سرديات

سرديات القرآن الكريم

قد يتساءل البعض: ماذا يمكن للسرديات أن تقدم في دراسة القرآن الكريم؟ وهل يمكنها أن تضيف شيئا جديدا بالمقارنة مع مختلف الدراسات القرآنية التي أنجزت قديما أو حديثا، وبمختلف المناهج والمقاربات، سواء من لدن المسلمين أو غير المسلمين، أو غيرهم من الدارسين الأجانب من ملل ونحل لا حصر لها؟


لا شك في أن القرآن الكريم نص مختلف عن غيره من النصوص التي أنتجها الإنسان، بما تدل عليه كلمة اختلاف من معان. إنه أساس الحضارة الإسلامية ومرتكزها الجوهري. وبسبب خصوصيته قدمت تلك الحضارة مساهمة كبرى في تاريخ البشرية.

إنه النص الذي مكن العرب المسلمين من تجاوز حدود فضائهم الجغرافي، ونقلهم من القبيلة إلى الدولة، ومن المجتمع الذي تهيمن فيه الشفاهة إلى مجتمع تسود فيه الكتابة. كما أنه النص الذي يقدسه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، ويولونه قيمة خاصة في حياتهم الدينية والدنيوية، ويقرأونه آناء الليل وأطراف النهار.


قد لا نتمكن من حصر مختلف ما يتميز به هذا النص، منذ أن ظهر إلى الوجود، بالقياس إلى نصوص أخرى أنتجها المسلمون أو غيرهم من الأمم والشعوب.

كان الشعر العربي قبل الإسلام يحظى بمكانة في النفس العربية، جعلته أشبه بـ«المقدس» في حياتهم، لكن انتشار القرآن بينهم جعلهم يزيحون الشعر من مكانته، ويحلون القرآن موقعا متميزا، فحفظته الذاكرة الجماعية، وعملت على نقله إلى الكتابة. وما يزال، إلى اليوم، وسيظل يحفظ هذا النص بكامله عن ظهر قلب، من قبل مختلف الأجيال العمرية.


ولا يتأتى هذا إلا للقرآن الكريم. أنزله العرب والمسلمون مكانة خاصة من الاهتمام والدراسة فأوجدوا له مختلف العلوم، التي تخصص فيها ما لا يحصى من المنشغلين بتتبع جزئياته وتفاصيله على مرّ العصور، بل وصل الحد إلى إحصاء كلماته ومفرداته، لقد وصل عدد علوم القرآن عند الزركشي إلى 47 علما، بينما السيوطي أوصلها إلى 80 علما.


لم يتوقف الاهتمام بالقرآن الكريم في العصر الحديث، وكان للاستشراق دور السبق في الانطلاق من العلوم الحديثة، والاستفادة من العلوم التي انشغلت بالكتاب المقدس، في تناول النص القرآني.

وكل علم من هذه العلوم انشغل به الدارسون وفق اتجاهات وطرائق متعددة. ولما كانت بعض تلك العلوم قد اكتملت نهائيا، كونها قد انتهت إلى تقديم كل ما يمكن تقديمه بصدد هذا النص، نجد علوما أخرى ما تزال وستظل مفتوحة على الاجتهاد والاستكشاف، وأخرى جديدة ظهرت مع تطور العلوم الحديثة، ولا شك أن أخريات ستكون قيد التشكل.


لقد تعددت قراءات النص القرآني في مختلف العصور والأزمنة والأمكنة، وفي كل عصر يقرأ في ضوء المعارف والعلوم الجديدة، وسياق التطورات التي تعرفها حاجات الإنسان ومقاصده. لقد انشغل بالقرآن الكريم المؤمنون والملحدون، وتباينت طرق شرحه وتفسيره وتأويله وفق اجتهادات تسعى إلى فهمه وتثمينه أو تبخسيه والتنقيص منه.

فكان المؤيدون والمعارضون والمحايدون. نجد من صعَّده إلى درجة الحديث عن إعجازه وتعاليه عن غيره، مما أنتج من نصوص دينية أو غيرها. كما نجد من يشكك في ذلك ويعتبره نصا عاديا، بل لا يخلو من أخطاء لغوية وأسلوبية.

تعرض هذا النص قديما للتفسير والتأويل والتأول. فأقدم على ذلك أرباب الملل والنحل والطوائف الدينية المختلفة، سنية كانت أم شيعية وغيرهما.


كما انبرى له المنطلقون من العقل أو النفس أو الهوى. دافع بعضهم عن التأويل ورفضه بعضهم الآخر. وكل يسعى اعتماد مقاربات تتصل بالمجالات المعرفية السائدة في عصره. درسه اللغويون والنحويون ونقاد الأدب والفلاسفة والصوفية، حتى صار بإمكاننا الحديث عن «المكتبة القرآنية» التي تحتوي على آلاف المجلدات الخاصة بدراسة القرآن الكريم.

لم يتوقف الاهتمام بالقرآن الكريم في العصر الحديث، وكان للاستشراق دور السبق في الانطلاق من العلوم الحديثة، والاستفادة من العلوم التي انشغلت بالكتاب المقدس، في تناول النص القرآني. وكان للبحث في تاريخه وتشكله وتدوينه النصيب الأوفى.


وطرحت قضايا حول مصادره القديمة، وهل هو منزَّل أم مؤلف؟ وهل ما يوجد بين أيدينا تام أو ناقص؟ وما شاكل هذا من الأسئلة التي ردّ عليها الدارسون المسلمون بطرائق ووجهات لا حصر لها.

وفي وقتنا الراهن ما تزال الدراسات تظهر بين الفينة والأخرى وبمختلف اللغات مؤيدة أو معارضة أو مشككة، وهي تستفيد من العلوم الحقة أو الاجتماعية والإنسانية، أو من اللسانيات والسيميائيات وغيرها من العلوم الجديدة.


تغتني المكتبة القرآنية باطراد بدراسات يعمل بعضها على قراءته وفق ترتيب القرآن الكريم في المصحف، أو حسب نزوله. كما نجد دراسات تعنى بالأحكام أو بالقصص، وأخرى تعمل على تقديم قراءات جزئية لسور أو آيات، أو تهتم بموضوعات معينة، وبمختلف المقاربات والمناهج، سواء كانت أسلوبية أو فنية أو تاريخية أو أيديولوجية..


ماذا يمكن أن تقدم السرديات في دراسة القرآن الكريم، وبماذا يمكنها ان تتميز عن غيرها، وهي علم ظهر حديثا لدراسة السرد، وليس لكل النصوص؟ صحيح في القرآن قصص، ويمكن للسرديات أن تعنى بالقصص القرآني، لكن أن نتحدث عن سرديات للقرآن الكريم فهذا تعميم يتجاوز حدود الاختصاص.

تسعى السرديات كما أتصورها إلى ما أسميه «القرآنية» باعتبارها خاصية سردية، لتكون مدخلا للقراءة.

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى