فلسفة العصور الوسطى

توافر النصوص اليونانية في فلسفة العصور الوسطى

في حين أن تأثير الفلسفة الوثنية الكلاسيكية كان بالغ الأهمية في تطور فلسفة العصور الوسطى، فقد كان من المهم أيضا، أنه حتى القرنين الثاني عشر والثالث عشر، كانت كل النصوص اليونانية الأصلية تقريبا، في الغرب اللاتيني، قد فُقدت ، لذلك مارست تأثيرها بشكل غير مباشر فقط.

و”فُقدت” ليس بمعنى أن النصوص كانت غير متوفرة، ولكن بمعنى أن القليل فقط من الناس من كانوا يستطيعون قراءتها؛ لأنها كُتبت بلغة مختلفة.


فمع التفكك التدريجي للإمبراطورية الرومانية الغربية، اختفت المعارف اليونانية. كان بوئثسيوس (480- 526/545) ما يزال يتحدث اليونانية بطلاقة، لكنه أدرك الحاجة إلى الترجمات حتى في عصره. بعده كانت اليونانية، بالفعل، لغة ميتة في الغرب.

وإن كانت ما تزال هناك بعض الجيوب الملمة باليونانية، خاصة حول شخصيات مثل إيزيدور الإشبيلي، والقديس بيدا المبجل، تحفظ، وتتناقل أفكار التعلم القديم، ولكن لم يكن لها تأثير يذكر على الفكر الفلسفي في العصور الوسطى.


في حالة أفلاطون، لم يكن يتوفر للعصور الوسطى، ولأغراض عملية خالصة، سوى الجزء الأول من محاورة طيماوس (حتى 53م)، وهو بالكاد حوار أفلاطوني نموذجي، في ترجمة وتعليق كالسيديوس (أو خالكيديوس).[7] تشتمل محاورة طيماوس على علم كونيات أفلاطون، آراؤه حول أصل الكون.


كانت هناك أيضا ترجمات لمحاورتي مينون وفيدون، في القرن الثاني عشر، بواسطة هنري أريستيبوس من كاتانيا[8]، ولكن يبدو أن أحدا لم يقرأها. كما يبدو أن تداولها كان متواضعا، ولم يكن لها من تأثير يذكر، يمكن الحديث عنه.[9]


كانت هناك بعض الترجمات اللاتينية الأخرى، التي تم إنجازها قبل ذلك بكثير، لكنها اختفت عن التداول قبل تقدم العصور الوسطى كثيرا.

قام شيشرون نفسه بترجمة محاورة بروتاجوراس، وجزء صغيرا من محاورة طيماوس، وفي القرن الثاني، ترجم أبوليوس محاورة فيدون، لكن هذه الترجمات اختفت بعد القرن السادس، ولم يكن لها تأثير يذكر على أي شخص (Klibansky [1982], pp. 21–22).


كما يشير القديس جيروم، في أواخر القرن الرابع، أو أوائل القرن الخامس، في تعليقه على رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية: “كم عدد من يعرفون كتب أفلاطون، أو اسمه؟ بالكاد يتذكره الرجال الكهول الخاملون في الزوايا” (Migne .1844–64], vol. 26, col. 401B).


استمرت هذه الحالة حتى عصر النهضة، عندما قام مارسيليو فيتشينو (1433-1499) بترجمة الأعمال الكاملة لأفلاطون والتعليق عليها. وهكذا، باستثناء النصف الأول تقريبا من محاورة طيماوس، فإن العصور الوسطى لم تعرف النصوص الفعلية لأفلاطون.


أما بالنسبة لأفلوطين، فقد كانت الأمور أسوأ حالا. لم تكن تاسوعاته (مجموعة كتاباته) متوافرة على الإطلاق. يُقال إن ماريوس فيكتورينوس قد ترجم ، في القرن الرابع، بعضا من التاسوعات إلى اللاتينية، ولكن يبدو أن ترجمته، إذا كانت تمت بالفعل، قد ضاعت بعد ذلك بوقت قصير.[10]


بالنسبة لأرسطو، كانت العصور الوسطى في حال أفضل إلى حد ما. قام ماريوس فيكتورينوس بترجمة “المقولات”، و”العبارة”. وبعد أكثر من قرن بقليل، تمت ترجمة الأعمال المنطقية بشكل عام، باستثناء ربما “التحليلات الثانية“، بواسطة بوثيوس، حوالي عامي 510–512، ولكن ترجماته للمقولات والعبارة لم تدخل حيز التداول العام قبل القرن الثاني عشر.


تُرجمت باقي أعمال أرسطو، في النهاية، إلى اللاتينية، ولكن بعد ذلك بفترة كبيرة، في حوالي منتصف القرن الثاني عشر. أولا، تُرجمت بقية الأعمال المنطقية، ثم الطبيعة، ثم الميتافيزيقا، وهلم جرا. وتمت ترجمة جميع الأعمال بحلول منتصف القرن الثالث عشر (Dod [1982]).


كان “انتعاش” أرسطو، في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، حدثا بالغ الأهمية في تاريخ فلسفة العصور الوسطى.


ومع ذلك، مع أهمية التأكيد على هذا الغياب للنصوص الأساسية للفلسفة اليونانية، في العصور الوسطى اللاتينية، فمن المهم أيضا إدراك أن القرون الوسطى عرفت الكثير عن الفلسفة اليونانية.


وقد حصلوا على معلوماتهم من: (1) بعض المؤلفين اللاتين الآبائيين، مثل ترتليان، وأمبروز، وبوثيوس، الذين كتبوا قبل اختفاء المعارف اليونانية فعليا في الغرب، والذين كثيرا ما ناقشوا المذاهب اليونانية الكلاسيكية بشيء من التفصيل، و(2) بعض المؤلفين الوثنيين اللاتينيين، مثل: شيشرون، وسينيكا، الذين قدموا لنا (وقدموا للقرون الوسطى) قدرا كبيرا من المعلومات حول الفلسفة اليونانية.


خلال الجزء الأول من العصور الوسطى، سيطرت التأثيرات الأفلاطونية، والأفلاطونية المحدثة، على التفكير الفلسفي. “أفلاطون نفسه لا يظهر على الإطلاق، لكن الأفلاطونية موجودة في كل مكان”، كما يقول جيلسون. (جيلسون [1955]، ص 144.[11]) ساد هذا الوضع حتى انتعاش أرسطو في القرنين الثاني عشر والثالث عشر.


ومن ثم، على الرغم من أنه ما يزال يحدث في بعض الأحيان، فمن الخطأ تماما التفكير في فلسفة العصور الوسطى باعتبارها تنحصر في مسألة التعليقات على أرسطو. بالنسبة لمعظم فترات العصور الوسطى، إلى الآن، كان لأرسطو أهمية ثانوية بالتأكيد. هذا بالطبع لا ينفي أنه عندما سيطر أرسطو، كانت سيطرته كبيرة بالفعل، وكان تأثيره هائلا.


المصدر

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى