تشومسكي ومسؤولية المثقفين
كتب نعوم تشومسكي Noam Chomsky؛ مقاله بعنوان مسؤولية المثقفين The Responsibility of Intellectuals ونشرها في ذا نيويورك ريفيو أوف بوكس The New York Review of Books بتاريخ 23 شباط 1967 ولم يزل يتحدث بها ويضيف عليها حتى اليوم مواضيع مختلفه مثل حقوق المرأه , وخداع الذات وغيرها ,
فبعد انهيار الإتحاد السوفييتي وأفول نجم الشيوعيه لم يعد للدفاع عن الشيوعية مكان يحتل نعوم تشومسكي وهو يهودي مولود عام 1928 مكانه بارزه بين الكتاب الأمريكان , بعد تأسيس الوطن العبري تزوج من يهوديه وعاش معها في كيبوتس في اسرائيل عام 1949 لكنه غادرها عائداً الى الولايات المتحده للحصول على شهاداته العليا في الألسنيات.
يتحدث عن تلك الفتره فيقول : أحببت تلك الفتره ، ولكني لم أستطع تحمل الجو الأيدولوجي هناك والحماسه القوميه . وذكر تشومسكي أنه رأى العديد من العناصر الإيجابيه في مجتمع الكيبوتس ، وحين سُئل فيما إذا كانت هناك دروس من الممكن لنا أن نتعلمها من تاريخ الكيبوتس أجاب:
في بعض النواحي فستجد أنهم كانوا أقرب للأناركيه المثاليه أكثر من أي محاولة أخرى لم تستمر , فقد كانوا جذابين وناجحين للغاية ولو صرفنا النظر عن الحوادث الشخصيه فلربما كنت سأعيش هناك.. إلى متى؟ من الصعب تخمين ذلك
تشومسكي شيوعي أناركي , والأناركيون على خلاف حاد مع الماركسيين , يكفي أن نزاعاتهم الحاده مع ماركس نفسه أجبرته كأحد أسبابه المهمه على نقل أمميته الأولى من باريس الى الولايات المتحده , وكان الأناركيون لايعتبرون الماركسيه أكثر من نقل لعبودية العامل من يد الإقطاعي رب العمل الى يد الدوله ,
ولكن لو تصفحت مقالة تشومسكي التي لا تزيد مساحتها عن 30 صفحه فستجدها مكرسه للدفاع عن أنظمه شيوعيه ماركسيه من الصين حتى امريكا اللاتينيه
يتساءل تشومسكي في بداية المقال عن مسؤولية الشعوب عما ترتكبه حكوماتها من فضائع بنفس الطريقه التي الشعب الأمريكي غير مسؤول فيها عن الفضائع التي ترتكبها حكومته حول العالم . ثم تحدث عن الحرب الإيطاليه الأثيوبيه الثانيه 1935 _ 1937 التي أجبرت الإمبراطور هيلا سيلاسي Haile Selassie على اللجوء الى انكلترا , وحسب قوله : عجز عصبة الأمم عن الوقوف بجانب اثيوبيا ,
وكأنه لا يدري بأن الحزب الإيطالي الفاشي هو صنيعة المخابرات البريطانيه التي كانت تدفع الى موسوليني 100 جنيه استرليني شهريا لينفق منها على الحزب الفاشي ليقف بوجه المد الشيوعي في العالم , وأن الغزو الايطالي لأثيوبيا كان بعلم بريطانيا وموافقتها وتشجيعها للوقوف بوجه الطموح الأمريكي طرد كل القوى التي تستعمر أجزاء من افريقيا واعتبار القاره برمتها مقفلة أمريكياً.
منها ينتقل الى حملات التطهير الروسي خلال عهد ستالين معتبراً إياها جريمه لا تغتفر , متناسياً انها كان جريمه ( ضروريه ) بعد القيام بها كان مبرراً لستالين إعلان الستار الحديدي الذي فصل شرق قارة أوربا عن غربها ما يزيد على نصف قرن لإنهاء الوفاق البريطاني الروسي 1907 وفاسحاً المجال للنفوذ الأمريكي التغلغل في كل دول القاره ومتسللاً منها الى مستعمرات تلك الدول في آسيا.
