية التي تعلل الظواهر بكائنات وقوى غيبية، والمرحلة الميتافيزيقية التي تعتمد على الإدراك المجرد، والمرحلة الوضعية التي تعتمد على الملاحظة والتجربة الحسية. ويعتبر كونت أن العلم الذي يتفق مع المرحلة الوضعية ويساعد على فهم الإنسان ويستوعب جميع العلوم التي سبقته هو “علم الاجتماع”. وكان كونت يقدم حقوق المجتمع على الحقوق الفردية، ويعتبر الأسرة هي الوسيط بين الفرد والوطن. 

وقد أخذت الثورة الصناعية في تنشيط العلوم وإنعاشها واهتز العالم عندما أصدر دارون كتابه “أصل الأنواع” عن التطور عام 1859، فبعد أن سادت الرياضيات على الفلسفة في القرن الـ17 وأنجبت للعالم ديكارت وهوبز وسبينوزا وبسكال، وكما أخذ التفسير النفسي يسطر الفلسفة في آراء بركلي وهيوم وكانط، فإن الأحياء مثلت في القرن الـ 19 عمود الآراء الفلسفية الفقري في آراء شوبنهور وسبنسر ونيتشه.


  • هربرت سبنسر

لم يتلق المفكر الإنجليزي هربرت سبنسر (1820 – 1903) تعليما يذكر طوال حياته، وعاش في عزلة حيث لم يكن متزوجا. ولم يكد يكمل قراءة كتاب، لكنه اعتمد على الملاحظة وحب الاستطلاع، وعمل في الإنشاءات الهندسية لمدة طويلة. فكان واقعيا أكثر من اللازم، وخلت أعماله من روح الفن وحماسة الشعر، وسادت لديه وجهة النظر الميكانيكية فكان بحق صدى لحركة التصنيع وانعكاسا لها.

لكنه كان يمتلك قدرة كبيرة على تبسيط الأفكار المعقدة مما جعل كتبه ذات شعبية كبيرة. وقد ساهم بقوة في تطوير علم الاجتماع بدرجة فاقت أوجست كونت نفسه.

لقد قرر سبنسر تطبيق نظرية التطور على كل العلوم، وأكد على مفهوم الارتقاء وكان هو، وليس داروين، صاحب مصطلح “البقاء للأصلح”، ليساهم في وضع أسس ما عرف لاحقا بـ”الدارونية الاجتماعية”. كما اعتبر أن المجتمع كائن عضوي له أعضاء للتغذية ودورة دموية ويتناسل مثل الأفراد تماما. وأكد أن نظامه الاجتماعي والاقتصادي وحتى دينه يتطور، كما أن العلاقة بين المجتمعات نفسها تتطور وترتقي مع الوقت. واعتبر أن أي قانون أخلاقي لا يتماشى مع الانتخاب الطبيعي مصيره الفشل.  

لكنه توصل إلى أن التطور لا يستمر إلى الأبد، حيث تظهر قوى تقاومه وتؤدي إلى التشتت والانحلال، ثم يتبعها دورة أخرى من التشتت، تنتهي بدورها للانحلال، وهكذا.

وقال سبنسر إن المجتمع العسكري يعتقد أن وجود الأفراد من أجل منفعة الدولة، أما المجتمع الصناعي فيعتقد بوجود الدولة من أجل منفعة الأفراد. كما اعتبر أن الاشتراكية ستؤدي إلى جماعة بشرية من النحل والنمل تنتج نظاما من الاستعباد أسوأ من الوضع الحالي. وإن كان في نهاية حياته تعاطف مع الحركات العمالية.


  • توماس مالتوس

وعاصر سبنسر الاقتصادي الإنجليزي توماس مالتوس (1766 – 1834) الذي كان صديقا شخصيا لدافيد هيوم والتقى جان جاك روسو.

واشتهر مالتوس بنظرياته المؤثرة حول التكاثر السكاني، حيث اعتقد أن السكان والموارد الغذائية لا يتزايدان بنفس المعدل، حيث يزيد السكان بمتوالية هندسية في حين تزداد المواد الغذائية بمتوالية عددية. ويؤدي هذا الاختلال إلى ضرورة تدخل عوامل خارجية من شأنها إعادة التوازن مثل الحروب والمجاعات والأوبئة. وقد اتخذت النظرية مبررا لعمليات إبادة جماعية، وانتهاكات حقوقية كإجراءات التعقيم القسري التي خضعت لها شعوب وجماعات مثل السود والهنود في أمريكا.


  • فردريك نيتشه 

كان والد نيتشه (1844-1900) قسيسا ومربيا لأفراد في الأسرة المالكة، وكان أجداده رجال دين. فنشأ تقيا يكره ارتكاب الخطايا، وقضى حياته في البحث عن الوسائل الجسدية والعقلية التي تقوي نفسه وتعزز مثاليته. كما كان مرهف الحس لدرجة أن أقرانه في المدرسة كانوا يطلقون عليه لقب “القسيس الصغير”. لكنه فقد إيمانه عندما بلغ الـ18، واستبدل الإله القديم بآخر جديد وجده في السوبرمان أو “الإنسان الأعلى”. وقبل أن يبلغ الـ25 عاما حصل على الدكتوراة في الفلسفة، وعين أستاذا في الجامعة.

تم تسريحه بعد فترة تجنيد قصيرة في الجيش الألماني بسبب إصابة بليغة، لكن هذه الفترة كانت كافية لتترك في نفسه أثرا كبيرا جعله يقدس العسكرية بما فيها من انضباط وحسم، وربما كان أحد أسباب تقديسها أنه لم يتمكن من الاستمرار فيها بسبب حالته الصحية. لكن بعد اندلاع الحرب بين ألمانيا وفرنسا أخذه الحماس فتطوع في الجيش بمجال التمريض. وقد أثرت عليه مشاهد الجرحى فوقع مريضا وعاد إلى بلدته محطما، ومنذ ذلك الوقت كانت له روح فتاة مرتدية درع المحارب!

تأثر نيتشه بأفكار دارون فاعتبر أن الحياة نزاع والبقاء فيها للأصلح، فالقوة هي الفضيلة الأساسية والضعف هو النقيصة الوحيدة. وما نحتاج إليه في الحياة هو القوة لا العدالة، والكبرياء لا الخضوع، والذكاء الحازم لا حب الغير ومساعدة الناس. وانتقد المساواة والديمقراطية لأنها مناقضة لنظرية الانتخاب الطبيعي.

وكما هو حال شوبنهاور آمن نيتشه بالإرادة، لكنها إرادة القوة هذه المرة وليست إرادة الحياة. واعتبر أن هناك نوعان متقابلان من الأخلاق: الأول “إرادة القوة” شريف روماني وثني إقطاعي أرستقراطي، والثاني “الضمير” يهودي مسيحي برجوازي ديمقراطي اشتراكي يمجد الشفقة. ويقول إن أخلاق عامة الشعب لو انتقلت إلى الزعماء والقادة الأقوياء فسيؤدي ذلك للانحلال والفساد.

وأن الأخلاق الشريرة التي يتسم بها الأقوياء ضرورية للمجتمع كالفضائل الخيرة التي يتصف بها الضعفاء. وأن الشره والحسد والكراهية أمور لابد منها في انتقاء الأفضل وبقاء الأصلح.  وهو هنا يخالف ماركس، فنيتشه يرى أن الأخلاق من اختراع الضعفاء ليحدوا بها من تغول الأقوياء عليهم، بينما يرى ماركس أن الأخلاق من اختراع الأقوياء ليدجنوا الضعفاء والمجتمع بشكل عام.

لذلك فإن هدف الإنسانية هو الوصول إلى “الإنسان الأعلى” وليس مصلحة المجموع. فيجب العمل على تحسين النسل من خلال التدخل في عملية التزاوج بحيث لا يتزوج العباقرة من البسطاء. كما يجب الاهتمام بتربية الأطفال بطريقة قاسية وحازمة، بحيث يترفع الإنسان عن الخير والشر ولا يتردد في اللجوء للعنف في سبيل الوصول إلى غايته، فيكون شجاعا لا صالحا، لأن الخير هو كل ما يزيد القوة. وقد أجمل فلسفته في قوله “عيشوا في خطر”.  

ولا ندري ما إذا كان نيتشه تأثر بسمارك الذي وحد الدويلات الألمانية قبل أن يجتاح دولا مجاورة، تجسيدا لأفكار نيتشه عندما قال: “لا مكان لمحبة الغير عند الأمم، والقضايا الحديثة في الدول لا ينبغي أن تقررها أصوات الناخبين وبلاغة الخطب، ولكن يقررها الحديد والدم”، أم أن قوة ألمانيا العسكرية والصناعية المتزايدة كانت تحتاج إلى صوت نيتشه للتعبير عن مشيئة الحرب وتبرير القتال لأن المسيحية المسالمة لن تصلح لذلك. كما أن أفكار نيتشه قريبة مما قاله أفلاطون، وكان بحق أهم من حول الأرستقراطية إلى فلسفة.

لقد اعتبر نيتشه أن الفلاسفة الذين سبقوه عملوا على محاربة اللاهوت، لكنهم لم يجرؤ على إزالة الأساس اللاهوتي الذي بُنيت عليه الأخلاق، فبالنسبة له كل الأخلاق والفلسفات الأوروبية الحديثة منقولة عن المسيحية ومتطورة عنها كما وضح في كتابه “أصل الأخلاق”. فالأخلاق عند نيتشه مجرد مفاهيم اجتماعية ينتجها القطيع ضد الفرد، تحارب تميزه وتكبح غرائزه الطبيعية.

وقال نيتشه إن ألمانيا بقوتها التنظيمية لو تعاونت مع روسيا (وحش أوروبا الأشقر) التي تمتلك الرجال والثروات ومع اليهود أصحاب البراعة المالية فقد تتمكن من سيادة العالم. واعتبر أن الثقافة الفرنسية هي سبب سمو الذوق الأوروبي، لكن الثورة الفرنسية جاءت لتحطم الأرستقراطية ومعها دعائم الثقافة. أما أسوأ شعوب – في رأييه – أوروبا فهم الإنجليز الذين “أفسدوا” العقل بأوهام الديمقراطية.

وقد انتقد بشدة أفكار المساواة بين الرجال والنساء. وقال إن الحرب أفضل علاج للشعوب التي دب فيها الضعف والخسة. وكان يقدر نابليون كثيرا، ويعتبر أن الجندي في مرتبة أقل من الأرستقراطي وأعلى من البرجوازي.

في العام 1883 كتب في جبال الألب كتابه الأشهر “هكذا تكلم زرادشت” ليؤكد فيه على نهاية الميتافيزيقا والروحانية وأخلاق الرحمة، مستخدما– ويا للغرابة – لسان “زرادشت” المنظر الأول لنقيضها، والذي هو عنده أستاذ المسيح نفسه!!

وقد قضى نيتشه جانبا كبيرا من حياته في التنقل عبر البلدان الأوروبية، قبل أن تنهار قواه العقلية عام 1889م، ويقضي ما تبقى من حياته في مستشفى للمجانين حتى وفاته عام 1900م. 


  • الفلاسفة المعاصرون

من الممكن أن يٌكتب تاريخ الفلسفة الحديث على أنه صراع بين علم النفس والعلوم الطبيعية، فقد يحاول الفكر أن يدخل العقل في دائرة المظاهر المادية والقوانين الميكانيكية، أو يبدأ بنفسه فيتصور أن جميع الأشياء من خلق العقل وإنشائه. ولأن أوروبا توسعت في التصنيع فإن الفكر اتجه إلى المادية أكثر من المثالية. لكن الماديون فشلوا في تفسير أصل الحياة، بعدما قلل باستور (عالم الأحياء) من أهمية الاعتقاد بتوليد الحياة من المادة غير الحية الذي استمرت مائة عام معتمدا على نظرية “التوالد التلقائي”.

وجاء الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون الذي ولد في باريس عام 1859 لأبوين يهوديين، وانتقد التوجه المادي البحت، وأكد على أهمية البصيرة والغريزة الإنسانية، وفي عام 1907 أصبح أكثر الفلاسفة شعبية في العالم بعد تأليف كتاب “التطور المبدع” والذي تبنى فيه فكرة التطور لكنه تطور لا يستند إلى عملية بيولوجية فقط، ولكن أيضا إلى قوة كامنة في المادة هي الرغبة في الحياة. 

لقد كان موقف برجسون من دارون مثل موقف كانط من فولتير، فكما كافح كانط موجة الإلحاد الكامنة في المذهب العقلي لبيكون وديكارت وهيوم وفولتير (عبر إعلان قصور العقل)، فإن برجسون صد هجمات دارون وسبنسر على الإيمان، لكن ليس بنقد العقل كما فعل كانط ولا بالجدل المثالي الذي يقول إن المادة لا تُعرف إلا عن طريق العقل، ولكن بالقول بوجود عنصر حيوي مبدع نشيط يفسر كل ألغاز الحياة.

أما إيطاليا فظلت محتفظة بولائها للإيمان القديم، لكن بنديتو كروتشي (1866- 1952) شذ عن القاعدة، فقد كان ملحدا، وتأثر كثيرا بماركس، غير أنه لم يقر بتفسير التاريخ على أساس اقتصادي محض، وقال إنه استسلام لإيحاء البيئة الصناعية، معتبرا أن العقل لا المادة هو الحقيقة الأولى والأخيرة كما رأى هيجل. 

وقد قدم كروتشي الجمال على العلم والميتافيزيقا، معتبرا أن العلوم تباعد بين الإنسان والحقيقة، بعكس الفن الذي ينمي الخيال ويصوغ الأفكار في قوالب ويسعى للجمال. وقد يعتقد البعض أن لديه نفس أفكار وتصورات شكسبير مثلا، غير أنه لا يملك بلاغته ليعبر عنها، وهذا وهم بحسب كروتشي.

أما برتراند راسل (1872- 1970) فقد ولد لأسرة أرستقراطية بريطانية، ودرس الرياضيات التي قادته إلى اللا أدرية والشك. وعندما فصلته جامعة كمبردج بسبب سياسته السلمية المخالفة لسياسة بريطانيا، أخذ يطوف العالم لينشر أفكاره، وعارض الحرب العالمية الأولى فنظر إليه البريطانيون كخائن.

كان راسل صاحب نزعة شيوعية، واعتبر أن الداء هو الملكية الخاصة، والدولة التي تحمي الملكية شر عظيم، لكنه غير الكثير من آرائه عندما ذهب لروسيا عقب الثورة البلشفية. واعتبر راسل أن الخوف هو الذي يدفع البشر للتكتل والعيش في مجتمعات، وأن الحروب أحد أسباب التكاتف البشري، لذلك لا يمكن أن يعيش العالم تحت حكومة ودولة واحدة، لعدم وجود دافع للترابط.

لقد كان راسل باحثا عن الكمال، فطالب باحترام الفن أكثر من الثروة، ودعا للتسامح الذي لا يجعل من نمو فرد أو جماعة ما يكون على حساب الآخرين، فجاءت أفكاره كقصائد شعرية للتخفيف من أعباء العالم أكثر من كونها محاولة عملية للاقتراب من مشاكل الحياة. فالإبداع ليس إلا زهرة تنمو وتترعرع في تربة الثروة والمال.

وفي الولايات المتحدة قال الفيلسوف الأمريكي من أصل أسباني جورج سنتيانا إن الفروق بين الحكومات الأرستقراطية والديمقراطية ليس كبيرا، فلكل مزاياه وعيوبه، لذلك الأفضل هي الحكومة “التيموقراطية” التي تجمع بينهما. بحيث تكون المنافسة بين أصحاب الكفاءة، مهما حصل الضعفاء على أصوات في الانتخابات. فهو بذلك يتحدث بلسان أفلاطون. 

وقال سنتيانا إن الألعاب الرياضية قد تشكل مخرجا لروح المنافسة بين الجماعات (بدلا من الحروب).

ويقول الفيلسوف الأمريكي جون ديوي: لقد بولغ كثيرا في دور الغريزة ولم يوجه الاهتمام إلى التنشئة والتربية الأولى، فقد تم تعديل غرائز كالجنس وحب النزاع والسيطرة عن طريق التدريب والتعليم، لذلك يمكن أن يتم السيطرة على غرائز أخرى كحب الامتلاك والسيادة عن طريق التأثير الاجتماع والتعليم. فيجب أن نغير أفكارنا بشأن ثبات الطبيعة البشرية وقوة البيئة القادرة على كل شيء إذ لا حدود للنمو والتغيير.


  • سيجموند فرويد 

ولد فرويد (1856-1939) في فيينا ودرس فيها الطب، وتحديدا علم الأعصاب بغرض فهم السلوك الإنساني، فاكتشف عجز التشخيص العضوي لأغلب الأمراض النفسية.

كان تاريخ علم النفس في معظمه يقسم النفس إلى عقل ووجدان، وكان أفلاطون يقسم قوى النفس إلى: قوة عاقلة وقوة عضلية والقوة الغريزية، وقال إن فضيلة الإنسان تكمن في سيطرة القوة العاقلة على القوتين الأخريين. وكذلك كان مسار الفلسفة الكلاسيكية في معظمه يرفع من شأن العقل. أما فرويد فقسم الحياة البشرية إلى حياة نفسية واعية وحياة نفسية لا واعية “اللاشعور”.

وقال إن لكل شخص جانب غير ظاهر في شخصيته، يتم تشكيله بواسطة بعض الغرائز والتصوّرات والمشاعر والرغبات غير المتحققة والخبرات التي تنشأ لدى الفرد دون إدراك منه، ويختزنها عقله الباطن أو اللاوعي، وتكون هذه المساحة هي المسؤولة لحظات الإبداع والعُنف غير المُبرر والانفعال الزائد، ولا تلبث إلا أن تُعلن عن نفسها باستمرار حتى في المواقف العابرة اليومية وزلات اللسان.

فإذا كانت الحداثة الغربية قد انطلقت من الشك في كل شيء إثباتا للأنا الواعية مع ديكارت، فإن فرويد وجّه ضربتين لهذه الأنا عبر تأكيده على الدور الهام للاوعي أو اللاشعور، وأيضا عبر تأكيده على أثر الغرائز الحيوانية على حياة الإنسان.

وكان فرويد يقول: الكبرياء البشري ضُرب في تاريخ العلم ثلاث مرات: مع كوبرنيكس الذي قال للإنسان إن الأرض التي تعيش عليها ليست مركز الكون كما كان يعتقد. ومع دارون الذي قال له إنه مجرد درجة من درجات تطور الحيوان وليس كائنا مستقلا بذاته. والثالثة معي أنا عندما كشفت أن عقل الإنسان الذي يفخر به ليس منتج الحقيقة والمعنى لوحده، وكشفت أن العقل ليس إلا جزءا من عشرة أجزاء من النفس البشرية، والتسعة أعشار الأخرى تتعلق باللاشعور، وهي تؤثر حتى في جزء العقل. وقال إن العقل لا يمثل إلا ما يظهر من جبل الجليد، بينما الجزء الأكبر غير الظاهر هو اللاشعور.

وقسم فرويد النفس البشرية إلى: الهو، والأنا، والأنا الأعلى. فالهو تدعو الإنسان لتلبية غرائزه، والأنا هي شخصية الشخص في أكثر حالاتها اعتدالا وعقلانية، والأنا الأعلى هي القيم المجتمعية والضمير. فمثلا عندما يشعر شخص بالجوع، فإن ما تفرضه عليه غريزة البقاء (الهو) أن يأكل حتى لو كان الطعام نيئاً أو برياً، بينما ترفض قيم المجتمع والأخلاق (الأنا العليا) هذا التصرف، أما الأنا فتقبل إشباع تلك الحاجة ولكن بطريقة متحضرة بحيث يكون الأكل نظيفاً ومطهواً.

وتحدث فرويد عن عقدتي أوديب وإلكترا، مشيرا إلى التعلق الجنسي اللاواعي للفتاة بأبيها وغيرتها من أمها، وتعلق الفتى الجنسي اللاواعي بأمه وغيرته من أبيه.

وتشير أسطورة أوديب الإغريقية، إلى أن العراف قال لملك طيبة آنذاك إنه سيقتل بيد ابنه، فلما ولدت زوجته أوديب أمر بأن يُرمى من فوق الجبل.  لكنه عاش وأخذه رعاة، وبعد أن كبر عاد لمدينته وقتل أباه وتزوج الملكة أمه (دون أن يعرف) وأنجب منها طفلة. ثم جاء عراف وأبلغه بالحقيقة، وعندما عرفت زوجته (التي هي أمه الحقيقة) قتلت نفسها، أما أوديب ففقأ عينيه وغادر المدينة مع ابنته التي ولدتها أمه وعاش بقية حياته بائسا. 

أما عقدة إلكترا فمشتقة من الأسطورة الإغريقية لإلكترا وأخيها أوريستيس، حيث أرادت من أخيها أن يثأر لموت أبيها أغاميمنون بقتل أمّهما كليتمنسترا، وذلك لأنّها شاركت في قتله.

يقول البعض إن فرويد لم يستلهم فكرة التعلق الجنسي بين الأبناء وأمهاتهم والبنات وآبائهم من التراث اليوناني (أوديب وإلكترا) فقط، ولكن أيضا من القصة المزعومة للوط وابنتيه في العهد القديم.

ورغم ذلك قال فرويد إن كبت الرغبات الجنسية هو الذي يصنع الحضارة، وأن إطلاق الإنسان لغرائزه الجنسية يضر بالحضارة.

وبعد أن شهد النصف الأول من القرن العشرين حربين عالميتين وصعود النازية والفاشية والاستالينية، ووقوع العالم في كساد اقتصادي كبير، ظهر الشك في العقلانية التي تغنت بها الحداثة، وفي هذه الظروف وجدت أفكار فرويد صدى كبيرا في أرجاء العالم.


  • هيدجر

مارتن هيدجر (1889- 1976) ولد جنوب ألمانيا، ودرس في جامعة فرايبورغ قبل أن يترأسها، وانضم للحزب النازي، وكان أحد ملهميه، بل وأحد ملهمي اليمين المتطرف بعد ذلك. حيث أعلى من شأن الهوية العرقية التي توحد الشعب على قاعدة الروح القومية المشتركة.

وهو أحد فلاسفة ما بعد الحداثة، حيث أسقط العقل من مقام التأليه، ووضع مكانه اللغة. وقال: في الواقع نحن لا نتكلم اللغة، بل اللغة تتكلمنا! بمعنى أنها تصنعنا وتشكلنا. وكان الفيلسوف الوجودي سارتر (1905-1980) أول من تلقى هذه الفلسفة في فرنسا وأعطاها شهرة واسعة. 

الفلسفة الوجودية تقول إن جميع الكائنات تسبق ماهيتها وجودها إلا الإنسان يسبق وجوده ماهيته، والمعنى أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يصنع وجوده. فمثلا عندما يولد الأسد لا نسأل ماذا سيكون في المستقبل، لأنه لن يكون إلا أسدا. بينما الإنسان يولد أولا ثم يصنع هو بنفسه ماهيته وما سيكون عليه. لذلك هي فلسفة ذاتية.


  • كارل شميت 

وخلال تلك الفترة شهدت ألمانيا فيلسوفا مهما آخر، ساند النازية أيضا، هو كارل شميت (1888 – 1985). حصل على شهادة الدكتوراه في نظرية الدولة، ودرس في جامعة برلين، وانتقد جمهورية فايمار التي تأسست بين الحربين العالميتين في ألمانيا، ونظامها الدستوري الليبرالي الذي رأى فيه إضعافا لسلطة الدولة.

وهو صاحب مقالة «اللاهوت السياسي» التي أكد خلالها أن الدولة القومية تمثل الغاية أو الدين أو حتى الإله، حيث يحل الدستور محل الكتاب المقدس، ويمثل الجندي المجهول معنى الشهادة، ويحل العلم محل الشعار الديني، والنشيد الوطني محل الأناشيد أو الترانيم، كما استبدلت أخوة الدين بالمواطنة، وحلت قراءة الصحيفة محل صلاة الصبح، والذهاب للعاصمة محل الحج.

كما تحدث كارل شميت عن فكرة “النطاق المركزي” التي تحكم كل عصر، فبينما كان النطاق المركزي في عصر الدين التقليدي هو التنشئة الأخلاقية، تحول في عصر التنوير إلى استبدال الأخلاق العرفية والتقليدية وكل الأديان بأخلاق نقدية وعقلانية، وأخيرا أصبح النطاق المركزي للحداثة الأوروبية هو التقدم التقني، حيث بشرت ما أسماها بـ”ديانة التقدم التقني” بحل جميع المشكلات.


  • مدرسة فرانكفورت

وفي مقابل شميت وهيدجر وتحديدا في عشرينيات القرن الماضي نشأت مدرسة “النظرية النقدية الاجتماعية” أو “مدرسة فرانكفورت” بألمانيا، التي سعت إلى دمج أفكار كارل ماركس و سيجموند فرويد، حيث حاولت صنع توليفة من الأبنية المفاهيمية للمادية التاريخية والتحليل النفسي.

فلم تركز فقط على العوامل المادية، ولكن اهتمت أيضا بالثقافة والأفكار. وحاولت الإجابة على سؤال: لماذا يستمر النظام الرأسمالي رغم ما بشر به ماركس من تطور من الإقطاع إلى البرجوازية والرأسمالية ثم الاشتراكية ثم الشيوعية. وترى أن وسائل الإعلام ساهمت في تدعيم السلطات الحاكمة وإقناع الجماهير بالرضا بالواقع وعدم مواصلة عملية التغيير. وقد انتقد البعض مدرسة فرانكفورت وقالوا إنها “ماركسية بدون بلوريتاريا”.

 وبعد وصول الحزب النازي إلى الحكم أغلق المعهد عام 1938، بسبب طبيعة أفكاره بالإضافة لكون كثير من أعضاء مدرسة فرانكفورت من أصول يهودية. فانتقل المعهد إلى جنيف ثم لباريس وأخيرا إلى نيويورك.

ومن أبرز فلاسفـة المعهد تيودور أدورنـو (1903-1969)، وماكس هوركهايمر (1895-1973) اللذان اشتركا في تأليف كتاب “جدل التنوير”، واهتما بتقـديم فلسفـة غير تقليدية، لا تهتم بـالاتجاهـات النظريـة في تاريخ الفكر، قدر اهتمامها بالبنية العامة للمجتمع كما تنعكس في العقل. ودعا أدورنو لأن يمارس المثقف أو الفيلسـوف دوره التاريخي في نقد “الاقتصاد السياسي”، وبذلك يتم تجاوز الفلسفـة التقليـدية التي كـانت غير مهتمة بالممارسة السياسية.

ومن رموزها أيضا يوغن هابرماس واعتبره وزير الخارجية الألماني الأسبق يوشكا فيشر “فيلسوف الجمهورية الألمانية الجديدة”. وقد ابتكر هابرماس الذي ابتكر مفهوم “الفضاء العمومي” أو “المجال العام” وقال أنه لم يعد بمقدور الفلسفة ادعاء الشمولية أو التأسيس (هيغل – كانط)؛ بل هي ملزمة بأن تنخرط في هموم المجتمع. فقد سعى هابرماس إلى تأسيس عقلانية تواصلية لا صلة لها بالميتافيزيقا، فكانت الفكرة المحورية لمشروعه هي تأسيس الديمقراطية على أساس جماعة متواصلة خالية من أية هيمنة عدا هيمنة “أفضل حجة”. وقال إن الحداثة “مشروع لم يكتمل”، منتقدا الحديث عما بعد الحداثة.


  • خاتمة

وفي الختام لم أجد نهاية أفضل من فقرة ختم بها ول ديورنت كتابه “قصة الفلسفة” متسائلا: متى تتعلم الفلسفة أن تترك للدين تلك المسائل المحيرة حول الحياة الأخرى (الأنطولوجيا)، وتترك لعلم النفس مشاكل عملية المعرفة ومصاعبها (الأبستمولوجيا)، وتتفرغ هي لتصوير الأهداف الإنسانية وتنسيق حياة البشر والنهوض بها (الأكسيولوجيا)؟ لقد فرت العلوم الواحد تلو الآخر من الفلسفة إلى عالم الإنتاج، وبقيت الفلسفة كأم نضبت حيويتها وهجرها أبناؤها!

  ____________________

  • المصــــادر

اعتمدت الورقة على عدد من المصادر وكثيرا ما نقلت منها عبارات بنصها، فهي ليست إنتاجا فكريا خالصا وأصيلا، بقدر ما هي تلخيص ونقل لآراء عدد من المفكرين والمتخصصين في الفلسفة. ومن أهم المصادر التي اعتمدت عليها الورقة ما يلي:

  • كتاب “قصة الفلسفة” – ول ديورنت
  • كتاب “تاريخ الفكر الأوروبي الحديث” – رونالد سترومبرغ
  • رواية “عالم صوفي” – جوستاين غاردر
  • كتاب “الثلاثة الكبار في علم الاقتصاد” – مارك سكويسين
  • كتاب “الدين والعلمانية في سياق تاريخي” – عزمي بشارة
  • محاضرات للدكتور الطيب بوعزة
  • محاضرات للدكتور عبد الوهاب الأفندي

المعهد المصري للدراسات


 

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى