فلسفة العصور الوسطى

بين “بوثيوس” و”السيدة فلسفة”

بعد أوغسطين، كان بوثيوس أول مفكر في السجل الفلسفي (حوالي عام 480-524 / 525) (انظر مدخل: أنيكيوس مانليوس سيويرينوس بوثيوس).


لا شك في أن بوثيوس يشتهر اليوم بـكتابه “عزاء الفلسفة”، وهو حوار في خمسة كتب بين بوثيوس و “السيدة فلسفة”، وهي شخصية رمزية، تظهر له في رؤيا، أثناء بقائه في السجن محكوما عليه بالإعدام، بتهمة الخيانة.


شغل بوثيوس مكانة عالية في المجتمع والحكومة. وُلِد في عائلة ذات أصول رومانية قديمة راقية، وارتقى إلى موقع قوة وتأثير هائلين، في مملكة القوط الشرقيين، تحت حكم ثيودوريك. على الرغم من أنه كان ناجحا، بشكل واضح، لفترة من الزمن، إلا أنه سقط، في نهاية المطاف، في موقف الازدراء، واتُهم بالتآمر على خيانة الإمبراطور جوستين في القسطنطينية (يدعي بوثيوس أنه بريء)، وتم القبض عليه، وانتهى الأمر بإعدامه.[14] .


في كتابه “عزاء الفلسفة”، يناقش بوثيوس والسيدة فلسفة مشكلة الشر، وتقلُّب الحظ – وهي قضية ملحة بشكل خاص لبوثيوس، نظرا للظروف التي تمت كتابة العمل فيها.


ولكن على الرغم من أن “عزاء الفلسفة” مشهور حقا، سواء في أيامنا هذه أو في العصور الوسطى، فمن المحتمل أن أهمية بوثيوس، التي استمرت طويلا، تقوم على نشاطه في الترجمة والتعليق. كان بوثيوس جيد التثقيف، وكان من الأشخاص الذين يندر أشباههم في الغرب، ممن يعرفون اليونانية جيدا، ليس اللغة فقط، بل والثقافة الفكرية.


لقد خطر له الهدف النبيل بترجمة أفلاطون وأرسطو إلى اللغة اللاتينية، وكتابة التعليقات على هذه المادة كلها، ثم كتابة عمل آخر لبيان أن أفلاطون وأرسطو قالا، بشكل أساسي، نفس الشيء:


إذا أنعم عليَّ الإله بمزيد قوة، فسيكون هدفي الراسخ: على الرغم من أن هؤلاء الناس كانوا ذي مواهب عظيمة للغاية، وتُرجمت أعمالهم ودراساتهم إلى اللغة اللاتينية، مما نتعامل معها كثيرا الآن، إلا أنها لم تصدر في أي شكل منظم أو في ترتيب يبلغ المستوى المناسب للتخصصات [العلمية].


[ومن ثمَّ، أقترح] أن أنقل كل أعمال أرسطو – [أو] أيا ما توفر [منها] لديَّ ـ إلى الأسلوب اللاتيني، وأن أكتب تعليقات باللغة اللاتينية عليها كلها، وهكذا، فإذا كان هناك شيء من دقة الفن المنطقي كتبه أرسطو، أو من أهمية المعرفة الأخلاقية، ومهارة حقيقة الأمور المادية، سوف أترجمه، بل وأسلط الضوء عليه، بنوع من “نور” التعليق. [ثم،] أقوم بترجمة كل محاورات أفلاطون، أو حتى التعليق [عليها]، سأقوم بوضعهما في صيغة لاتينية.


وما أن أنتهي من كل هذا، لن أتوانى عن الجمع بين وجهات نظر أرسطو وأفلاطون معا، في نوع من الانسجام وإظهار أنهما، على غير ما يعتقد معظم الناس، لا يختلفان حول كل شيء، بل يتفقان على معظم الأشياء، خاصة في الفلسفة. (بوثيوس [1880]، ص 79. 9-80.6 [ترجمتي])


لا شك أن هذه الخطة كانت ستثبت أنها صعبة التحقق، حتى لو لم يتم تنفيذ حكم الإعدام في بوثيوس وهو في منتصف الأربعينيات من عمره. بشكل خاص، لأنه بينما يُظهر “عزاء الفلسفة”، بالتأكيد معرفة بمحاورة طيماوس، فلا يبدو أن بوثيوس قد ترجم أيا من أعمال أفلاطون على الإطلاق، على الرغم من نواياه القيام بذلك.


ومع ذلك، فقد قام بترجمة كتابي أرسطو “المقولات” و”العبارة“، بالإضافة إلى كتاب فورفوريوس الصوري: “إيساغوجي“، وهو أشبه “بمقدمة” لمقولات أرسطو.[15] يبدو أيضا أنه قد ترجم الأعمال الأخرى في أورجانون أرسطو (ربما باستثناء “التحليلات الثانية“، التي يوجد حولها بعض الشك)، لكن مصير هذه الترجمات غامض، إذ لم يتم تداولها على نطاق واسع إلا بعد ذلك بوقت طويل (Dod [1982], pp. 53–54).


بالإضافة إلى ترجماته، كتب بوثيوس عددا من الأطروحات المنطقية الخاصة به. وهي، قبل كل شيء، تعليق على كتاب “الجدل” لأرسطو، والتي لم تعد موجودة. وسواء قام بترجمة “التحليلات الثانية” أم لا، فربما كان هناك تعليق عليها، ولكن إذا كان الأمر كذلك، فإنه لم ينجو، ولم يكن له تأثير يُذكر (Ebbesen [1973]).


ينطبق الأمر نفسه على تعليق محتمل (غير مكتمل) على “التحليلات الثانية” (Obertello [1974]، I، pp.230–32). الأكثر أهمية مما سبق، كان سلسلة من التعليقات (واحد على “المقولات“، واثنان؛ أحدهما على “البرهان“، والآخر على “إيساغوجي” فورفوريوس، وتعليق على طوبيقا شيشرو) (انظر مدخل: medieval theories of categories)،

بالإضافة إلى العديد من الأعمال الأخرى حول القياس المنطقي الحملي والافتراضي، و”الانقسام” المنطقي، وحول الاختلافات بين مقولات أرسطو وشيشرو (Chadwick [1981], Gibson [1981], Obertello [1974).


تشكل كل هذه الكتابات المنطقية معا، سواء الترجمات أو غيرها، ما أصبح لاحقا يسمى “المنطق القديم” (= logica vetus). بعض هذه الأعمال كانت أكثر تأثيرا من غيرها. لكن بنحو أساسي، فإن كل ما بلغته العصور الوسطى من معارف عن المنطق، حتى منتصف القرن الثاني عشر، كان متضمنا في هذه الكتب.


نتيجة لذلك، يعد بوثيوس أحد المصادر الرئيسية لنقل الفلسفة اليونانية القديمة إلى الغرب اللاتيني، خلال النصف الأول من العصور الوسطى.


وأهمية بوثيوس تكمن أيضا في تقديمه “مشكلة الكليات” الشهيرة، بالشكل الذي نوقشت فيه، بشكل أساسي، طوال العصور الوسطى (انظر مدخل: medieval problem of universals).

وأثبت بوثيوس أيضا أنه كان مؤثرا في القرن الثاني عشر وما بعده، بفعل الآراء الميتافيزيقية المتضمنة في سلسلة من الدراسات القصيرة، المعروفة مجتمعة باسم الرسائل اللاهوتية.


المصدر

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى