في مقطع من مقدّمته لتعريبه رواية ديماس عن الثورة الفرنسية، قال فرح أنطون عن مبادئ تلك الثورة: “وقد تغذّى في صباي لحمي ودمي من هذه المبادئ، حتى أصبحت أحرم على نفسي رشقي لها ولو بوردة، حتى في المبادئ التي بطل اعتقادي بها”.
في عام 1903، أصدرَ فرح أنطون من الإسكندريّة كتابه النفيس “ابن رشد وفلسفته“، ضمّنَه ثلاثة محاور أساسيّة، أَولّها إهداء الكتاب، فيما ثانيها متنُ الكتاب، أي فلسفةُ ابن رشد وغَرْفُها من أرسطو، أما ثالث تلك المحاور فهو ردُّه على محمد عبده، وقاسم أمين.
يهدي أنطون كتابَه “إلى عقلاء الشرقيين في الإسلام والمسيحية وغيرهما”، فيرى أنّ النشء الجديد، أي أولئك العقلاء في كل ملّة، وكل دين، في الشرق، قد عَرفوا مضارَّ مزجِ الدنيا بالدين، فصاروا يطلبون وضعَ أديانِهم جانبًا في مكان مقدّس محترم، ليتمكّنوا من الاتحاد اتحادًا حقيقيًا، ومجاراةِ تيّار التمدّن الأوروبي الجديد لمزاحمة أهله، وإلا جرفهم التيّار.
وبناء على هذه المقولة، أعلن فرح أنطون في إهدائه الكتاب أنّ هذا النشء الجديدَ إذا ما أُتيح له أن يكتشفَ نفسَه عبر ما يوحّده وهو العقلُ، ليس إلّا، فإنه حالئذٍ يغدو أمام تحقيق “اتحاد حقيقي” يقوم على الوطنية العَلْمانية والعقلانيّة.
ينطلق هذا البحّاثة، إذًا، من أنّ تحريرَ العقلِ من التعصّب الدينيّ، وضيقِ الأُفقِ العقلي يمثّل المدخلَ إلى كيفيّة تحقيق التقدّم في الشرق. ومن هنا، فإن ترجماتِه لإرنست رينان عن تاريخ المسيحيّة، وابن رشد، كان يهدف من ورائها إلى البحث عن التفكير العقلي المتسامح والكوني، وهي ترجماتٌ ضمّنها مجلّته “الجامعة”.
محورُ كتابِ فرح أنطون الثاني لتاريخ ابن رشد، وتاريخ الفلسفة الرشدية، يوجزه صاحبُه بأنه “موضوع فلسفي لا ديني”، فما طريق الحقيقة سوى القوى الأدبيّة العظيمة التي هي كل الإنسانية في الإنسان، والتي تدفع النفسَ إلى العمل الحرّ، والقول الحرّ.
وفي دفاعه عن ابن رشد، إثر محاكمتِه، والتشهيرِ به، أعلن فرح أنطون أن ذلك مردُّه إلى حالة من القُصور المعرفيّ. ورأى في خلفيّة الأمر أنه كانت “المياه تتدفّق من وراء ظهر المنوّرين”، لتأتي على الأخضر واليابس.
المحورُ الثالثُ لمؤلّف “ابن رشد وفلسفته” هو ردُّ فرح أنطون على محمد عبده، إذ شكّك في طرحه مبدأ الوحدة الدينية، فرفض قولَ عبده في أنّ سببَ التأخّر هو سوء فهم الدين، وأنَ الرجوعَ إلى الأصل شرطُ كلِّ إصلاح، وعدّ رأيَ عبده أن مسألةَ الحكم رهنٌ حلُّها بوجود “مستبدٍّ عادل” غيرُ كافٍ، فالمسألةُ ليست في العدل فحسب، وإنّما أيضًا في ديمقراطية الحكم.
ويصلُ أنطون إلى القول إن ما يدعو إليه محمد عبده من “الإصلاح بالدين” عبرَ “الطعن على دين آخر وتقبيح طبيعته”، أمرٌ يُقعد هِمَمِ الشرقيين.
ومرتكزُ أنطون في ذلك فلسفةُ أرسطو، ورأسُها قاعدة “القياس”، أو “آلةُ أرسطو”، أي ميزانُه، فالحقائق لا تُدرك من دونه، إذ أن التجربة والامتحان والمشاهدة والبرهان هي محكُّ تلك الحقائق، أي أن أرسطو احتكمَ إلى نواميس الطبيعة، ليسَ إلّا.
في أحد ردوده على محمد عبده، قال فرح أنطون باستحالة “الوحدة الدينيّة”، إذ أعلن أن هذا ما دَعَا إلى الفِتن في الإسلام والمسيحيّة، و”إلى هذا السبب ننسبُ كلَّ الحوادث الدموية التي حدثت فيهما”، إلى أنّ لكلّ شريعة دين، “وهنا مشتبك المصالح والزِّحَام على السلطة والرئاسة، فإنّ الأرضَ ليست كلّها أمّةً واحدة، بل هي أُمم مختلفة المصالح متضاربة المذاهب”.
ودعمًا لبيانِه هذا، يَلحّ أنطون في ردّ آخر على محمد عبده على أنّ “السّلطة الروحيّة المسيحيّة، والسلطة الروحيّة الإسلاميّة، إنما هما في الحقيقة من مصدر واحد وطبيعةٍ واحدة، وإنْ اختلفتْ الألفاظ”.
ثمّ يتفرّغ فرح أنطون للردّ على ما حبّره قاسم أمين في مجلّته “المرأة الجديدة“، فخطّأه في قوله إنّ المسلمين السابقين كانوا حائزين لجميع أنواع “الكمالات الأخلاقية الصحيحة”، فرأى أنطون في مقولةِ قاسم أمين أنّه “اعتقادٌ غيرُ صحيح، أو على الأقلّ، مبالغٌ فيه”.
على هذا النحو، كان فرح أنطون من أوائل المتنوّرين العرب، داعية للتسامح الديني والسياسي والاجتماعي، متأثّرًا بروّاد الإصلاح في فرنسا، من مثل روسّو، وڤولتير، ورينان، ومونتسكيو، فأفسح لنزول العَلمانية مؤصّلة في فكر أنطون سعادة، وريث نهضويي جبل لبنان: بطرس البستاني، وأحمد فارس الشدياق، وناصيف اليازجي، وابنه إبراهيم.
فوقف سعادة مكمّلًا لجهود جبران في التمرّد والثورة، إلا أنه لم يجد بدًّا من حسم الصراع بين قطبيّ السلفيّة الفكرية وعَلمانية الدولة الحديثة، فكانت نهايته المأسوية دلالة واضحة على أُفول النهضة التنويرية في بلاد الشام، بمعنى أنها لم تعش سوى نصفِ قرن، ليس إلّا، حدّاه فرح أنطون، وأنطون سعادة، تخلّلهما عند منتصف الطريق تمامًا بينهما صدور “في الشعر الجاهلي” لطه حسين،
و”الإسلام وأُصول الحكم” لعلي عبد الرازق، وإذا كانت مقدّمات فرح أنطون، وطه حسين، وعلي عبد الرازق، الكلاسيكية، ارتطمت بجدار التحجّر السلفي، فإنّ انقلابية أنطون سعادة تعثّرت بمدماك الدولة المذهبية، متآينة مع سقوط فلسطين. وعليه، فها نحن في مهبّ الريح منذ سقوط بغداد، ولا خلاصَ إلّا بنهضة جديدة توقظنا أجمعين من سباتنا الجارف العميق.
(*) ألقيت هذه المداخلة ضمن فعاليات معرض بيروت العربي والدولي للكتاب الثالث والستين، بإشراف دار نلسن للنشر، ضمن أمسية في مساء 10 آذار/ مارس 2022 بمشاركة: كرم الحلو، د. علي حميّة، صقر أبو فخر، سليمان بختي. تقديم: ميشلين مبارك.