فكر وفلسفة

مهدي عامل .. اقتفاء خطوات ماركسي عربي

  • تقديم :

صدر شهر يناير 2018،كتاب إيفلين حمدان،أرملة مهدي عامل،حدث شكَّل فرصة بالنسبة لمجلة ”contre temps ”للعودة إلى مسار ماركسي عربي.بعد انقضاء ثلاثين سنة على رحيله،نتوخى فعلا  إحياء ذكرى المثقف الثوري، ونعيد له الاعتبار، وكذا لزوجته إيفيلين حمدان،التي غادرت عالمنا مؤخرا،تلك المناضلة الثائرة ضد الاستعمار،منذ أن تزوجت تماما القضية العربية

كان يفترض أساسا،إجراء الحوار في مدينة بيروت  مع إيفيلين صاحبة العمل،لكن بسبب دواعي تردي وضعيتها الصحية،فقد اقترح ابنها رضا الإجابة على أسئلة آية خليل،مع حرصه على إشراك أمه في إثراء الأجوبة قدر مايمكنها الأمر.  

إذن سنة 2018،صدر العمل الوحيد لإيفلين حمدان،رفيقة وشريكة المفكر الماركسي العربي حسن حمدان،المشهور أكثر بلقبه مهدي عامل. بين صفحات هذا العمل،الذي يمثل شهادة جميلة جدا،وفق صيغة طريفة مزدوجة اللغة(العربية والفرنسية)،تستعيد إيفيلين حمدان مختلف محطات مهدي عامل.

أنجزت ذلك،وقد مزجت بين أساليب عدة تبدو متناقضة ظاهريا. أولا،الكتابة السير-ذاتية،بطابعها المفرط في الغنائية المرصع بذكريات؛تجعل من القارئ شاهدا عن حوار حميمي  بين امرأة وتلك الأبدية التي تسكن دواخلها.

بالتالي عنونت إحدى فصولها ! كما يلي”خلقتُ منكَ”،كناية عن تلك الولادة المتجددة باستمرار منذ لقائها بمهدي عامل.ثم الوصف التعليمي،بحيث تغرق في تفاصيل طويلة،فيما يتعلق بالوقائع التاريخية بشكل خاص،كما الشأن بحرب لبنان(1975- 1990).

أخيرا،تستعرض إيفيلين مختلف المقالات الأساسية وكذا أعمال مهدي عامل،بحيث انصب اهتمامها جديا كي تتطرق ثانية إلى جل أطروحاته.

هكذا بدا الكتاب في مجموعه متشظيا بما يكفي،وقد انتظمت متوالياته العديد من الفجوات،لغويا أو إيقاعيا، تبرز انزياحا مفاجئا إلى حد ما،لكن حين الاستئناس مع سيرورة صفحات الكتاب يتجلى في المقابل خيط القراءة سلسا ومتماسكا أكثر فأكثر.

فبالتأكيد، مع هذه الفجوات، والوقفات المتحكَّم فيها(أو ليس كذلك)ثم  الصفحات الواصلة بين مايمكنه الاندفاع خلال فترة،مختلف ذلك يكشف بشكل أفضل عن كاتبته إيفيلين حمدان وماأرادت فعلا التبليغ عنه. مادام هذا السرد يمثل قبل كل شيء وصايا امرأة تتوق إلى تكريم ذاكرة المقاومين الذين قابلتهم في طريقها. طريق مهدي عامل،أولا. 

حينئذ،يستأنس القارئ بمهدي عامل،من خلال لسان حال يرفع الكلفة بسخاء،مقتفيا خطى فكر يستمد مصدره من عمل نظري ومنهجي صلب،ينصب باستمرار على حقيقة متحركة.فأن يتعلق الأمر بالثورة الجزائرية وخطوات كوبا وجهة الاشتراكية، والحركة القومية العربية تحت كنف جمال عبد الناصر أو المقاومة العتيدة للفيتناميين.

فكل الديناميكيات المتطورة التي تجتاح العالم تترسخ ضمن تأملات مهدي عامل بناء على تجليات طموحه في التنظير للماركسية من الجنوب،ولأجل الجنوب.

استند على قاعدة النظرية ماركسية،لكنه تصورها كإيعاز للتفكير عن قرب في السياق المادي لمجتمع معين، مستخلصا من التحليل البنيوي الميكانيزمات التي تحقق القطيعة مع الاستعمار والرأسمالية.ناصر مهدي عامل ماركسية ليِّنة وديناميكية، فقد تبيَّن في ذلك منهجية علمية لامفر منها.

ثلاث أمكنة طبعت رحلة الثنائي مهدي عامل و إيفيلين : فرنسا، الجزائر ولبنان.عموما، ثلاث أمكنة/ أزمنة صاغت مضمون غزارة الباحث النظري الضليع. 

اغتيل مهدي عامل يوم 18ماي  1987،بشارع الجزائر، في بيروت. تاركا خلفه مشروعا هائلا لم يترجم منه سوى القليل،يمثل اليوم موضوع تجديد قيمة متنامية.   

س- عُرف حسن حمدان بلقبه الشهير مهدي عامل.”مهدي” بالإحالة على الرمز الروحي المنتظر في الإسلام، وعند الشيعة خصوصا،ثم ”عامل”الذي يحيل في الوقت نفسه على الكلمة العربية”العاملو”الصانع”،وكذا منطقة جبل عامل(جنوب لبنان)،المنحدرة منه أسرة حمدان.