مقاله تشومسكي مقسمه الى فقرات . في الفقره التاليه يتحدث عن مسؤولية المثقفين في قول الحقيقه وفضح الأكاذيب وهذا شيء جميل , لكننا نرى أن على المثقف تطبيق عدالته على نفسه كما يطبقها على سواه . حين عاش تشومسكي في اسرائيل بعد نهاية الحرب العربيه الإسرائليه الأولى باعتباره يهودي قومي مؤمن بعدالة وأحقية قضية أمته , ورأى الحياة هناك جميله رغم كل ما رافقها من قتل واغتيالات وتهجير واباده جماعيه للفلسطينيين ,
فليس من حقه انتقاد الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر Martin Heidegger في إعلانه المؤيد لهتلر عام 1933 بعد تعيينه رئيساً لجامعة فرايبورغ University of Freiburg فهايدغر مواطن يمتدح قائد بلاده وقبل كل شيء هتلر لم يكن أكثر من يهودي مشرد يأكل الفتات وينام على الأرصفه . البنوك الأمريكيه العامله في أوربا هي التي حولته الى فوهرر ليضطهد اليهود ويجبرهم على الهجره الى اسرائيل.
يناقش تشومسكي بعدها عدداً من القضايا الشيوعيه مثل خليج الخنازير في كوبا , الغزو الأمريكي لفيتنام , غزو غواتيمالا في 1954 والإطاحه برئيسها الشيوعي جاكوبو أربينز Jacobo Árbenz لأنه تحدى نفوذ شركة الفواكه المتحده الأمريكيه United Fruit Company ثم من غواتيمالا يقفز مباشره الى ايران فيقول بأن محاوله روسيه كانت تبغي فرض حكومه مواليه في شمال اذربيجان تمنح السوفييت الحق في نفط ايران ,
وثوره شعبيه التفت حول مصدق لتأميم نفط ايران وكأن كاتب المقال لا يعلم أن انقلاب مصدق كان انقلاب امريكي بإمتياز لإخراج نفط ايران من تحت السيطره البريطانيه , وأن ضابط المخابرات الأمريكي كيرميت روزفلت Kermit Roosevelt كان قد دفع مبلغاً كبيراً الى أردشير فضل الله زاهدي Ardeshir Fadlullah Zahedi أثناء العمليه أجاكس operation ajax من أجل المحافظه على حياة مصدق بعد الإطاحه به , فيما تم تعيين فضل الله زاهدي والد أردشير رئيساً للوزراء خلفاً لمصدق
أما حديثه عن الحرب في فيتنام فيبدو والله أعلم أنه أسسه بناءاً على قراءة الصحف والمجلات لأنه لو كان قد قرأ التاريخ حقاً فمن المؤكد كان سيعثر على المكتب الأمريكي للخدمات الستراتيجيه American Office of Strategic Services الذي تم تأسيسه ليقود شعوب جنوب شرق آسيا وعبر وسائل مختلفه لطرد مستعمريهم ليحل النفوذ الأمريكي محلهم , ومن تجارب هذا المكتب في المنطقه تعلم الأمريكان فرضيات نظرية الدومينو Domino theory في السياسه والحرب .
وكان سيعثر على العلاقه المباشره ودون وسيط التي جمعت هو شي منه Ho Chi Minh بالأمريكان منذ العام 1913 ونصيحتهم له بأن يصبح شيوعياً , وكان سيدرك أن الحرب في فيتنام بين الأمريكان والشيوعيه لم تكن أكثر من لعبه متفق عليها بينهما لإخراج الفرنسيين الذين يستعمرون فيتنام منذ العام 1858.
وحين سقطت باريس بيد الألمان جاء اليابانيون وإحتلوا فيتنام ولم يخرجوا منها إلا بعد توقيعهم معاهدة الهزيمه في الحرب العالميه الثانيه , وبعد أن أدت الحرب أغراضها قام الأمريكان بتسليم فيتنام الى حكم هو شي منه.
ثم يخلص المقال الى عجز المثقف الغربي عن صناعة التحول لأنه إكتفى بالرفاه الذي حققته المجتمعات الغربيه ويقول : عندما نفكر في مسؤولية المثقفين ، يجب أن يكون اهتمامنا الأساسي هو دورهم في خلق الأيديولوجيا وتحليلها . وتعليقنا أن عالم اليوم يتحكم فيه الإقتصاد كما لم تتمكن أية آيديولوجيه أن تفعل.
دور المثقف في عالم اليوم من وجهة نظرنا أن يكون موضوعياً وذا نظرة إنسانية شامله لا تقتصر على فئة واحده من البشر, وأن يطلق أحكامه بتأني وبعد دراسة كافيه , وأن يطبق أحكامه على نفسه قبل تطبيقها على غيره , وأن يستوعب فكرة أن الفرد هو أساس المجتمع الذي لا يبنى إلا على صلاح الأفراد.
النص الأصلي: