سرديات

أنطولوجيا الرواية

إن تعقل الوجود، يعني من بين ما يعنيه التساؤل عن جدوائيته والغاية من وجودنا في ثناياه المتشعبة في الزمان والمكان، في الحاضر والمستقبل وربما الماضي كذلك .


إن كل سؤال مرتبط بالوجود سيكون بلا ريب سؤالاً مؤرقًا وقلقًا وشاقًا، إنه سؤال عن الذات سواء في بعدها الذاتي (الأنا) أو في بعدها العلائقي (الأغيار) الذين أتقاسم معهم العالم بشكل قسري …، والسؤال كما يقول مورسي بلانشو: استقصاء. إنه بحث عن الجذور وغوص في الأعماق وحفر للأسس وتقصي الأصول1.

إن السؤال بهذا المعنى محاولة للإدراك، إدراك الذات في علاقتها بذاتها وبالعالم، وفعل الإدراك سيجعلنا نتيقن أننا لا نزيد عن كوننا كائنات قذف بها في العالم بغير إرادة ولا اختيار …، وأننا لا نقترب سوى من الموت في كل لحظة وجودية نعيشها في هذا العالم .


إن الفرد العبقري حسب شوبهاور هو الوحيد الذي يستطيع عبر معرفته الحدسية إدراك جوهر الوجود وحقيقة الحياة. لقد أدرك عبر التأمل والتساؤل أن إرادة الحياة بما هي نزوع غير عاقل واندفاع غريزي نحو الحياة، لا يمكن أن يكون سوى فعل لا عقلاني تحركه الغريزة الجنسية والأنانية العمياء الطامحة لتخليد النوع، فيكفي قليل من التأمل حسب شوبنهاور لإقناعنا بـ”أن الحياة ليست خليقة بشيء من الحب والاستمرار”2. يقول: “إن الشقاء يزداد حدة وشدة تبعًا للارتفاع في سلم الكائنات حتى يصل إلى أعلى درجاته عند الفرد العبقري … وكلما نفذ الإنسان إلى أعماق الوجود أدرك ان ماهيته الأصلية هي الشقاء، ورأى أن الوجود ما هو إلا سقوط مستمر في الموت”.


التفكير في جوهر الوجود، ومعه التفكير في جدوائية الوجود في العالم، هو الطريق الملكي للقلق الوجودي، قلق لا يحتاجه الكائن السعيد الذي يحقق سعادته خارج أسئلة الوجود المؤرقة والقلقة …إن الكائن السعيد كما يقول فولتير هو كائن بليد، فمفهوم السعادة لديه محايث بالبلاهة، في قصة أدبية في قالبها وفلسفية في عمقها، يحدثنا عن حكيم هندي، متقد الذهن، يملك كل ما يمكن أن يجعل المرء في قمة السعادة، لكنه كان تعيسًا لأنه لا يجد أجوبة لأسئلته الميتافيزيقية والوجودية، ما جعله قلقًا ومرتبكًا بل وخجولاً من نفسه كلما تحدث، يقول فولتيرعلى لسان الحكيم: “رغبت في أني لم أولد قط (…) كلما عدت لكتبنا القديمة ازداد شعوري سوادًا وقتامة، يصيبني اليأس حينما أفكر أنه بعد كل أبحاثي العديدة، مازلت أجهل من أين أتيت، ومن أكون، أجهل مآلي وما سأصير” …،


يضيف السارد أنه قابل جارة الحكيم الفيلسوف في نفس اليوم، وسألها هل شعرت يومًا بالأسى لأنه لم تعرف كيف تكونت روحها …، لم تفهم الجارة حتى السؤال نفسه، ولم تفكر قط في أي من الأسئلة التي شغلت بال الحكيم، وكانت تعتقد في قرارة نفسها أنها أسعد النساء …

سيعود بعد أن صدم بجواب الجارة، وسيسأل الحكيم قائلاً: “ألا تشعر بالخجل من كونك تعيسًا، بينما بقربك توجد جارتك التي لا تفكر في أي شيء وتعيش فرحة وسعيدة؟”، معكم حق يجيب الحكيم، لقد قلت مئة مرة إنني سأصير سعيدًا لو كنت ببلاهة جارتي، ومع ذلك فإنني لا أرغب بسعادة كتلك.


يختم فولتير حكايته قائلاً: “إذا كنا نقدر السعادة عاليًا، فإننا نقدر العقل أكثر”.

إن الأسئلة التي تؤرق البرهمان، هي أسئلة وجودية في عمقها، جعلته يحمل همًّا وقلقًا وجوديًا، فكلما تعمق القلق الوجودي لدى الكائن الإنساني إلا وأحس بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه، إنها مسؤولية كون الأنا موجودًا وعليه تحمل مسؤولية وجوده وحيدًا، مسؤولية بناء ماهيته الممتدة امتداد الأنا في الوجود .


إنها أسئلة لا يطرحها سوى العباقرة بلغة شوبنهاور، وهم من سماهم هنري برغسون بالأبطال، لأنهم يحملون خطابًا كونيًا إنسانيًا، يمكن أن يحرر البشرية ويخرجها من تقوقعها الحشري (يتحدث برغسون عن المجتمع المنغلق عقديًا وثقافيًا … والمدافع عن أبناء جنسه الذي يتقاسم معهم المشترك ويشبهه بمجتمع الحشرات)- نحو رحابة الإنسانية أي نحو الكونية الفلسفية، ويدعونا برغسون لضرورة الاستجابة لنداء الأبطال ومن بينهم الفنانون …

يمكن للفن عمومًا أن يخفف عنا قلقنا الوجودي، كما يمكن أن يكون مخلصًا ومنقذًا من أزمة الوجود في العالم، ولعل فن الرواية أجدر بهذه المهمة، مهمة تحقيق الخلاص للإنسان القلق…، وهي كغيرها من الفنون “لا يمكن أن تقدم شيئًا لمن هم راضون بما لديهم، إنها قوت الروح المتمردة” يقول ماريو بارغاس يوسا..

فـ”الفن في حد ذاته، وربما الأدب بوجه خاص، رفض للعالم القائم، وتعبير عن النقصان وعن قلق الوجود. إن من يشعرون بالراحة لأحوالهم ويعشقون الحياة عموما ويرضون عن حياتهم خصوصًا لا يحتاجون أبدا لاختراع عالم مواز عن طريق الكلمات”4.


إن الرواية الجيدة، تكشف لنا عبثية العالم وسخرية الوجود، لكنها لا تقف عند حدود تجعلنا ندرك حقيقة الوجود، بل تساعدنا على الرجوع للوجود بعد أن أخذتنا في عوالم تخييلية، ونحن نحمل أفقًا جديدًا للتفكير في تفاصيل العالم، الأمر الذي سيخلصنا ولو نسبيًا من هذا الهم المؤرق، يقول أومبرتو إيكو في هذا الصدد: “إن التجول في عالم سردي له طعم اللعب نفسه عند طفل صغير.

إن الأطفال يلعبون بأحصنة من خشب، ويلعبون بدمى أو بطائرات ورقية، لكي يتأقلموا مع القوانين الفيزيائية والأفعال التي سيقوم بها فعلاً ذات يوم. وبالطريقة نفسها، فإن قراءة محكي ما معناه ممارسة لعبة نتعلم من خلالها أن نعطي معنى للأحداث الهائلة التي وقعت أو تقع أو ستقع في العالم الواقعي.

إننا، ونحن نقرأ روايات، نهرب من القلق الذي ينتابنا ونحن نحاول قول شيء حقيقي عن العالم الواقعي (…) تلك هي الوظيفة الاستشفائية للسردية، إن السردية نفسها تعطي شكلاً للفوضى التي تميز التجربة”5.


تؤدي إذن الرواية حسب أمبرتو إيكو وظيفة استشفائية، أو تطهيرية كما بين أرسطو قبل ذلك، فقد انتبه أرسطو لغائية الفن، وكشف ضمن العلل التي صاغها، العلة الغائية لفن التراجيديا وهي التطهير أو “Catharsis“، وذلك عبر إثارة انفعالي الخوف والشفقة.

حاول الدكتور محمد مندور ضمن كتابه “الأدب ومذاهبه” أن يشرح معنى التطهير، وقد أكد قبل ذلك على الاختلاف الموجود بين الدارسين حول هذا المفهوم الأرسطي الذي تعمد أرسطو أن يتركه بلا تحديد دقيق حسب ذات الباحث، يقول مندور: “إن أرسطو يريد أن يقول إن المأساة – بإثارة انفعالي الخوف والشفقة بما تعرض من أحداث- تخلص نفوسنا مما هو مكبوت فيها من أمثال تلك الانفعالات، وكأنها تداوينا بالتي كانت هي الداء.

وإذا كان أرسطو قد قصر التطهير على هذين الانفعالين، فالراجح أنه إنما فعل ذلك، لأن التراجيديا الإغريقية القديمة التي استقى منها نظريته في الغالب تثير هذين الانفعالين دون غيرهما”6.


وفي السياق ذاته نجد المفكر الفرنسي إدغار موران، يشرح مفهوم (catharsis) قائلاً: “لقد أدرك أرسطو أن التراجيديا اليونانية، عندما تستثير الرعب والشفقة، تخلق لدى المتفرجين شعورًا عميقًا له سمة المحرر، كان يسميه بالتنظيف، أو التطهير (…) الذي يسمح بتحويل المعاناة والألم والموت إلى انفعالات سعيدة دون القضاء عليها، بل على العكس من ذلك تبرزها (…). يؤلمنا المسرح الإليزابيثي والشكسبيري، وأفلام العنف والتعذيب والمعاتاة، ويفرحنا على حد سواء، إذ يغلف الخير الشر ويدجنه”7.


إن الاستشفاء يقتضي ضرورة وجود مرض نأمل الشفاء منه، غير أن علة الأجساد تتوسل العلاج بالأدوية والتطبيب، فما هو المرض الذي يمكن للرواية أن تساعدنا على الشفاء منه؟

إنه مرض الوجود، أو فخ سقوطنا في العالم، فالعالم كما يرى ميلان كونديرا لا يعدو أن يكون مجرد فخ، “فالإنسان يولد دون أن يطلب ذلك، ويحبس في جسد لم يختره، جسد منذور للموت”8، ألا يكفي هذا التشخيص أن يجعلنا نتيقن أن مرضنا مرض وجودي لا يستطيع سوى الروائي الجيد تشخيصه، روائي خبر مسالك هذا الفن الأصيل وهو الوحيد القادر على أن يسعفنا من خلال تقديم عوالم تخييلية قد لا تقول الحقيقة، لكنها لا تكذب، عوالم يمكن أن تعيد لنا القدرة على الرؤية والإبصار لنتجاوز بذلك عمانا الوجودي ولنتمكن بدون عصا العميان من كشف الفخاخ والمتاريس والكمائن التي نصبت لنا في مرحلة ما قبل وجودنا لتزيد من شقائنا وقلقنا وبؤسنا الوجودي.


إن الرواية فضلاً عن كونها تضطلع بوظيفة استشفائية، فهي كذلك تساعدنا على أن تكون لنا فكرة عما هو العالم، أي أن تكون لنا فرضية أنطولوجية كما يقول كونديرا، فكرة أن العالم فخ، و”أن الحياة الإنسانية بوصفها كذلك هي هزيمة، والأمر الوحيد الذي يبقى لنا إزاء هذه الهزيمة المحتومة التي ندعوها الحياة هو محاولة فهمها وهنا يكمن سبب وجود فن الرواية”9.

إن العلة الوحيدة لوجود الرواية كما قال بروخ هي اكتشاف ما لا يتسنى سوى للرواية اكتشافه، اكتشاف الإنسان، فكل رواية هي في عمقها تفكير في الأنا، إن الأنا التي ينحثها الروائي عبر شخوص الرواية تتجاوز حدود الجغرافيا الضيقة نحو أفق الإنسانية الرحب، فالأنا بتعبير غومبروفيتش تتوقف على عدد ساكنة كوكب الأرض….

فالمتن الروائي ذو بعد كوني، وموضوعه هو الوجود الإنساني، والوجود كما يرى كونديرا لا يعني الواقع، لأن الوجود ليس هو ما وقع، بل الوجود هو حقل الإمكانات الإنسانية هو كل ما يمكن أن يصيره الإنسان10  …


لنأخذ على سبيل المثال إحدى أشهر روايات كافكا “الإنمساخ”، إنها تبتدأ بجملة صادمة ستصيب القارئ لا محالة بصعقة تشبه إلى حد كبير ما كان يحسه السفسطائي أثناء محاورة سقراط، وهذا دفع أحد هؤلاء يقول مخاطبًا سقراط: إنك يا سقراط تشبه سمك الأنقليس الرعاد، تصعق محاورك بأسئلتك وتتركه مشدوهًا مستشعرًا جهله غارقًا في خواء داخلي قاتل…، وربما ما نحسه ونحن نقرأ عبارة كافكا يشبه إلى حد كبير شعور السفسطائي وهو يحاور سقراط …

يقول كافكا11: “حين أفاق غريغور سامسا، ذات صباح من أحلامه المزعجة، حتى وجد نفسه وقد تحول في فراشه إلى حشرة ضخمة”.


يلخص لنا المترجم السوري الفذ إبراهيم وطفي شعوره وهو يقرأ لأول مرة هذه العبارة قائلاً: “حين قرأت لأول “مرة حين أفاق غريغور سامسا، ذات صباح من أحلامه المزعجة، حتى وجد نفسه وقد تحول في فراشه إلى حشرة ضخمة”، شعرت على الفور وكأنني تلقيت على حين غرة ضربة على رأسي. قلت لنفسي في لا وعيي: هذا هو الحال. لا، ليس هذا حلمًا. إنهم ينظرون إليك في الواقع وكأنك حشرة.”

لقد سبق لكافكا أن قال: “على الكتاب أن يكون الفأس التي تكسر البحر المتجمد فينا”، لقد كانت كتابات كافكا مرعبة وسوداوية لحد الهلوسة، إلا أنها حقًا ضربة إزميل مؤلمة استطاعت أن تكسر جبال الجليد المتجمدة في دواخلنا، لا يمكن لمن قرأ الـ”ميتامورفوز ” إلا أن يشعر بصعقة أليمة تنتشل أناه الممزقة نتيجة انغماسها الكلي في تفاهة اليومي، وسعيها الحثيث لإرضاء الجماعة الغارقة في وجود وصفه هيدجر بالزائف….،


صعقة تعيد القارئ لذاته وتجعله يتساءل قائلاً: ألا يمكن أن أكون أنا جريجوري سامسا؟ ألست حشرة مقززة الملمس والمنظر تتقاذفها الأقدام وتعافها الأنفس؟ ألم أَصِر منذ زمن حشرة خسيسة قذرة ترمقها نظرات الإشمئزاز وترجئ سحقها؟

إن كافكا من العباقرة القلائل الذين استطاعوا تشخيص أزمة الإنسان الفردية والكونية على حد سواء، إن انعدام القيمة النفعية للأنا تجعله حشرة مقززة يتجدد موتها رمزيًا كل لحظة، ويصير معها العدم أفضل حالاً من نظرات تختزل كثيرًا من العار والتقزز…،

قد نستحيل حشرات مرعبة في أعين الأسرة12، فيقذف لنا بالطعام بأطراف الأقدام، ويتم التلصص علينا من ثقب الباب، ونسمع همساتهم عن موعد موتنا أو الرغبة الجادة في إقبارنا… يرسم لنا كافكا لوحة مأساوية تلخص شعور الأسرة البارد بعد موت “سامسا”:


– لحظة موت “سامسا”: “انظروا، لقد نفق، إنه يستلقي هنا وقد نفق بالكلية!”

– ردة فعل الأب: “الآن يمكننا أن نحمد الله. ورسم على صدره الصليب”

– ردة فعل الخادمة: “.. قالت الخادمة ودفعت، للتدليل على كلامها، جثة غريغور إلى ناحية ما، مسافة طويلة بعصا مكنستها.”

– ردة فعل الأم: “قامت السيدة سامسا بحركة وكأنها تريد أن توقف المكنسة، لكنها لم تفعل.”

ما بعد “سامسا”: “فكرا (والدا سامسا)، وقد أصبحا أكثر هدوءًا، وراحا يتفاهمان عبر النظرات وعلى نحو غير واع تقريبًا، فكرا أن الوقت سيحين الآن لكي يبحثا لها (أخت سامسا) عن زوج فاضل أيضًا. وكان الأمر أشبه بتوكيد لأحلامهما الجديدة”.

حين انتفت قيمة “سامسا” المشروطة بوظيفته وإعالته لعائلته، صار موته ميلادًا جديدًا للأسرة، وتفكيرًا في مستقبل خال من قذارة “سامسا” وشكله المرعب.

حاول كافكا أن يصور لنا نظرته لذاته بطريقة مأساوية، وبعمق فلسفي لا يستطيعه سوى كافكا، فبطل “الميامورفوز” سامسا “له نفس نموذج الحروف المتحركة والساكنة كما في “كافكا” بالضبط. وإذا وضعنا في اعتبارنا أن “كافكا” كان يعرف اللغة التشيكية، فسنجد أنفسنا مدفوعين إلى ربط “سامسا” بالكلمة التشيكية “sám” أي “نفسه” أو “نفسها””13.

غير أن الرواية تتجاوز كافكا لتعكس بطريقة ساخرة وقاتمة الشرط الإنساني، فكافكا كما قال كونديرا “تحدث عن شرطنا الإنساني (كما يتجلى في عصرنا) بطريقة لن يستطيع أي تفكير سوسيولوجي أو سياسي أن يحدثنا عنه على النحو الذي قام به كافكا”14.

إن الرواية تتجاوز مهمة الإمتاع والمؤانسة، واستثارة الجمالي الدفين في النفس البشرية، إنها وسيلة للمعرفة ومصدر خصب لفهم الإنسان في بعده المركب، فالرواية كما يراها كونديرا، تستطيع استيعاب الفلسفة، بينما هذه الأخيرة لا تستطيع استيعاب الرواية، ويذكرنا بروايات رابليه وسربانتس في “نزوعها نحو إدماج أجناس أخرى، نحو استيعاب المعارف الفلسفية والعلمية”15، من أجل بلوغ غايتها الوحيدة وهي اكتشاف الإنسان.

إن الرواية كما يقول إدغار موران لا تزودنا بشعور جمالي فقط، بل بالمعرفة أيضًا، ويذهب إلى أبعد من ذلك بكثير حينما قال: “ما ينقص العلوم الإنسانية هو معرفة الإنسان في تعقيده، إذ الإنسان فيها على العكس مقسم ومجزأ بين التخصصات. أما الرواية فتبرز التعقيد الإنساني.”16.

الرواية تتجاوز الروائي نفسه، فهو يخط بداياتها، غير أنه يجهل المصير الذي ستنتهي إليه عوالمه التخييلية والرمزية أو السحرية، وربما تصير الرواية لعنة تصيب القارئ وتجعله كائنًا غريبًا عن ذاته وعن العالم، لعنة تخرجه من طمأنينته الساذجة ونظرته المطمئنة للوجود، وسعادته البليدة، نحو التوتر والقلق واللاطمأنينة.

إن ولوج العوالم السردية أشبه بلذة الاتصال الجنسي وما يستبعه من نشوة ورعشة، إلا أن الخروج منها لا يحقق نفس اللذة، بل يولد ألما يعكس إلى حد كبير ألم الكتابة لدى الروائي الذي يشبه ألم المخاض، فالكتابة ألم ومتعة، كالولادة تمامًا؛ ألم المخاض وفرح التحام الأم برضيعها لأول مرة، وقراءة الرواية لا تختلف عن هذا الشعور … إنها تولد إحساسًا جماليًا، إلا أنها تغير لا محالة نظرتنا للوجود، بطريقة يستحيل معها أن نعود لحالة ما قبل دخول العوالم السردية .


الروايات الجيدة هي وحدها من تغيرنا، صحيح أنها تجعلنا ندرك عبثية العالم وتصيبنا بلعنة القلق الوجودي، إلا أنها تخلصنا منه أيضًا، إنها الداء والدواء في ذات الآن، تجعلنا نفكر في البحث عن توافق مع الواقع لنتمكن من تحمله، وهذا التحمل يمكن تحقيقه عن طريق “التجميل المعمم، فالجمال يمكن أن يثير ما أسماه باسكال الترفيه الذي بصرف انتباهنا، عبر المشاعر التي ينتجها، عن الشقاء الطبيعي لوضعنا الهش والقاتل، والبائس جدًا إلى درجة لا يوجد معها شيء يواسينا”17، إن صرف الانتباه بالمعنى الباسكالي لا يتأتى إلا عبر الانتباه، فنسيان وضعنا المأساوي لا يتأتى إلا عبر مشاهدة أو قراءة المأساة، ونسيان الموت مشروط بالتفكير في الموت، وهذا ما يقوم به “الفن الرائع والرواية الرائعة والفيلم الرائع، تذكرنا بوضعنا وتضعنا أمام مصيرنا وموتنا (…) وتساعدنا على تحمل فائض الواقع الذي لا يطاق، تمنحنا العجائب التي نستقي منها الطاقة لمواجهة قسوة العالم.”18.

في عالم يتنامى فيه التوحش والافتراس والقتل والإرهاب، ويعيش فيه الكائن البشري في تيه وضياع وجودي قاتل، سيكون أكثر ما نحتاجه إلى جانب تجذير الوعي الكوكبي (الوعي بالمصير الإنساني المشترك) بلغة موران، هو تعميم الجماليات بدل عولمة الأمراض والحروب والأوبئة والمجاعات والإبادات الجماعية…. إن تعميم الجماليات يعني من بين ما يعنيه مواجهة أعداء الفن، فكره الفن يمكن تفهمه، فـ”أن لا يملك الإنسان إحساسًا اتجاه الفن ليس أمرًا خطيرًا. يمكن للمرء ألا يقرأ بروست، وألا يسمع لموسيقى شوبرت ويعيش في اطمئنان. لكن عدو الفن لا يعيش في اطمئنان. إنه يشعر بنفسه مهانًا بسبب وجود شيء يتجاوزه، فيكره هذا الشيء.”19…، يقتضي الأمر إذن تربية جمالية بشكل متواصل، تسعفنا في صناعة إنسان صديق للفن، له إحساس اتجاه الفن، متشبع بالقيم الجمالية والكونية، ومنتج لها…

 يقترح إدغار موران توزيع الأعمال الفنية والجمالية مجانًا على الطلاب، من أدب وشعر وموسيقى… يقول موران: “يمكنني القول إن هذه الأعمال يجب أن توزع مجانًا على الطلاب، إنها أكثر أهمية من الكتب المدرسية”20. إن تعميم الجماليات هو المدخل الممكن للتداوي والشفاء من التمزق الوجودي، وانتصار للقيم الكونية والإنسانية على نزعات التعصب والوثوقية العمياء.

المصادر والإحالات:

1 – موريس بلانشو، أسئلة الكتابة، ترجمة نعيمة بن عبدالعالي وعبدالسلام بن عبدالعالي، دار تبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2014، ص9.

2 -أمل مبروك، الفلسفة الحديثة، دار التنوير للنشر، بيروت، 2011، ص277.

  3 – Voltaire, « Histoire d’un bon Bramin », Gallimard,coll,cooll. « Folio »,1992.

4 – نانسي هيوستن، أساتذة اليأس: النزعة العدمية في الأدب الأوروبي، ترجمة وليد السويركي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، الطبعة الأولى،2012م،ص19.

5 – أمبرتو إيكو، تأملات في السرد الروائي، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 2015، ص142.

6 – محمد مندور، الأدب ومذاهبه، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة التاسعة، يناير 2010، ص 182.

7 – إدغار موران، في الجماليات، ترجمة يوسف تيبس، منشورات مجلة الدوحة، العدد 145، نونبر، 2019، ص28.

8 – ميلان كونديرا، فن الرواية، ترجمة خالد بلقاسم، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2017، ص35.

9 – ميلان كونديرا، الستارة، ترجمة معن عاقل، دار الفرابي للنشر، بيروت، ص14.

10 – ميلان كونديرا، فن الرواية، ص 52.

11 – فرانز كافكا، الإنمساخ، ترجمة: إبراهيم وطفي، دار الكلمة، الطبعة الأولى، 2014، ص11.

12 – يضيف إبراهيم وطفي في تعليقه على قصة الإنمساخ: فيما بعد قرأت عن هذه القصة ما يلي «لا يصوغ كافكا ظواهر سوريالية، وإنما يصوغ حقيقتنا، وذلك بأقصى درجات الصدق الفني… الحقيقة المرعبة لهذه القصة هي الإدراك أن أجمل العلاقات بين الناس وأكثرها رقةً وحنانًا إنما تقوم على الخداع».

13 – ياسر شعبان، فرانز كافكا: أساطير المحاكمة والتحول والجسد، كنوز للنشر والتوزيع، ص 68-69.

14 – ميلان كونديرا، فن الرواية، ص133.

15 – نفس المرجع، ص75.

16 – إدغار موران، في الجماليات، ص 104.

17 – نفسه، ص69.

18 – نفسه، ص97.

19 –  كونديرا، فن الرواية، ص158.

20 – إدغار موران، في الجماليات، ص111.


مجلة فكر الثقافية

رشيد اللحياني

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى