فلسفة العصور الوسطى

فلسفة العصور الوسطى: المفهوم والنطاق التاريخي

تشير فلسفة العصور الوسطى إلى الفكر الفلسفي الذي تطور في أوروبا الغربية خلال الفترة الممتدة بين انهيار الحضارة الكلاسيكية الوثنية وبداية عصر النهضة. وقد ظهر مصطلح العصور الوسطى لأول مرة في القرن الخامس عشر للإشارة إلى هذه المرحلة الانتقالية بين الحقبة الكلاسيكية والنهضة الأوروبية، وكان أول توثيق معروف لهذا المصطلح بصيغة “media tempestas” يعود إلى عام 1469 (Robinson, 1984, p. 748).

  • الحدود الجغرافية والثقافية لفلسفة العصور الوسطى

تركّزت فلسفة العصور الوسطى أساسا في إطار ما يُعرف بـ “الغرب اللاتيني”، وهو المجال الثقافي الذي خضع لنفوذ الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. غير أن هذا الفكر لم يكن معزولا عن التأثيرات الخارجية، بل استمد عناصر جوهرية من الفلسفة اليونانية البيزنطية، والفكر اليهودي، والتراث الفلسفي الإسلامي، مما أدى إلى تشكيل منظومة فلسفية متميزة امتدت عبر عوالم ثقافية متعددة.

إذا اعتبرنا أن فلسفة العصور الوسطى تشمل أيضا الفترة الآبائية (Patristic Period)، كما يميل بعض الباحثين المعاصرين إلى ذلك، فإن هذا يستدعي توسيع النطاق الجغرافي ليشمل أوروبا الشرقية الناطقة باليونانية، وشمال إفريقيا، وأجزاء من آسيا الصغرى، حيث شهدت تلك المناطق تطورا فلسفيا ولاهوتيا مهما أثرى الفكر الوسيط.

  • الإشكاليات الزمنية في تأريخ الفلسفة الوسيطة

يُعَدُّ تحديد البداية الدقيقة لفلسفة العصور الوسطى موضوعا خلافيا بين المؤرخين. فعلى الرغم من أن العديد من الدراسات تبدأ هذا العصر بـ أوغسطينوس (354-430م) باعتباره أحد أبرز المفكرين الذين جسّدوا الانتقال من الفلسفة الكلاسيكية إلى الفكر المسيحي الوسيط، إلا أن بعض الباحثين يُرجِعون أصول هذه الفلسفة إلى مفكرين مسيحيين أقدم من القرن الثاني والثالث الميلاديين (Marenbon, 2007, p.1).

وفي مقابل هذا الطرح، يقترح روبرت باسناو (2010, p.1) رؤية أكثر حداثة في تأريخ نشأة الفلسفة الوسيطة، حيث يرى أنها بدأت كمشروع فكري مستقل في موقعين رئيسيين خلال القرن الثامن الميلادي:

  1. في بغداد، خلال الخلافة العباسية، حيث انطلقت حركة الترجمة والانفتاح على الفكر اليوناني والفارسي والهندي، مما أسهم في إثراء الفلسفة الإسلامية وتشكيل مدرسة عقلية كان لها تأثير عميق على أوروبا لاحقا.
  2. في فرنسا، داخل بلاط شارلمان المتنقل، حيث جرت محاولات لإحياء الفكر الكلاسيكي من خلال ما عُرف بـ “النهضة الكارولنجية”، التي سعت إلى إعادة توجيه الفكر الأوروبي نحو التعلم والبحث الفلسفي.
  • نهاية العصور الوسطى: إشكاليات التأريخ والتداخلات الفلسفية

فيما يتعلق بنهاية العصور الوسطى، فإن التحديد الزمني لهذه الفترة أكثر إشكالية من بدايتها، إذ لا يوجد إجماع واضح بين المؤرخين حول الحدث الذي يمثل نهايتها الفعلية. وكما يوضح روبنسون (1984, pp. 749-750)،

فقد طُرحت عدة تواريخ مقترحة لنهاية العصور الوسطى، حيث يرى بعض المؤرخين أنها انتهت مع سقوط القسطنطينية عام 1453، بينما يربطها آخرون بـ اختراع الطباعة، أو اكتشاف أمريكا عام 1492، أو حتى مع الإصلاح الديني الذي أطلقه مارتن لوثر عام 1517.

هناك أيضا من يحدد نهايتها بالتحولات السياسية الكبرى، مثل انتخاب تشارلز الخامس إمبراطورا عام 1519، أو اندلاع الحروب الإيطالية عام 1494.

  • الإشكالية الزمنية وتأثير النهضة الأوروبية

يرى العديد من الباحثين أن العصور الوسطى انتهت عندما بدأ ما يُعرف بـ “إحياء التعلم” خلال عصر النهضة، حيث أعاد العلماء الإنسانيون اكتشاف النصوص الكلاسيكية وأعادوا إحياء الفكر اليوناني والروماني. غير أن هذا الطرح يواجه انتقادا من قبل المتخصصين في الدراسات الوسيطة،

حيث يشيرون إلى أن هذه النصوص الكلاسيكية لم تُكتشف من العدم، بل حُفظت ونُسخت بدقة على يد كتبة العصور الوسطى، ما يعني أن الفلسفة الوسيطة لم تكن مجرد مرحلة انتقالية بين العصور القديمة وعصر النهضة، بل كانت ذات امتداد معرفي مستقل ومؤثر.

  • المعايير الفلسفية في تحديد نهاية العصور الوسطى

إحدى الطرق الأكثر موضوعية لتحديد نهاية فلسفة العصور الوسطى هي النظر إلى التحولات في المنهج الفلسفي بدلا من الاقتصار على التواريخ السياسية والثقافية. فمن هذا المنظور، يمكن اعتبار الفلسفة الوسيطة قد بدأت عندما بدأ المفكرون بمواءمة تصوراتهم الفلسفية مع العقيدة المسيحية، وانتهت عندما لم تعد هذه المقاربة هي الاتجاه السائد في الفكر الأوروبي.

وبناء على هذا التصور، فإن الفلسفة الوسيطة تداخلت بشكل كبير مع فترة آباء الكنيسة، كما هو الحال مع بركليس (411-485)، الذي يُصنَّف ضمن الفلسفة القديمة رغم أنه جاء بعد أوغسطينوس (354-430م).

  • استمرارية الفلسفة الوسيطة وتأثيرها في عصر النهضة

على الرغم من ظهور مناهج فلسفية جديدة بحلول منتصف القرن الخامس عشر، فإن الفكر المدرسي (السكولاستيكي) استمر في الازدهار خلال عصر النهضة. وهذا يظهر في أعمال فرانسيسكو سواريز (1548-1617)، الذي يُعتبر من آخر الفلاسفة الوسيطين، رغم كونه معاصرا لفلاسفة النهضة مثل فرانسيس بيكون (1561-1626). يُظهر هذا التداخل أن الفلسفة الوسيطة لم تنتهِ فجأة، بل امتدت وتأثرت وتأثرت بظهور النهج التجريبي والمنطقي الجديد.

إذا تبنّينا منظورا موسّعا للتسلسل الزمني، فإن فلسفة العصور الوسطى امتدت لأكثر من نصف تاريخ الفلسفة ككل، إذ بدأت على الأقل مع المفكرين المسيحيين الأوائل مثل جاستين الشهيد (منتصف القرن الثاني الميلادي)، واستمرت حتى القرن الخامس عشر.

إن هذا الامتداد الطويل يعكس ثراء الفلسفة الوسيطة وتعقيدها، مما يجعلها حقبة حيوية لا يمكن اختزالها في مجرد فترة انتقالية بين الفلسفة الكلاسيكية والنهضة.

تتسم فلسفة العصور الوسطى بتعدد أصولها الفكرية وتشابكها مع تيارات فلسفية ودينية متباينة، مما يجعلها حقبة ديناميكية شهدت صراعات فكرية وتطوّرات معرفية جوهرية. كما أن الجدل المستمر حول بداياتها ونهاياتها يعكس طبيعتها المركّبة، حيث تداخلت مع مراحل تاريخية سابقة ولاحقة، متأثرة بالفكر الكلاسيكي من جهة، ومؤثرة في الفكر النهضوي الأوروبي من جهة أخرى.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى