القرون الوسطى – أشكال تعليم جديدة
كجزء من النهضة التي بدأت مع مطلع الألفية، بدأت أشكال جديدة من التعليم في الظهور، في أوروبا الغربية. بشكل عام، يمكننا تمييز أربعة أنواع رئيسية من النظم التعليمية في العصور الوسطى:
- مدارس رهبانية.
وهي مدارس ارتبطت بانتظام بالأديرة، منذ القرن السادس. تم كتابة الكثير من أهم أعمال أنسيلم، على سبيل المثال، بما في ذلك Proslogion، الذي يحتوي على “حجته الأنطولوجية”، في مدرسة بيك الرهبانية، في نورماندي.
ويصف أبيلارد في كتابه “قصة مآسيَّ“، على الأقل وفقا لرواية أبيلارد، كيف طُرد معلمه ويليام شامبو (حوالي 1070-1121) من باريس، بسبب مهارات أبيلارد الجدلية الفائقة، وتقاعده في دير القديس فيكتور، حيث “أسس” (أو على الأقل أعاد تنظيم) ما أصبح يعرف باسم مدرسة القديس فيكتور.
كانت تلك واحدة أخرى من المدارس الرهبانية. وقد أصبح أساتذة هذه المدرسة معروفين جيدا، في حد ذاتهم، في أواخر القرن الثاني عشر. وكانوا يُعرفون معا باسم “الفيكتوريين”. من أهمهم:
هيو سانت فيكتور (حوالي 1096-1141)، مؤلف كتاب ديداسكاليكون Didascalicon حول مختلف الفنون الحرة. كان هيو لاهوتيا أيضا، ومنظرا للتصوف.
ريتشارد سانت فيكتور (1123-1173)، الذي خلف هيو كرئيس للمدرسة. مثل هيو، كان ريتشارد مُنظِّرا للتصوف.
كما كتب أطروحة مهمة عن عقيدة الثالوث، أول بديل جاد لنهج أوغسطين في عقيدة الأخير حول الثالوث. على عكس هيو، كان ريتشارد أكثر استعدادا، بنحو إيجابي، للاستخدام الجديد للجدل، أو المنطق، في علم اللاهوت. يقال إنه كتب أطروحة خاصة به عن المنطق، ولكن لا يبدو أنها بقيت.
“معلمون” فرديون. ابتداء من منتصف القرن الحادي عشر، كان العلماء الأفراد ينشئون، في بعض الأحيان، “مدرسة” خاصة بهم، ويجمعون الطلاب حولهم. كانت هذه المدارس، في بعض الأحيان، متجولة، وتعتمد كليا على جاذبية “المعلم” الذي يقوم بالتدريس.
ربما يكون أقرب نظير لهذا النظام هو مدارس “فنون القتال” الحديثة، التي يجدها المرء غالبا في المدن المعاصرة. اضمحل هذا النظام بعد حوالي عام 1150.
تولى أبيلارد “مدرسة” كهذه، في مولن في أوائل القرن الحادي عشر، ويبدو أنه قد التحق في وقت سابق بـ “مدرسة” مماثلة، يديرها روسيلين (حوالي 1045 – 1120)، وهو شخصية مثيرة للجدل، ينتمي للمذهب الإسمي، فُقدت معظم كتاباته، و اتهمه أنسيلم، في الواقع، بقوله بآلهة ثلاثة في عقيدة الثالوث.
مدارس الكاتدرائية. كانت هذه مدارس مرتبطة بالكنيسة الرسمية للأسقف، ولعبت دورا مشابها لدور المدارس الرهبانية في الأديرة: فقد دربت رجال الدين الشباب، وآخرين أيضا، في بعض الأحيان. قبل أن يغادر ويليام شامبو باريس، بسبب الانتقادات التي وجهها أبيلارد إلى آرائه، كان يقوم بالتدريس في مدرسة الكاتدرائية في باريس (انظر مدخل: William of Champeaux).
ربما كانت المدرسة المسماة “مدرسة شارتر” أيضا مدرسة كاتدرائيّة.[23] كان العلماء هناك مهتمين بشكل خاص بمحاورة طيماوس لأفلاطون، التي كانت متداولة في ترجمة كالسيديوس (انظر أعلاه)، وبالآثار الميتافيزيقية لرسائل بوثيوس اللاهوتية.
من بين الشخصيات المهمة المرتبطة بمدرسة شارتر: برنارد شارتر (توفي حوالي عام 1130)، وتييري (= ثيودوريك) من شارتر (توفي عام 1150)، وجيلبرت من بواتييه (=Gilbert de la Porrée, Gilbertus Porreta, c. 1085–1154)،
ويعد كتاب Metalogicon لجون من ساليسبري (حوالي 1115- 1180) مصدرا لا يقدر بثمن للمعلومات حول كل هؤلاء، والعديد من المفكرين الآخرين، في النصف الأول من القرن الثاني عشر(جون من ساليسبري [1955]، راجع (John of Salisbury [24] ازدهرت مدارس الكاتدرائية حوالي 1050- 1150.
الجامعات. يمكن القول إن البرلمان و “الجامعة” هما أكبر مؤسستين في العصور الوسطى بقيتا على حالهما، بشكل أو بآخر، حتى يومنا هذا. (يمكن اعتبار الكنيسة ثالثهما الواضح، اعتمادا على وجهات نظر المرء حول الإصلاح، والإصلاح المضاد).
في كثير من الأحيان، نشأت الجامعات عن مدارس الكاتدرائية. وهكذا، تطورت مدرسة الكاتدرائية في باريس، في أوائل القرن الثالث عشر، إلى جامعة باريس. جذبت إحدى مدارس الكاتدرائية المهمة الطلاب من جميع أنحاء أوروبا. أصبحت هذه المدرسة معروفة باسم مدرسة التعليم العام studium generale.
تمكنت بعض هذه المدارس العامة من البقاء، وأصبحت تُعرف باسم “الجامعات”. في البداية، أشار مصطلح “universitas” ببساطة إلى “كلية” أو “عالمية” العلماء، من أعضاء هيئة التدريس والطلاب، الملتحقين بالمدرسة.
ومع الاستخدام التدريجي للمصطلح، أصبحت “الجامعة” واحدة من هذه المدارس الدولية الكبرى، التي تميزت عن غيرها بامتلاكها امتيازا رسميا (ممنوحا من قبل سلطة ملكية أو كنسية)، ومجموعة من التشريعات، وشكل من أشكال الحكم الذاتي.
كانت جامعة باريس هي الجامعة الأولى في أوروبا، في القرن الثالث عشر. تمت الموافقة على قانونها الأساسي رسميا من قبل المندوب البابوي روبرت دي كورسون في عام 1215. وعادة ما يتم تحديد زمن التأسيس الرسمي للجامعة في هذا التاريخ، برغم أنه من الواضح أن القوانين الأساسية كانت قائمة قبل ذلك.
يعود تاريخ جامعتي أكسفورد وكامبريدج، أيضا، إلى أوائل القرن الثالث عشر، على الرغم من أن فترة ذروة نشاطهما، في العصور الوسطى، كانت في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر. تأسست جامعة تولوز عام 1229، بموجب المرسوم البابوي. وتأسست جامعة سالامانكا بموجب المرسوم الملكي، عام 1200.
كانت هناك أيضا جامعات في إيطاليا، والواقع أن بولونيا كانت أول جامعة في أوروبا تتميز بكونها جامعة يديرها الطلاب.
تم تقسيم الجامعات إلى “كليات”. كانت الكليات الأربعة الأكثر شيوعا هي: الآداب، والقانون، والطب، واللاهوت. كانت معظم الجامعات تضم كليات للفنون، بالإضافة إلى كلية واحدة أو أكثر، من الكليات الأخرى. كانت كلية الآداب مخصصة للتدريب الأساسي للطلاب، قبل أن ينتقلوا إلى إحدى الكليات “العليا”.
في الواقع، كانت كلية الآداب معادلة لبرنامج البكالوريوس الحديث. أما بالنسبة للكليات “العليا”، فقد كانت بولونيا في الأساس جامعة لدراسة القانون. اشتهرت بعض الجامعات الأخرى بالطب. كانت جامعة باريس تضم الكليات الأربع، وإن كانت كلية اللاهوت تعتبر الأعلى من بينهم.
في جامعات العصور الوسطى، كانت الفلسفة توضع أولا، وقبل كل شيء، في كليات الآداب. عندما ظهرت أعمال أرسطو، المترجمة حديثا، لأول مرة في جامعة باريس، على سبيل المثال، كان ذلك في كلية الآداب. كان من الواضح أن أعمال أرسطو لم تكن قانونا أو طب.
(قد يتوسع بعضها فيدخل في باب الطب، لكن تلك لم تكن ذات التأثير الأول). كما لم تكن لاهوتا، بالمعنى التقليدي لـ “العقيدة المقدسة”، على الرغم من أن بعض كتابات أرسطو كانت لها آثار مهمة على اللاهوت. كان يُعتقد أن بعض هذه الآثار تشكل خطورة على العقيدة المسيحية، وكانت كذلك بالفعل.
في عام 1210، قرر مجمع سينودس الإقليمي، في باريس، منع “قراءة” كتاب “علم اللاهوت الطبيعي” لأرسطو، في كلية الآداب في باريس. “القراءة”، في هذا السياق، تعني “إلقاء محاضرة حوله”. ولا يعني أن الطلاب والأساتذة لا يستطيعون دراسة هذه الأعمال ومناقشتها في لقاءات خاصة.
في عام 1215، عندما وافق روبرت دي كورسون على قوانين النظام الأساسي لجامعة باريس، كان أحد تلك القوانين يمنع أساتذة كليات الآدب من إلقاء محاضرات حول الميتافيزيقيا والعلوم الطبيعية الأرسطيين. في عام 1231، أمر البابا جريجوري التاسع بعدم التعامل مع الأعمال التي تم حظرها عام 1210، حتى يتم فحصها من قبل لجنة لاهوتية، لحذف أية أخطاء.
في عام 1245، وسَّع البابا إنوسنت الرابع المحظورات، في عامي 1210 و 1215، إلى جامعة تولوز. وعلى الرغم من هذا الحظر، فإن دراسة ومناقشة أعمال أرسطو لم تتوقف. بحلول خمسينيات القرن الثالث عشر، كان الناس يحاضرون علنا في كل ما لديهم من أعمال أرسطو.
لماذا صدرت هذه المحظورات؟ من ناحية، لأنها كانت بعيدة عن الاهتمام الحقيقي بنقاء الإيمان. كان يُعتقد، وبحق، أن الأرسطية مشكوك فيها لاهوتيا. إلى جانب ذلك، كان الأكاديميون الأوروبيون بالكاد يتعرفون على معظم أعمال أرسطو، وفي هذه المرحلة المبكرة من تعرفهم بها، لم يكونوا متأكدين تماما مما تعنيه، وما الذي تتضمنه.
لم يكن نهج “التقدم ببطء” مسار عمل غير معقول على الإطلاق لتبنِّيه. من ناحية أخرى، لا يمكن إنكار أن بعض الأسس التي قام عليها الحظر، كانت فقط من أجل مقاومة الأفكار الجديدة.