“الفلسفة الفرنسية المعاصرة” موسوعة بالعربية تشمل الفلاسفة وحقولهم
تمثل موسوعة “الفلسفة الفرنسية المعاصرة – اتجاهاتها ومذاهبها وإسهاماتها” مشروعاً فلسفياً سباقاً ورائداً في حقل الدراسات الفلسفية باللغة العربية، يشرف عليه الفيلسوف والأكاديمي مشير باسيل عون.
وتتألف الموسوعة التي ليس لها ما يماثلها، حتى في فرنسا نفسها، من عشرة أجزاء تصدر تباعاً عن دار صوفيا في الكويت، وتتوزع حقولها ومحاورها العشرة بين الفلسفات البنيوية والتفكيك والاختلاف والفنومنولوجيا وفلسفات الروح والوجود وفَسَارة (تأويل) المعنى، والفلسفات الجمالية، والفلسفات السياسية والأخلاقية، وفلسفات العلوم وفلسفات الطبيعة والإبستمولوجيا.
وحديثاً، انطلق الجزء الأول المختص بالفلسفات البنيوية والتفكيك والاختلاف، وقد شارك فيه تأليفاً وبحثاً، ثلاثة عشر أكاديمياً ومفكراً، من ذوي الإسهامات والأبحاث، وهم: مارلين كنعان، وباسيل الزين، وشادي كسحو، وأنطوان سيف، مي – لين الدبس، وجمال نعيم، وزهراء الطشم، وخالد كموني، ويوحنا عقيقي، ورندى أبي عاد، ووفاء شعبان.
- أبحاث أكاديمية
إذاً، ما الجديد الذي يحمله الكتاب، ومشروع السلسلة الفريدة عربياً؟ للإجابة يمكن القول إن ثمة أموراً لم يسبق لتجارب الترجمة الفلسفية إلى العربية (السابقة) أن لحظتها، أولها أن هذا الكتاب كناية عن مجموعة من المقالات البحثية، الجدية والعميقة والشاملة، يقوم بها أكاديميون، بحّاثة، ومختصون بالفلاسفة الفرنسيين الذين يجري الكلام عليهم، وليست أعمالاً ترجمية.
وثانيها أن كلاً من هؤلاء الباحثين ظاهر العناية بالمصطلحات الفلسفية تدقيقاً ونحتاً وتأصيلاً، بمقدار عناية الفيلسوف عون، المشرف على الموسوعة بالمصطلحات وبتأثيلها وتجديدها وربطها بالتراث الفلسفي العربي. والأمر الثالث، أن هذه المقالات، إلى كونها تعالج مسائل فكرية وفلسفية راهنة، سواء في عالمنا العربي، أو في العالم الغربي المعاصر.
فإنها تُسائِل، في المقام الأول، ضمير المفكر والفيلسوف العربي – إن وُجد – عن دوره المفترض في صوغ توجهات النخبة في مجتمعه إلى كل ما هو خير وحق وجمال، وفي أن “توفر للثقافة العربية المعاصرة المكونات النظرية للنهضة” على ما يدعوه إليها ناصيف نصار.
في المداخلة الأولى التي تعد بمثابة تقديم ضافٍ وشامل، وعنوانها “مقدمة عامة: مقامات الاختلاف في الفلسفة الفرنسية المعاصرة، أو في امتداح الانتهاك الفكري”، (ص 5-58)، يوجز عون المشرف على الكتاب، أهم المحاور التي سعى الأكاديميون إلى تبينها، على التوالي، وأولها “التنازع بين الحياة والمفهوم”.
وعنى به انهمام الفكر الفرنسي، المخضرم والشاهد على نهاية القرن التاسع عشر، وصولاً إلى منتصف العشرين، بأمرين قد يبدوان متناقضين، وهما الفكر والحركة، يمثلهما كل من هنري برغسون وليون برنشفيغ.
وإذا كان الأول (برغسون) قد عني بإيلاء الذات الإنسانية بأبعادها الميتافيزيائية التي “ورثها العقل الغربي عن المثالية الأفلاطونية”، فإن الثاني (برنشفيغ) ومن جاراه في اتجاهه، سعوا إلى “استيعاب الإرث الديكارتي بالاستناد إلى الابتكارات الجريئة التي أفرج عنها الفلاسفة الألمان”(ص 9).
ومضى يبين، بالدلائل المُستلّة من أعمال كليهما، ومن خلال أبحاث المنضوين تحت لواءيهما، كيف أن الفلسفة الفرنسية تعاطت مع الذات الإنسانية في ما يتجاوز ثنائية الوعي/ اللاوعي والنوازع الجنسية المكبوتة، إلى تصور التحليل النفسي للنار لدى برغسون، والكينونة والعدم لدى سارتر، وغيرهما.
وبالمقابل، انصرف دعاة حركة البنيوية الفرنسية، أمثال كلود – ليفي ستروس، ورولان بارت وجاك لاكان، إلى تقصي الوقائع الإثنولوجية والأنثربولوجية، وتبين ما فيها من بنى عميقة، متعارضة ومتكاملة، وأولية، وأخرى مكتسبة، قياساً على ما كانوا قد لاحظوه في البنى اللغوية، من فردينان دسوسور حتى رولان بارت وميشيل فوكو وغيره.
وفي ما يورده الفيلسوف عون حول خصائص الفلسفة الفرنسية المعاصرة، أنها تُسائِل عن وضعية الإنسان “في كيانه وقوامه وهويته ومقامه ووظيفته ودعوته ورسالته ومغزى وجوده على وجه الإطلاق (ص 21).
- المشهد الفلسفي
ولعل الفلسفة الفرنسية، في هذا الشأن، كانت مفتتنة افتتاناً بيناً بالفلسفة الألمانية الحديثة والمعاصرة، ولا سيما فلسفات نيتشه، وفرويد، وهوسرل، وهايدغر، على ما يقوله عون.
ولا يزال يتتبع حركة الفلسفة الفرنسية، في تعاقب مراحلها، فيرى أن المشهد الفلسفي ما لبث أن تبدل، بعد ما أصاب الأنظومتين الماركسية والفرويدية الانحلال، فاتجه الفلاسفة نحو تطوير فينومنولوجيا هوسرل، وإغنائها بمساهماتهم المفيدة، ومن هؤلاء جان فرنسوا ليوتار، وبول ريكور، ومرلوبونتي، وإيمانويل لفيناس، وغيرهم.
ومن ثم يمضي الكاتب في مقدمته، وبالنقطة الرابعة منها، إلى الإضاءة على مسألة الاختلاف والمخالفة والخلف في الفلسفة الفرنسية المعاصرة، إذ يفهم منها أنها تصف مسالك الفلاسفة الفرنسيين الذين سبق ذكرهم، باعتبارهم منضوين، كلاً على حدة، إما في سلك التفكيك، أو في البنيوية، أو في الاختلاف، أو المخالفة، أو غيرها، من أمثال ليوتار، ودولوز، ودريدا، ولاكو – لابارت، ونانسي.
وهنا تتجلى براعة الفيلسوف في التقاط الخصائص المميزة لكل من هؤلاء الفلاسفة، الذين وإن انبثقوا من معين واحد، أو جذر فلسفي معاصر بذاته، فإن كلاً منهم اختطّ لنفسه مساراً كان كفيلاً بإغناء الجذر الأول، إضافة لكثير من الأفكار الفلسفية الجديدة، نظير ما قام به دلوز، وغاتاري، ودريدا، وفيليب لاكو – لابارت، وجان – لك نانسي، وغيرهم.
تضمن الكتاب الفلسفي الموسوعي الكبير نسبياً (508 صفحات)، العديد من الأبحاث والمقالات البحثية القيمة، تناولت كلاً من الفلاسفة المذكورين في المقدمة الموجزة، والمتمحورة أعمالهم حول البنيوية والتفكيك والاختلاف.
فكان البحث المستفيض الأول من نصيب الأكاديمية مارلين كنعان، الذي درست فيه فلسفة جورج باتاي بعنوان “فيلسوف الإسراف والإقامة على تخوم الذات والوجود”. وقدمت وجوه هذا الفيلسوف المتعدد الشواغل والحقول، فلسفياً وأدبياً وميتافيزيقياً، ولا سيما عمله المتفرد في فلسفة الأروسية.
- فلسفات متعددة
وخص البحث الثاني بالكلام على موريس بلانشو، أعدّه لهذه الغاية الأكاديمي باسل الزين، وكان عنوانه “في هدم الأنساق”، وقد عالج فيه مسعاه إلى صوغ اللغة المجاوزة، والقبض على الأصل الأول في الأداء اللغوي.
أما البحث الثالث فقد تولى فيه الأكاديمي شادي كسحو درس تجربة إميل سيوران الفلسفية، بعنوان “الكاوس أو دهاليز الخراب، تعليق على كتابات سيوران”.
وبالطبع، يتسنى للقارئ أن يتعرف إلى أبرز سمات الكتابة السيورانية التي وإن خاضت حرباً مفتوحة على الخواء والعدم واللامعنى، “فإن فلسفته لا ينتظمها مركز تدور عليه” (ص 121). المقالة البحثية الرابعة على التوالي، من كتابة باسل الزين، وكان بعنوان “رولان بارت، رحلة البحث عن الكتابة خارج اللغة”.
وفيها يعرض الباحث لأهم خطوط تجربة الكاتب والفيلسوف والسيميولوجي رولان بارت، والذي كان أول من أخطر بموت المؤلف، وعين درجات للكتابة (من الصفر)، ثم أباح لذة النص، بعد أن كشف عن بنياته، وغيرها من الكشوفات الفريدة.
في البحث الخامس يناقش أنطوان سيف إسهام جان – فرنسوا ليوتار الفلسفي بعنوان “في معنى الوضع ما بعد الحداثي والاختلاف”. وفيه يؤرخ الباحث للحداثة الأوروبية وإشكاليتها التاريخية، ويجيب عن أسئلة الفيلسوف الكبرى: “لماذا نتفلسف؟”، ويعرض للدروس الأربعة (لماذا نرغب، والفلسفة والبداية، وعن اللغة الفلسفية، وعن الفلسفة والفعل).
- ما بعد الفلسفة
بينما عرضت المقالة البحثية السادسة، بقلم مي – لين الدبس لفلسفة دلوز، بعنوان “من فلسفة التفكيك إلى ما بعد الفلسفة”. وقد عادت الباحثة إلى جذور فلسفة دلوز لدى كل من سبينوزا ونيتشه، ولدى برغسون وهيوم، قبل أن تركز على فلسفة الاختلاف والتكرار لديه، وصلة المحيط بالفلسفة، وابتكاره مفاهيم في الفلسفة غير يسيرة على الأفهام.
ثم كان لكل من الأكاديميين التالية أسماؤهم: جمال نعيم، وشادي كسحو، وزهراء الطشم، وخالد كموني، ومشير باسيل عون، ويوحنا عقيقي ووفاء شعبان، ورندى أبي عاد، في معالجة كل من الفلاسفة على التوالي: ميشال فوكو، وجان بودريار، وجان بورديو، وجاك دريدا، وسارة كوفمان، وجان – لك نانسي، وجيل ليبوفسكي.
لا أقول إنه “الكتاب” الفلسفي لئلا يظن به فيظلم، وإنما هو خير تمهيد وتنبيه للفكر العربي، وللتفلسف بالعربية، ولعله يباشر مساءلة العقل المفكر (بلغة الضاد) عن أحوال إنسانه وزمنه وأوصابه، وهي كثيرة. من بعد التشاور العلمي.
استقر الرأي على تصنيف اتجاهات الفلسفة الفرنسية المعاصرة في محاور عشرة (منها فلسفات البنيوية والتفكيك والاختلاف، والفنومنولوجيا وفلسفات الروح والوجود وفسارة المعنى، والفلسفات الجمالية، والفلسفات السياسية والأخلاقية، وفلسفات العلوم وفلسفات الطبيعة والإبستمولوجيا). من المبهج أن الاختيارات قد أشرفت على الاختتام.
في بعض الأجزاء وزعت معظم المواد. أما في الأجزاء الأخرى، فتبقى بعض المواد معروضة للاختيار، تترقب تصيد الباحثين الرصينين الجديرين.