تلك المنطقة،الفقيرة،التي همِّشت طويلا،مثلت منطلقا لحركة المحرومين،التي أسسها موسى الصدر سنوات 1970 التي منحت إطارا للجماعة الشيعية في لبنان.إذن توخى الاسم المنتقى من بعض الجوانب أن يشكل تركيبا مجازيا بين فضاء الانطلاق وكذا البعد الرمزي المثالي للماركسية.

كتبت إيفيلين بهذا الخصوص : ”لقد حولتَ الرسالة الباطنية إلى “صوفية”ثورية تبشر بتقدمية”(ص399. ).ماهي بحسبكم أولى فضاءات انتماء مهدي عامل والتي نزعت به نحو الماركسية والشيوعية؟

ج- تمكنتُ من تحديد عناصر متعددة تضافرت معا على الأرجح جدا،وفق مستويات واعية تقريبا،بخصوص نزوع أبي نحو الماركسية والشيوعية.هناك من جهة لقاؤه بأستاذ فلسطيني حينما كان تلميذا في الثانوي.أعلم بأن ذلك اللقاء أثر في أبي،لم يكن المدرس المذكور شيوعيا لكنه جذب انتباه أبي إلى قضايا فلسطين والقومية العربية.

ثم، بالعودة أكثر للوراء،نستعيد سياقا عائليا،ترعرع في إطاره مهدي عامل.كانت والدته،أرملة وأمًّا لطفلين من زواج أول،بحيث شغلت مقام الزوجة الثانية لوالده،الذي بقي متزوجا من زوجته الأولى التي أنجبت له العديد من الأطفال.

وأخفى لفترة طويلة زواجه الثاني عن أسرته تلك،وحينما أزيل الستار عن الحقيقة،اقتضى الوضع من والدة مهدي عامل مكابدة العداوة الدائمة والقاسية للزوجة الأولى. هكذا،عاش عامل حقبة طويلة مبعدا إلى مرتبة ثانية،لايلتقي والده سوى قليلا  مكتفيا بتقاسم معاناة والدته المنزوية أيضا.

سنوات طفولته لعبت بدون نقاش دورا جوهريا بخصوص تطور تطلعه نحو العدالة والمساواة.ربما يضاف إلى هذا أصوله من جنوب لبنان.ومثلما أشرتم، بقي الجنوب اللبناني ذي الأغلبية الشيعية مهمشا وفقيرا جدا لفترة طويلة، من طرف الدولة اللبنانية،بحيث لم تتوفر المنطقة إلا على مدارس ومستشفيات معدودة.

وبالتالي مؤشرات مقومات بنية تحتية  ضعيفة جدا…لم يترعرع أبي في منطقة جنوب لبنان،بل قضى طفولته تحت سقوف إحدى أحياء بيروت، ولاأعتقد بأنه أدرك حقيقة،وهو طفل،هويته الشيعية وكذا الإقصاء الطائفي.

لكن،على كل حال،يحق لنا افتراض بأن مسألة الإبعاد العائلي ستتداخل مع الإبعاد الطائفي.أخيرا،نستحضر تأثير والده.لأنه فيما بعد،خلال مرحلة طفولته دائما،بادر جدي إلى جمع العائلتين في بيت واحد.كان جدي شخصا مميَّزا، عاشقا كثيرا للثقافة، ينظم بكيفية متواترة في المنزل جلسات مع شعراء ومثقفين، كي ينخرطوا في نقاشات، وتلاوة قصائد شعرية….مناخ تأثر به أبي حتما،وأيقظ فضوله وكذا تذوقه للثقافة،ثم اهتمامه بالأفكار الكبرى،إلخ.  

سسافر مهدي عامل سنة 1957 إلى مدينة ليون ليتابع دراساته الفلسفية. حينئذ،بلغت حرب الجزائر أوجها وأنظار العالم العربي منصبة على الثورة الجزائرية. خلال السنة الموالية،تعرف هناك على إيفيلين ثم استقراره في فرنسا غاية سنة 1963 .انخرط الثنائي بفعالية في قضية دعم حرية الجزائر.

تقول شهادة أمي إيفيلين بهذا الخصوص :”صارت غرفتنا فضاء للقاءات سرية للمناضلين وإخفاء حقائب مملوءة بأوراق بنكية”. خلال تلك الحقبة انتقد مهدي عامل الموقف المتحفظ للحزب الشيوعي الفرنسي بخصوص الجزائر(ص 120) .مؤيدا في المقابل بيان 121 الداعم لثورة الجزائر المسلحة.

كيف شكَّل الدفاع عن التحرر الوطني للجزائر عاملا حاسما فيما يتعلق بمقاربته للنظام الاستعماري؟وكيف سعى إلى التوفيق بين وعيه الشيوعي مع مواقف العجز التي أبان عنها الحزب الشيوعي الفرنسي؟

ج-في الواقع لم تكن حرب الجزائر من أطلقت شرارة رغبته المناهضة للاستعمار.ولد أبي سنة 1936 ،بالتالي بلغ من العمر واحدا وعشرين سنة، حين قدومه إلى مدينة ليون.حتما،مثلت القضية الجزائرية لدى أبي،ركيزة بخصوص التجربة الفعلية للاستعمار،لكن وقعت أحداث أخرى مناهضة للاستعمار،قبل القضية الجزائرية أو بالتزامن معها أضحت أيضا مركزية فيما يتعلق بمقاربته للنظام الاستعماري.

يكفي التذكير ببعض الوقائع :احتلال فلسطين سنة(1948)،حرب التحرير في الهند الصينية(1946- 1954) ، الثورة الكوبية بقيادة فيديل كاسترو و جيفارا ابتداء من سنة 1953، نضال الحركة الوطنية الكونغولية بزعامة باتريس لومومبا، ثم حقبة 1958 في لبنان(ثم التدخل العسكري الأمريكي).

بؤر عدة،جسَّدت ثورة ضد القوى الاستعمارية والامبريالية، سياقات ساهمت في صياغة فكر مهدي عامل حول النظام الاستعماري.طبعا،يظل التأثير الحاسم بالنسبة لأبي، تلك المكونات العربية،المتمثلة أساسا في الجزائر، مصر، فلسطين، ولبنان.

أخيرا،اختياره الانتقال إلى الجزائر والاستقرار هناك، عَكَسَ إرادته كي يختبر واقعيا وبشكل فعلي،تشكُّل نظرياته.أما بخصوص علاقته مع الحزب الشيوعي الفرنسي،فينبغي التدقيق بأن مهدي عامل لم يكن ضمن أعضائه.في المقابل،ربطته صداقات مع أشخاص قريبين جدا انتموا إلى صفوف الحزب،وخاض معهم نقاشات حادة جدا حول محاور متباينة،تؤسس فيما بينهم تبعا لذلك خطوط انقسام.

أظن بأنه من المحتمل، فقد شرع فترة إقامته في فرنسا يعتبر ضرورة مقاربة ماركسية من وجهة نظر بلدان الجنوب.إجمالا،وفعلا خلال تلك الحقبة،المتزامنة مع فترة اشتغاله على أطروحته،ثم بناء على نقاشاته مع أصدقائه في الحزب الشيوعي الفرنسي،حقبة أوج حرب الجزائر، بدأت تتشكل لديه الأصول الأولى المتعلقة بفكرة الحاجة الملحة لأدوات مفاهيمية خاصة ببلدان الجنوب. ففي نهاية المطاف،اتسم الحزب الشيوعي الفرنسي بطابع  صورة استعمارية.

س- من خلال شهادة إيفيلين،نلاحظ الأهمية الكبرى التي حظي بها فرانز فانون بالنسبة إليها وكذا مهدي عامل،لاسيما تأثرهما بكتاب : ”معذبو الأرض”.لقد كتب والدكم العديد من المقالات حول فكر فانون وأشرف في الجزائر على تنظيم سلسلة ندوات حول المناضل المنحدر من جزيرة المارتينيك(ص 247) .

سؤال استلاب المُسْتَعْمَرِ،الذي يقض مضجع مهدي عامل :”ثنائية أن يصبح” ضمن إطار ”استحالة أن يعود ذاته ثم الصراع ضد الأخر الذي يسلبه ذاته”.الرجل الذي صنف دائما بكونه ماركسيا،أو ألتوسيريا،فأيّ موقع يشغله فرانز فانون ضمن مشروعه الفكري؟ألا يمكن التأكيد بأن مهدي عامل تأثر أيضا بأفكار فانون؟

ج-نعم بوسعي الإقرار،دون أدنى شك، بأن أبي تشبع بأفكار فرانز فانون.بحيث لم يقف عند حدود قراءته،بل أيضا درَّسه وساجل بخصوصه.أيضا،كتب مقالات حول فكر فانون،تحضرني مثلا مقالة : ”الفكر الثوري لفرانز فانون” بين صفحات المجلة الجزائرية الثورة الإفريقية (العدد 71/ 72،13 يونيو 1964 ).

في المقابل،أحب العودة إلى ماقلتموه منذ قليل، بأن مهدي عامل نعت دائما بكونه” ألتوسيريا”،وأود التأكيد ثانية بعدم صحة  الإشارة الوارد في كتاب أمي. لم يكن مهدي عامل ألتوسيريا، فقد قرأ ألتوسير، كما فعل نحو العديد من الفلاسفة، وعلماء الاجتماع، والمؤرخين، لكن ليس إلى حد تبنيه، أو اعتبار نفسه من أتباعه.

بالتأكيد،شاع هذا الاعتقاد بسبب  الحيز الذي يشغله مفهوم ”البنية” داخل الجهاز النظري لأبي،لكنه ليس بنزوع ألتوسيري تحديدا؛بل تتمثل ”البنية”عند مهدي عامل في أن يفهم حسب وجهة نظر ماركسية دقيقة. 

س- سنة 1963،استقر الثنائي عامل و إيفيلين في قسنطينة،بعد استجابته لاقتراح يدعوه إلى تولي منصب للتدريس في جامعة تلك المدينة،بينما ستدرَّس إيفيلين اللغة الاسبانية في إحدى مدارسها.أقاما هناك غاية سنة 1967،

وقد وصفت إيفيلين الإحساس العارم بسعادتهما : مَثَّل ذلك بالنسبة لمهدي عامل فرصة للعودة إلى”فضاء يذكره بالطفولة،داخل بلد عربي ينهج طريقا نحو الاشتراكية”(ص 37 ).لذلك،غمرتهما أجواء  نشوة، خلال تلك السنوات الزاخرة بالطموح التالية للاستقلال.

ثورة زراعية، ثقافية، صناعية، فالورش هائل.سنة 1965 ،وقع الانقلاب العسكري بقيادة بومدين ثم اعتقال بن بلة، فتأكدت لدى المثقف مخاوف لم تكن منتظرة.كيف سيحاول مهدي عامل المساهمة في بناء جزائر مابعد الاستقلال؟كيف قارب ظهور البورجوازية الصغرى ثم بأي شيء ستؤثر هذه التجربة الجزائرية في كتاباته حول البورجوازية الوطنية التي يميزها عن”البورجوازية الكولونيالية”؟

ج-يوثق فعلا المشهد الجزائري لمرحلتين. المرحلة الأولى حيث انخرط فيها الثنائي إلى حد كبير،والتطلع نحو المساهمة في البناء الاشتراكي للجزائر،وكذا تحولها السياسي والاجتماعي.وقد تحدثت أمي في كتابها طويلا عن تلك الفترة.

كانت هناك بالتأكيد دروس الجامعة،التي شكَّلت فرصة لأبي كي يتبادل الأفكار مع طلبته،وتكوينهم معرفيا.يلزم أن نتصور ثانية التفاؤل الذي غمر حقبة مابعد الاستقلال في الجزائر،بحيث سادت البلد حلقات نقاش عبر كل الأمكنة، في الثانويات ،والجامعات، والأحياء، وفضاءات اللقاء العمومية،وكذا المناطق القروية….

بعد اغتيال أبي،اتصل بنا العديد من الجزائريين الذين كانت لهم معرفة به خلال فترة شبابهم،سبق لهم أن حضروا أوراشا نظمها أبي،ولقاءات فكرية وكذا أساليب جديدة من التعبئة.أيضا،فترة سنوات قسنطينة،انكب مهدي عامل على كتابة أطروحته لنيل الدكتوراه في الفلسفة المعنونة ب :التطبيق والمشروع،دراسة في تشكُّل التاريخ.ناقشها في جامعة ليون سنة 1967 .

بكيفية سريعة جدا،تبيَّن لمهدي عامل ظهور بوادر الثورة المضادة،وصارت الخيبة موجعة جدا.أعيد تدوين كلمات أمي بهذا الخصوص :”تنزوي الجزائر ثانية إلى الصمت والخوف. ثم تسائِلُ نفسكَ،وناقوس الخطر يرنّ أكثر فأكثر :أيّ مهمة نضالية بوسعك ممارستها وقد صار المجتمع منتفخ العضلات بجهاز عسكري قوي؟متى صار بالإمكان الإجهاز على الحماس الشعبي لصالح تعبئة يرسم معالمها المؤطَّرة أباراتشيك الحزب؟”(ص 288) .

من هنا اتخذ أبي قراره بالعودة إلى لبنان.أما بخصوص الدلالات التي يضفيها على مفاهيم ”البورجوازية الصغرى”،”البورجوازية الوطنية”،”البورجوازية الكولونيالية”.مرة أخرى لاأعتقد بأن التجربة الجزائرية كانت الأولى بهذا الصدد أو حاسمة بخصوص صياغة نظريات أبي،لكنها في المقابل،وهذا يبدو بديهيا، فقد كانت مجالا لاختبار فكره.

يقصد بمفهوم”البورجوازية الكولونيالية ”،تلك البورجوازية التي تفتقد كل”حس وطني” بهذا المعنى لاتقدم أي خدمة لصالح الوطن.تشكلت بنيويا في إطار تبعية لبلدان رأسمالية استعمارية،وهي بورجوازية تجارية أساسا.بينما تمثل”البورجوازية الوطنية”في الواقع”بورجوازية صغرى”،تستند على القطاع الصناعي(من هنا تساهم في الإنتاج الوطني).

التناقضات بين هذه البورجوازيات المختلفة وكذا العلاقات التي تنسجها فيما بينها،ومع الطبقات العاملة ثم القوى الامبريالية-الرأسمالية من جهة أخرى،شكلت موضوع تحليلات مسهبة في عمله النظري. 

س- يشغل موقع اللغة مجالا ضمن مسار والديكم .أولا،تثيرنا تلك البنية المنفصلة لكتاب إيفيلين،بحيث تعقب كل فصل كتبته باللغة الفرنسية ترجمة تقابله باللغة العربية. أيضا،درس والدكم الفلسفة  باللغة الفرنسية وقرأ العديد من الدراسات السياسية.

لكن  في الجزائر،أخذ الثنائي وعيا ب”السلطة التي تلغي الذات”للغة الفرنسية وفق الإطار الاستعماري وتابعا هناك نقاشات انصبت حول استعادة اللغة العربية.حين عودة مهدي عامل إلى لبنان،استطاع تحقيق المنعطف اللساني الأساسي.

أساسي لأنه مفكر الواقع مما يلزمه أن يكون في متناول جمهوره الواسع،وكذا طموحه كي يساهم في تحول المجتمعات العربية،أفق لايمكن تحقيقه سوى باللغة المحلية.هكذا شرع يتعلم ثانية لغته الأولى،بقراءة منتبهة للقرآن(ص 397)،ثم انتقل بعد ذلك إلى الكتابة كليا  باللغة العربية.

مع ذلك،تبقى صلته باللغة العربية معقدة بخصوص إعداد فكره،نلاحظ هذا المنحى من خلال أعماله بحيث أنجز في ذات الوقت كتابا يترجم المفاهيم الفرنسية إلى العربية.قال الشاعر محمود درويش ذات يوم :”أنا لغتي…أنا ماقالت الكلمات… أنا ماقلت للكلمات”.

اسمحوا لي بأن أطرح عليكم هذا السؤال الفضولي :ماهي لغة مهدي عامل؟وهو الرجل الذي اتجه طموحه نحو التفكير في محيطه انطلاقا من محيطه،ألا يوجد تعارض مع كونه يرتبط نظريا بنظام مفهومي واستدلالي أوروبي؟كيف رافق هذا الإشكال عمله ضمن الوجهة التي حقق بها اللقاء بين الماركسية والعالم العربي؟

ج-فعلا، تعتبر الماركسية منهجية بحسب مهدي عامل، مما يقلب أساس الإشكالية التي طرحتموها.لقد استلهم عامل المنهجية الماركسية من أجل تحليل العالم العربي،والتفكير في آليات مناهضة الاستعمار،وفهم حركات التحرر الوطنية،لكنه يقوم بذلك وفق الشروط الأولى بأن هذه المنهجية تقود نحو خلق مفاهيم خاصة بالسياقات التي يتأملها.

لهذا السبب ستكون اللغة العربية جوهرية في البناء النظري.ينبغي، حسب تصوره،التفكير انطلاقا من العربية،بهدف تحرير المجتمعات العربية والعمل على تغييرها.السعي الذي يجعل من اللغة العربية أداة مفصلية.

ينبغي دائما حسب تصوره،أن نخلق، ونبدع،يكرر هذا باستمرار،ثم تقديم الدليل عن ليونة ذهنية وإبداع المفاهيم قصد الإمساك بالمجازفات السياسية التي تحرق دول الجنوب.بالتالي،ينتفي كل تناقض مع مسألة توظيف الماركسية إذا تصورناها كمنهجية تقدم ركيزة الفهم الدقيق للميكانيزمات البنيوية لبلداننا. 

س-كان مهدي عامل من أبرز مفكري الحزب الشيوعي اللبناني.متى انتمى إلى صفوف الحزب؟تحدثت والدتكم إيفيلين في كتابها عن انتماء سري بداية وتحديدا سنة 1957 (لأن الحزب كان محظورا خلال تلك الحقبة)ثم انخراط ثان عام 1968،أشهر عديدة بعد تقديم طلبه بالانضمام.

كان مهدي عامل ماركسيا وقوميا في الوقت نفسه،مثل العديد من الرموز النضالية خلال حقبته.فلماذا اختار الحزب الشيوعي بعد عودته من لبنان،وليس حركة من ”اليسار الجديد”تضم جيلا من المثقفين الماركسيين والقوميين؟أيضا تزامن انتماؤه سنة 1968 ،مع المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي اللبناني والذي عرف انطلاقة جديدة حينما أخذ في الاعتبار الإشكالية القومية العربية،بحيث ترافق جوهريا بشكل متوازي الثورة الاشتراكية.

هل لعب المنعرج السياسي للحزب الشيوعي اللبناني دورا بالنسبة لمهدي عامل كي يختار الانخراط؟ثم كيف وجهت المساهمات الفكرية لمهدي عامل الحزب الشيوعي اللبناني على المستويات النظرية والإستراتجية؟

ج-أختزل مختلف حيثيات الأمر،فأخبركم بأن أمي  أجرت أبحاثا طويلة كي تعثر على التاريخ الدقيق لانخراطه. المؤكد، أن أبي انتمى رسميا سنة1968، إلى صفوف الحزب  الشيوعي اللبناني. سنة 1957 ،كان الحزب لازال يناضل في إطار السرية،بالتالي لم يكن مهدي عامل بالضرورة عضوا في الحزب بكيفية منتظمة.

عموما،كان قريبا من أجوائه،موصولا حتما،بشبكة علاقات.لكن لماذا الحزب الشيوعي اللبناني؟لأن الأخير يمثل حزب الكتلة العمالية في لبنان. استند هذا الاختيار بالنسبة لمهدي عامل على البداهة. بالنسبة إليه، فالنظرية الثورية  لاقيمة لها إلا إذا ساعدت على تغيير العالم، بمعنى وقد أضحت متداخلة في نفس الوقت مع الفعل السياسي. فالنظرية والممارسة شيئا واحدا.

التوضيح التالي يختزل دواعي انتماء مهدي عامل،إلى الحزب الشيوعي:”كنت في حاجة إلى تغيير العالم، لذلك يلزمني استيعابه،بهذا الصدد أحتاج إلى أدوات نظرية.ولكي أختبر أدواتي النظرية تلك، تحتم تجريبها،عبر النضال في صفوف تنظيم جماهيري يضع كهدف أمامه تغيير العالم”.يعتبر حقا الحزب الشيوعي اللبناني الهيئة السياسية الرئيسة لليسار اللبناني،منذ تأسيسه سنة 1924.

كان حزبا جماهيريا يمتلك قاعدة شعبية كبيرة  ومنتميا إلى كل أطراف البلد. وفق منظور أبي، يجسد الحزب الشيوعي اللبناني موضوعيا القوة القادرة على تحقيق التغيير الثوري.مع ذلك، تلزم إضافة إشارة في هذا الإطار، بأن علاقة أبي بالحزب الشيوعي لم تمثل بالنسبة إليه فترة استراحة.بل خاض داخله جدالات قوية، وواجه مواقف معارضة، غير أنه اعتبر دائما ضرورة بقاء تلك التباينات داخل أجهزة الحزب.

مؤمنا بضرورة أن تساعد التوجهات المعارضة على تغير الحزب داخليا، وتكشف عن توجه بناء.لقد اعتبر بأن الحزب الشيوعي اللبناني يمثل فعليا حقلا لتجريب نظريته مادامت النظرية لاتتجلى صحتها سوى انطلاقا من محكِّ الممارسة.

لذلك،اعتقد ببداهة اختياره الحزب الشيوعي اللبناني. لم أصادف حتى اللحظة صدى أثر أو جدال يشي بكيفية من الكيفيات أن أبي كشف عن ارتياب ما فيما يتعلق بانتمائه إلى الحزب الشيوعي اللبناني،الذي يعود تاريخه الرسمي إلى السنة الموالية لانعقاد المؤتمر الثاني شهر يوليوز 1968 .حسب شهادات عديدة،ربما أثر مهدي عامل على طبيعة نقاشات المؤتمر.

يتجلى ذلك خاصة،عندما نطلع على وثائق المؤتمر وكذا تقاريره،بحيث تبدو احتمالية مساهمة أبي في صياغتها.أحتفظ هنا بالشّرطية لأننا لسنا متأكدين،مادامت إثبات الفرضية يحتاج إلى مصادر مختلفة. 

س –سنة 1968،كتب مهدي عامل مقالة،على صفحات مجلة الطريق(مجلة الحزب الشيوعي اللبناني)،تحت عنوان”الاستعمار والتخلف”،اعتبرت بمثابة منبت فكره،دعا من خلاله أطروحات تلك المقالة إلى تحقيق :”فهم ماركسي لماركس”،صياغة لما  ستشكل في الواقع مهاما يودّ التركيز عليها.

ويوضح هوية مساره بهذه المفاهيم :”يفحص ماركس الكولونيالية من منظور الرأسمالية. في المقابل، تسكنني رغبة معالجة القضية من منظور مختلف تماما،بالوقوف عند النزعة الاستعمارية،وليس الرأسمالية.يجدر بتطورنا النظري أن يسير عكس التقدم النظري لماركس”.

يؤكد على علاقة التبعية البنيوية من طرف البلدان المستعمَرَة نحو البلدان الرأسمالية المستعمِرة،وكذا التطور اللامتكافئ المستمر رغم الاستقلالات مادامت لم تتحقق قطيعة جذرية.

يتجلى الاستدلال الماركسي،بين طيات ثلاثين صفحة، متداخلا مع منطق فرانز فانون بكيفية منسجمة على نحو مذهل.لذلك،يظهر بأن تأملاته تقترب بشكل ملموس من مقاربات سمير أمين وكذا مدرسة التبعية خلال تلك الحقبة.هل بوسعكم في هذا المضمار توضيح معطيات أخرى بخصوص تلك المقالة؟

ج-سنة 1968 ، تاريخ عودة أبي إلى لبنان، كان يبلغ من العمر اثنين و ثلاثين سنة. بلغ فكره مستوى من النضج بحيث أبان منطقيا عن الحاجة إلى مأسسته و تصويبه.

لقد كتب دائما تبعا لهذا الشعور بالطارئ، مثلما أوضحت أمي في كتابها .إلحاحية السياق السياسي،أو حيال الزمان الذي يمضي، أو بسببهما معا.لذلك حين عودته إلى الفضاءين الأولين (فرنسا/الجزائر) اللذين أشارت إليهما مقدمتكم. ينبغي أن نضيف إلى ذلك،في هذا المقام أن تلك المقالة الصادرة في جزأين وقِّعت للمرة الأولى باسم مهدي عامل.

لقد أرست تلك المقالة حقيقة معالم لحظة تأسيسية بالنسبة لفكر أبي،وكذا الإنتاج الأساسي لكتاباته اللاحقة التي ستكون إما استطرادات عميقة،لتصوراته تلك أو انعطافات موسعة: إبراز أسس نظرية ماركسية للتخلف وكذا النضال من أجل الحرية الوطنية.أيضا،يلزم استحضار سياق سنة 1967 . بحيث استقر أبي وأمي في لبنان إبان صيف 1967 الرهيب،

وقد تكبدت الدول العربية هزيمة قاسية أمام إسرائيل،أو ماسمي بالنكسة التي أدت إلى انبثاق حركة نضالية قوية وفكرية لليسار في لبنان.    

س-سنة 1982 ،اندلعت الحرب بسرعة. هاجمت إسرائيل بيروت شهر يونيو ثم اجتاحتها شهر شتنبر.على ضوء ذلك،سيشكل الحزب الشيوعي اللبناني،ومنظمة العمل الشيوعي،ثم حزب العمل الاشتراكي العربي نواة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية.هكذا شغل منذئذ الإشكال الوطني العربي دلالة وجودية بالنسبة لمهدي عامل،بحيث لم يصبح مجرد أولوية بالنسبة للثورة الاشتراكية.

بل بالأحرى انطوى عليها،وبأنه شرط لها.تدون ثانية إيفيلين،أحاديث مهدي عامل :”أمامنا قضايا فعلية يلزمنا مواجهتها .قضايا تحديدا،ينبغي لنا معالجتها،حتى إن انتظرت الاشتراكية مائتي سنة.هذا هو معيار صحة الماركسية”(ص 753).

هل يمكنكم أن تشرحوا لنا كيف أن هذه الحقبة وجهت فيما بعد كتابات مهدي عامل؟كتابه في الدولة الطائفية،الصادر سنة 1985،لا يتوخى بالتأكيد تفسيرا للحرب الأهلية لكنه يقاربها مع ذلك بالدعوة إلى فهم بنيوي للدولة اللبنانية،وكذا علاقتها بالمحيط الإقليمي.هل بوسعكم أن تشرحوا لنا أكثر؟ 

ج-قبل الحرب الأهلية، سبق لمهدي عامل أن أنجز جزأين من عمله النظري الكبير : مقدمات نظرية لدراسة  أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطنية : الجزء الأول، عنونه ب : في التناقض (ألَّفه مابين سنتي 1971- 1973) ،ثم الجزء الثاني،اختار له عنوان : في نمط الإنتاج الكولونيالي (كتبه سنة1972،وصدر أربع سنوات فيما بعد).

مع بداية الحرب الأهلية،أحس سريعا جدا بالحاجة كي يتناول ثانية بشكل أكبر كتابة سياقية،متصلة  مع مجال حدوث الحرب الأهلية في لبنان، وكذا التحرير الوطني والنضال من أجل تحرير فلسطين.اختلفت المستويات النظرية بين عناصر ثلاثيته (غير مكتملة) وكذا كتاباته الأخرى. سنة 1985،كتب عمله “في الدولة الطائفية” ،ثم انكب على كتابه الآخر :”نقد الفكر اليومي”.

لوحظ سنوات الثمانينات سواء في لبنان أو العالم العربي،انتشار الحركات الإسلامية بعد الثورة الإسلامية الإيرانية (1979) .حينما طرحت إيران جانبا الرأسمالية والاشتراكية،مدعية بأنها ستنهج سبيلا اقتصاديا إسلاميا،وقد أوضح مهدي عامل بأن نموذج الإنتاج في إيران كان حقيقة رأسماليا.

أيضا،حاول مهدي عامل اختبار الممكنات الثورية للإسلام أو الدين بصفة عامة.وقد اعتبر بأن الدين كما هو في ذاته،لاصلة له بالثورية أو كونه ضد الثورة،وبأنه يشغل منطقيا تلك الوجهة الذي أعطته إياها الحركات السياسية التي تحوله إلى فكرة تأخذ وجهة التقدم أو العكس. سنة 1987 ،اغتيل أبي قبل إتمامه الجزء الثالث من عمله المعنون ب :”في تمرحل التاريخ” ،الصادر بعد وفاته. 

س-سنة 1985،أصدر مهدي عامل مقالة قصدت توضيح بأن نقد إدوارد سعيد لماركس في كتابه الاستشراق (1978) ،اتسم بالتهافت،نظرا لاستناده على استدلال مغلوط، وبالتالي غير صحيح.

يتعلق الأمر بمقطع ورد في كتاب إدوارد سعيد اشتغل حيز أربع صفحات حيث درس نصوص ماركس التي كتبها سنة 1853 حول الهيمنة البريطانية على الهند في إطار تحليل شامل لنموذج الإنتاج الأسيوي.

ماركس وهو يستنكر تماما الشراسة الكولونيالية،فقد تأكد له في نهاية المطاف بأن تدمير: “المجتمع الأسيوي القديم”من طرف انجلترا يعتبر صيغة”ثورة اجتماعية”أتاحت للهند الانبعاث،وبأنه : ”مهما كانت جرائم انجلترا،فقد مثلت وسيلة لاواعية للتاريخ بالتحريض على هذه الثورة”. 

ج –فقد لاحظ إدوارد سعيد في ذلك إبرازا  لزخم  هيمنة الإيديولوجيا الكولونيالية خلال فترة كتابات ماركس ،بحيث عجز الأخير نفسه حقيقة عن التخلص منها،رغم  إبدائه استعداده الوجداني(أكد إدوارد سعيد هذه الحقيقة غير مامرة)كي يصطف إلى جانب المضطَهَدين.

آخذ مهدي عامل على إدوارد سعيد إفراطه في تقدير الثقل الحتمي للبنية،وإغفاله   في الآن ذاته ديناميكية صراع الطبقات في تشكل الأفكار،وكذا استقلال الفرد قياسا للبنية. يمكننا فهم قصد مهدي عامل من دفاعه عن الماركسية تبعا للسياق الذي كتب فيه : داخل لبنان يعيش ذروة حرب أهلية استطاعت إبانها إسرائيل طرد الثورة الفلسطينية،

طموح تحقق تزامنا مع تراجع الشيوعية ،وحيث الثورة المضادة تحتل المجال كاملا.أعتقد بأن مهدي عامل يستشرف وقوع ذلك،وبأن موقفه يشرحه سياق من هذا القبيل. 

س-رحل مهدي عامل مبكرا،سنة 1987 وسط مدينة مزقتها حروب الشوارع من أجل تحقيق هيمنة سياسية.نستشهد بكلام إيفيلين :”لقد انضممتَ ياشهيد القضية العربية،إلى صفوف كوكبة النجوم وأبطال ذاكرة خالدة”(ص 940).

كيف تواصل، فيما بعد، تأثير مساهمات مهدي عامل النظرية(أو عدم ذلك) في الحزب الشيوعي اللبناني؟وحركات أخرى لليسار اللبناني،وكذا اليسار العربي عامة؟مركز مهدي عامل الذي تأسس سنة 2003 ،يسعى إلى توثيق وكذا ترجمة مشروع المفكر،فهل يمكنكم أن تقدموا لنا مزيدا من التوضيحات فيما يتعلق بهذا المشروع؟وهل نترقب أيضا ترجمات إلى اللغة الفرنسية؟

ج-مباشرة بعد اغتياله، تعبأت شبكة كاملة من الأصدقاء والمثقفين، وبادرت سنة 1987،كي تؤسس بمدينة ليون : جماعة أصدقاء حسن حمدان/مهدي عامل.مابين سنوات 1988 و1995،فقد حققت هذه الهيئة عملا رائعا، بحيث شرعت تنشر تقارير فصلية تضمنت ترجمات بعض مقالات مهدي عامل،

وكذا شهادات متنوعة وأيضا دراسات حول فكره،مثلما نظمت العديد من الندوات. وقد ترجمت عموما كتابين : مجموعة شعرية “فضاء النون” (منشوران ميسيدور،1970 )،ترجمة ليلى الخطيب وراجعه عبد اللطيف اللعبي،ثم ”في الدولة الطائفية”(منشورات لابريش،1996).

حاليا،أغلقت هاتان المؤسستان الناشرتين،أو جمدت نشاطها.أيضا،أشرف على رعاية الجمعية لجنة مثلتها أسماء من حجم : محمود درويش، لوسيان سيف Séve، جاك كولاند، سمير أمين، كاتب ياسين، جورج أمادو،إلى  جانب آخرين .

سنة 2002 ،استطاعت أن تضم إلى صفوفها أربعمائة منخرط.وقد ساهمنا في أنشطة مختلفة، بل توفرنا على منصة خلال احتفالات عيد الإنسانية طيلة سنوات.سنة 1995 ،رجعت إلى لبنان،وقد أحسسنا فعلا بالحاجة إلى التحول بالجمعية نحو الأصدقاء داخل البلد وكذا العالم العربي،حيث يلزمنا المكان حقيقة بتأطير الشباب واطلاعه على كتابات أبي.

وقد أطلقنا على هذه الجمعية اسم :المركز الثقافي لمهدي عامل.أعددنا عروضا مسرحية،وحفلات موسيقية،وندوات فكرية،وأنتجنا أيضا شريطا مسموعا تحت عنوان الثقافة والثورة،تضمن تسجيلا صوتيا لمداخلة مهدي عامل خلال لقاء نظم بمدينة طرابلس اللبنانية سنة 1986 .

يتجه هدفنا الرئيسي حاليا نحو الترجمة وتعميم ذلك بالانجليزية أولا.مشروع،بدأ يؤتي أكله، فقد كان مهدي عامل تقريبا غير معروف لدى الأنغلوساكسونيين،بيد أنه منذ1995 ، أصبحت تلك الأوساط،تلتمس منا، أكثر فأكثر،مؤلفات أبي.

هكذا،استطعنا إنهاء مشروع للترجمة إلى اللغة الانجليزية لنصوص منتقاة ستصدر قريبا.أريد في النهاية  الإفصاح عن تأثري الشديد بتجدد الاهتمام،الأكاديمي والنضالي،خلال الآن نفسه.

بحيث يسكن اليوم مهدي عامل فكر العديد من مناضلي الشباب العربي.مثلا في تونس،خلال أيام الربيع العربي سنة 2011، زينت صورة له إحدى الواجهات الجامعية.في مصر، نشر مناضلون نصوصا لأبي وكذا مقاطع من كتبه على مواقع التواصل المجتمعية.

في الجزائر،توجد مكتبة تحمل اسم مجموعته الشعرية(فضاء النون).في لبنان،خلال الانتفاضة الشعبية الأخيرة،دونت على جدار الرينغ(جسر يصل ثانية بين ماكان يسمى بيروت الشرقية وبيروت الغربية خلال الحرب الأهلية)مقولة لأبي :”كيف يمكن للثورة أن تكون نظيفة بينما تخرج من أحشاء الحاضر الملوث؟”.

إذن، مهدي عامل حاضر،يشكل جانبا من الراهن المضطرب،ولم يوضع جانبا على رفوف خزانات عتيقة،إنها القضية الأهم في اعتقادي، بمعنى استمرار عمله في إثراء الممارسات النضالية.الضروري،أن يتم بالتأكيد حاليا انتقاده،أي تأويله بطريقة نقدية،لأنه في حالة بقاء فكره جامدا،فسيمثل ذلك قتلا ثانيا له.

هذا الكتاب الذي أنجزته أمي،هيأته حتى يتمكن أحفادها وكذا مختلف المناضلين الثوريين في العالم من قراءة مهدي عامل واكتشاف هويته،ومكان قدومه، ثم منجزه.

تقول :”لاعلاقة لهذا النوع من الكتابة بترميم،أو عزاء.بل تتوخى فتح السبيل نحو دراما شخصية بالتأكيد،لكنها حميمية مرتبطة جدا،موصولة ثم مشدودة إلى مأساة سياسية تاريخية.مأساة البلدان العربية،

وكذا بلدان العالم المستعمَرَة والتي تتطلع نحو التحرر من الهيمنة الاستعمارية.المأساة التي انتقدها تحديدا مهدي عامل،المفكر كالإنسان تماما،عبر جلِّ مواقف حياته :تصرفاته، أحاديثه، مداخلاته العمومية، كتاباته.فلا يوجد فاصل بين حياته وفكره.حياته فكر،كما أن فكره تجربة حياتية،بحيث ذهب صوب أن يعيش مختلف أفكاره”.  

مصدر الحوار :  

Contretemps :revue de critique communiste ;13 Mai 2020.

سعيد بوخليط‎

سعيد بوخليط : كاتب ومترجم وباحث من المغرب، حاصل على شهادة الدكتوراه في النقد الحديث، يشغل حالياً مهنة مدرس للغة العربية في سلك التعليم الثانوي التأهيلي. أصدر العديد من الكتب ترجمةً وبحثاً وتأليفاً؛ ومعظمها يدور حول أعمال الفيلسوف الفرنسي (غاستون باشلار).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى