هل يمكن تطبيق البحث اللساني في الدراسات القرآنية؟
المسوِّغ المعرفي الذي يمكِّننا من اتخاذ البحث اللساني أداة مساعدة لتحليل واستنباط الدلالة القرآنية، يستند إلى الإجابة عن الإشكالات التي تعترض تطبيق اللسانيات في مجال القرآن الكريم، تلك تفرض نفسها من جراء التطبيقات التي أجريت عليه باسم اللسانيات، ومن سؤال الكفاية والحاجة للمناهج العربية الإسلامية التي حِيكت ونسجت بالتعايش مع النص ومن أجله بأيدي علماء المسلمين.
الإشكال الأساسي هو النزعة الوضعية في اللسانيات مقابل النص الديني الإلهي المصدر، وإذا كنا نعني بالوضعية المذهب البحثي في العلوم الاجتماعية فإن هذا ينطبق بشكل كامل على اللسانيات، التي قامت – كما ذكرنا آنفاً- وسط تأثيرات العلم التجريبي والسعي نحو ضبط العلوم الإنسانية وفقاً لمناهج العلوم الطبيعية،
لكن ذلك يعني من جهة أولى أن العلوم اللسانية قائمة على المحسوس الخاضع للتجربة، أي العلامة اللغوية بشكلها الفيزيائي (الشفاهي والمكتوب)، ويعني من جهة ثانية التعامل مع اللغة واستعمالاتها: (المفردة، الجملة، النص) بوصفها إنتاجاً بشرياً يخضع للمنطق البشري في الإنتاج والتلقي للكلام.
وعلى رغم اعتبار بعض الباحثين أن الدرس اللغوي العربي كان معيارياً، إلاّ أن الجهود الأصولية واللغوية عموماً تثبت أنه عندما تمّ تفحص إشكالية الكلام واستكناه مقوماته العضوية «استطاع أن يتجاوز موضوع بحثه – وهو الكلام- من دون أن ينفصل عنه، فكانت الرؤية لديه ذات بناء تجريبي اختباري، وكان مسارها المعرفي نابعاً من اللغة، «مُطِلاً من خلالها على آفاق النظر المجرّد» (على حد تعبير اللساني عبد السلام المسدي)؛ ذلك أن التراث العربي اللغوي وفَّر لنا أدلة غزيرةً على هذا الاستخلاص الجوهري.
فلقد اعتمد البحث العربي على المنطق الاستقرائي، وهو المنطق الذي يحكم البحث التجريبي، واستمد نتائجه في شكل برهاني قائم على الاستدلال بما هو «حادث في اللغة» وليس بما «يجب أن يحدث أو يكون»، ذلك ما أضفى على البحث اللغوي العربي سمته «الموضوعية»، وهو الأمر نفسه الذي حصل في اللسانيات وأدى إلى انطلاقها، بل ودخولها في كل العلوم الاجتماعية.
إن كون النص القرآني نصاً لغوياً لا يعني تقديس اللغة وتجاوز التعامل معها بوصفها موضوعاً يخضع لشروط البحث العلمي، فاللغة وسيلة اتصال، وتقديس الرسالة لا يعني تقديس أداة الاتصال ذاتها؛ فثمة اتفاق بين العلماء على هذا المنظور الوظيفي للغة،
وهذا يعني نفي أن تكون اللغة قيمة مطلقةً في حدِّ ذاتها يسلبها طابع القداسة وسمة التعالي، بل لقد جعل هذا المنطق في النظر إلى اللغة التفسيرَ والتحليلَ موسومَيْن بالموضوعية أيضاً؛ ذلك أن ذات المفسّر ابتداءً يجب ألا تؤثر في استنباطه، إذ يتحدد دوره في «استكشاف المعنى» وليس إنتاجه وتأليفه كما يشير الشاطبي في مقدماته.
بهذا المعنى يمكن القول إن البحث الدلالي في تفسير القرآن عموماً حسِّي، بمعنى أنه يستند إلى الدليل المادي اللغوي فيتصف بالموضوعية (مقابل الذاتية)، أوَليست مقولة «التمسك بالظاهر» هي مقولة عموم المسلمين؟، ثم ألا يشترط العلماء في التفسير موافقة اللغة؟ كل هذا يعود إلى أن القرآن – بحسب اعتقاد المسلمين – هو من عند الله «لفظاً ومعنى»،
الأمر الذي حفَّز العقل المسلم للبحث اللغوي وطَبَعَه بهذا الطابع الموضوعي إلى الحد الذي أصبح من غير الممكن «الفصل – على أي مستوى – بين الإسلام واللغة» (على حد تعبير الشاعر أدونيس).
ثمة انسجام إذاً بين اللسانيات والبحث الدلالي في القرآن الكريم من زاوية اعتماد الدليل اللغوي المادي المحسوس، لكن مسألة الوضعية – كما أشرنا – لا تتوقف عند هذه الحدود في اللسانيات؛ فاللسانيات نشأت وتعاملت مع النصوص اللغوية ضمن المناخ العلماني، فمجال عملها كان الاستخدام الإنساني للغة.
الإشكال الثاني – الذي يطرح عادة – هو: كيف يمكن تطبيق قواعد ومناهج أنتجت للكلام والنصوص الإنسانية على النّص الإلهي المصدر، المفارق للوضعية البشرية؟
لا بد من القول أولاً إن المناهج الإسلامية العربيّة لم تفرّق بين النّصين من جهة دلالتهما اللغوية، أقصد بين النّص البشري والقرآن الكريم، وإذا قيل إن المناهج العربية أُسست على محورية النص القرآني، وبه بدأت انطلاقها.
وذلك يعني أن المناهج العربية قامت أساساً لدراسة النص الإلهي المصدر، فإن هذا القول سيؤدي بنا لاعتبار أن مناهج اللغة العربية هي مناهج أنشئت لدراسة نص إلهي المصدر وطبقت على نصوص بشرية! إلاّ أن أحداً لا يقول بذلك؛ إذ لا يوجد تفريق في الدراسات اللغوية ولا حتى الأصولية يشير إلى الفرق بين الاثنين في المناهج.
لكن هل يعني ذلك أنه لا يوجد تمييز في البحوث الدلالية العربية بين النص البشري والنص الإلهي؟ إنها في الواقع تميّز بشكل صارم ولكن على المستوى التأويلي، وليس على المستوى التفسيري اللغوي المباشر. إن الفارق بين نسبة النص إلى الله (سبحانه وتعالى) ونسبته إلى الإنسان يتوضَّع في نقطتين أساسيتين:
نسبية المعنى والقصد في النص البشري وارتباطها بالسياق الثقافي والتاريخي، في حين يمتلك النص (المفترض أنه إلهي المصدر) القدرة على التعالي فوق المعطى التاريخي مع وصفه «فاعلاً آنياً يؤسس التاريخ ويؤثر فيه، ويصنع الثقافة ويتجاوزها دائماً إلى أصلٍ قائمٍ فيه، غائب عن الثقافة،
أي لم تقله ولم تفكر فيه بعد» (على حد تعبير اللساني منذر عياشي)، وهذا ينسجم مع الإيمان بعالميّة الرسالة وأبديتها باعتبارها أمراً ممكناً ومعقولاً، وهذا بالطبع يقتضي عدداً من اللوازم ليس هنا مجال شرحها.
ثم إنه بينما يمكن للنص الإنساني أن يكون ذاتياً لا يحمل رسالةً سوى التعبير عن الذات؛ كما هو الحال في النص الإبداعي الأدبي الشعري، إلاّ أنه بالنسبة نصٍ منسوب إلى الإله المطلق (كما هو متصور في العقيدة الإسلامية) المستغني عن الغير يعني بالضرورة هدفاً وغايةً ليست ذاتية،
وإنما تتعلق بالمفارق (المرسل إليه)؛ ذلك أن الله أيضاً منزه عن العبث، وغير محتاج لأن يعبر عن ذاته لغيره؛ لأجل ذلك ما كان من الممكن للقرآن أن يكون شعراً.
وإذا كان النص القرآني من إحدى زوايا النظر إليه يتمتع بجانب عظيم من الأدبية – وهو أمرٌ يشترك فيه مع النص الإنساني – فإن التركيز على الأدبية واعتبارها الوجه الأوحد للنص يمكن أن يفضي إلى إخضاعه للمعايير الإنسانية؛ لأجل ذلك يمكن القول إن القرآن يتداخل في بنيته مع كل أنواع النصوص الأدبية والإنشائية والخبرية، لكنه في اللحظة ذاتها مفارق لها جميعاً؛ كما توصل الباقلاني في دراسته عن إعجاز القرآن.
إعداد: عبد الرحمن الحاج – باحث من ســوريا.