سرديات

كتاب “الأدب والغرابة” دراسة تحليلية

  • تقديم :

يعتبر عبد الفتاح كليطو من أهم رواد النقد العربي الحديث إلى جانب عبد الكبير الخطيبي وموريس أبو ناضر وعبد السلام المسدي وكمال أبو ديب وعبد الله الغذامي وحسين الواد وجمال الدين بن الشيخ ومحمد مفتاح وجميل شاكر وسمير المرزوقي وصلاح فضل وخالدة سعيد ومحمد بنيس وأدونيس.

وقد تميز عبد الفتاح كليطو بدراسة الثقافة العربية الكلاسيكية بمناهج نقدية أكثر حداثة وتجريبا وتأصيلا بسبب انفتاحه على الأدب الغربي ومناهجه النقدية واطلاعه العميق على التراث العربي القديم. ومن أهم كتبه النقدية التي أثارت ضجة كبرى في الساحة الثقافية كتاب “الأدب والغرابة” الذي صدر عن دار الطليعة اللبنانية ببيروت في طبعته الأولى سنة 1982 م في (117) صفحة من الحجم المتوسط مع العلم أن هذه المقالات كتبت في سنوات عقد السبعين ونشرت في منابر ثقافية شتى.

إذاً، ما هي القضايا النقدية التي يطرحها الكتاب؟ وماهي خصائصه المنهجية والأسلوبية والفنية؟ تلكم هي الأسئلة التي سنرصدها في مقالنا المتواضع هذا.


  • التعريف بالكاتب ؟ 

الدكتور عبد الفتاح كيليطو باحث مغربي وأستاذ جامعي، درس الأدب الفرنسي في كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط. بدأ ممارسة الكتابة النقدية منذ الستينيات، وكرس حياته العلمية لمقاربة الثقافة العربية الكلاسيكية على ضوء مناهج نقدية حديثة بنيوية وسيميائية مستفيدا من الفلسفة الغربية وآليات البلاغة العربية القديمة ومعارف التراث العربي القديم والحديث.

وقد أثرى الساحة الثقافية العربية بصفة عامة والمغربية بصفة خاصة بدراسات جادة وقراءات أدبية دسمة تنم عن ذكاء خارق وكفاءة تحليلية واضحة وعمق معرفي وتأمل منهجي كبير، حتى إن كتبه تشبه الإبداع في الغواية والافتتان واللذة والمتعة والشاعرية على مستوى التلقي والتقبل.

ومن كتبه: الأدب والغرابة [1]، والحكاية والتأويل [2]، والكتابة والتناسخ [3]، والغائب [4] وهو كتاب في دراسة مقامات الحريري، والمقامات والأنساق الثقافية [5]، ولسان آدم [6] والخيط والإبرة [7].

وألف بالفرنسية كتبا لها قيمة كبرى في المعالجة النقدية والتحليل الأدبي وتأويل النصوص – [8]


  •  دلالة العنوان :

يتكون عنوان الكتاب “الأدب والغرابة” من مفهومين اصطلاحين، وهما: الأدب والغرابة. فمفهوم الأدب حسب كليطو مازال يثير التباسا وإشكالا عويصا ما دام لا يوجد تاريخ حقيقي للأدب العربي مدون انطلاقا من مقوماته البنيوية وثوابته الشكلية ومرتكزاته الثابتة والمتغيرة.

وعلى الرغم من التعاريف التي أعطيت للأدب كتعريف رومان جاكبسون أو التعريف الذي يربط الأدب بالتخييل إلا أن هذه التعاريف ناقصة وغير كافية ما دمنا لم نضع تصورا دقيقا لنظرية الأدب ونظرية الخطابات والأجناس النوعية داخل منظومة ثقافتنا العربية الكلاسيكية.

وعلى الرغم من ذلك، فالأدب يتميز عن اللاأدب بالغرابة والخرق والانزياح. فإذا كان اللاأدب أساسه الألفة والكلام العادي والأسلوب السفلي المنحط، فإن الأدب يقوم على الإغراب والإبعاد والتغريب والإبهام والإيهام والتخريب لما هو سائد ومنطقي ومألوف. ويعني هذا أن الأدب هو الغرابة والخروج عن الألفة وماهو سائد.

وكل ما يذكره الكاتب بين دفتي كتابه من مقامات وأراجيز وسرود وحكايات يحمل في طياته صور الغرابة والاندهاش والتعمية والمجاز.


  •   دراسة محتوى الكتاب :

يعد كتاب الأدب الغرابة من الكتب النقدية الأولى لعبد الفتاح كيليطو والتي يطبق فيها المناهج النقدية الحديثة على الثقافة العربية الكلاسيكية التي أهملها الدارسون العرب المحدثون بسبب غرابة هذه الثقافة وممانعتها عن الفهم والتحليل الرصين.

وكل المحاولات التي تمت لمقاربة هذه الثقافة كانت من خلال منظورات تاريخية أو إيديولوجية أو مضمونية سطحية أو من خلال رؤى استشراقية متسرعة ذات أحكام عامة ومطلقة ومتحيزة. وينقسم كتاب الأدب والغرابة إلى قسمين وكل قسم يحتوي على خمسة فصول إلى حد ما متوازية.

فالقسم الأول خصصه الكاتب لشرح بعض المفاهيم والمصطلحات النقدية كالنص والأدب والشاعر وتاريخ الأدب وقواعد السرد والنوع الأدبي، والثاني خصصه لبعض التطبيقات النصية حول الثقافة العربية الكلاسيكية تفسيرا وتأويلا (الحريري، الزمخشري، ألف ليلة وليلة، الجرجاني). 


  • القسم الأول: شرح المفاهيم الأدبية والنقدية

أ‌- مفهوم النص الأدبي:


ينطلق عبد الفتاح كيليطو من ثنائية الأدب والنص مؤكدا أننا نستعمل كلمة الأدب بطريقة فضفاضة واعتباطية دون مساءلة دلالاته اللغوية والاصطلاحية ومقاصده السياقية والمفهومية، وبالتالي، نفتقر إلى تصورات حقيقية حول الأدب وماهيته ووظيفته وما يميز النص الأدبي عن باقي النصوص الأخرى.

أي إننا لانبحث عما يجعل النصوص الأدبية أدبية، بل نكتفي بربطها بالمجتمع أو ما تتركه من آثار نفسية على المتلقي. وهذا ينطبق أيضا على مصطلح النص الذي يثير كثيرا من الإشكال على مستوى التحديد والضبط. هذا ما دفع الناقد لتعريفه من خلال مفهوم المخالفة بمقابلته مع اللا نص.

فالنص حسب كيليطو هو الذي يتميز بالنظام والانفتاح ويحمل مدلولا ثقافيا، ويكون قابلا للتدوين والتعليم والتفسير والتأويل، وقابلا للاستشهاد به حينما ينسب إلى مؤلف حجة معترف بقيمته ومكانته العلمية والثقافية، أي لابد أن يكون المؤلف شيخا مرموقا في الساحة الثقافية، وأن يكون النص كذلك غامض الدلالة أي يستند إلى الغرابة والانزياح والخرق بدلا من الألفة والكلام العادي السوقي، ولذلك فالنصوص حسب ميشيل فوكو نادرة وقليلة.

أما كلمة الأدب- حسب الكاتب- فنستعملها بمفهوم الأدب الغربي littérature لا بالمفهوم الكلاسيكي العربي للأدب. فالأدب الكبير والصغير لابن المقفع يصدران عن تصور أخلاقي تعليمي للأدب يتمثل في التحلي بالأخلاق الفاضلة و السلوكيات الحميدة، لذلك يكثر في هذين الكتابين الوعظ والنصح من خلال صيغتي الترغيب (الأمر) والترهيب (النهي).

ويعني هذا ان الدارسين العرب المحدثين درسوا الأدب القديم والحديث بمقياس الأدب الغربي دون أن يبحثوا عن الخصائص البنيوية للكتابة الأدبية القديمة في شتى أنواعها وأجناسها الأدبية المتنوعة والمتعددة.
هذا، وإن كلمة الأدب littérature بالمفهوم الغربي نتاج الرومانسية التي كانت تدعو إلى مزج الأنواع والأجناس الأدبية في بوتقة واحدة.

أي إذا كانت الكلاسيكية تفصل بين الأنواع من خلال تقييدها بمعايير ثابتة وصارمة، فإن جماعة يينا (نوفاليس وشلينغ والأخوان شليغل) في أواخر القرن الثامن عشر كانت تدعو إلى وحدة الأنواع داخل الخطاب الواحد. وهذا ما جعل تاريخ الأدب يضم بين دفتيه كثيرا من الخطابات والنصوص والأجناس.

وبعد أن كانت الرواية ضمن هذا التصور جنسا أدبيا مهمشا ومرفوضا لافتقاره لقواعد قارة وثابتة تخصصه وتميزه عن باقي الأجناس الأخرى، أصبحت مع الرومانسية تحتل قمة الأنواع لكونها تجمع عدة خطابات حوارية وتناصية داخل بوليفونية منصهرة في نوع كبير وهو الرواية.

وهذا ما حدث أيضا مع لشكسبير الذي أقصي مسرحه في الفترة الكلاسيكية ليعترف به إبان الفترة الرومانسية؛ لأن شكسبير كان يجمع في نصوصه المسرحية أساليب متنوعة هزلية وجدية سوقية ونبيلة.

وإذا كان هناك من يعرف الأدب على أنه إحالة على عالم الأشياء والشخصيات والأحداث الخيالية، وإذا كان رومان جاكبسون يعرف الأدب من خلال شعرية بنيوية تعتمد على الوظائف الست ولاسيما الوظيفة الشعرية، فإن كليطو يرى أن الأدب مازال لم يحدد بدقة مادمنا لم نضع نظرية عامة للخطابات.


  • ب‌- النوع الأدبي:

في هذا المقال يلتجئ الكاتب إلى المقاربة الأجناسية لتحديد مفهوم النوع داخل النظرية الأدبية. فيعرفه بقوله: إن كل نوع يفتح أفق انتظار خاصا به [9]. كما أن كل نوع يتكون من مجموعة من العناصر الثابتة قد تكون أساسية أو ثانوية. فالنوع لايتأثر بتغير المكونات الثانوية على عكس المقومات الأساسية فهي التي تغير النوع وتخرجه من صنف إلى آخر. ويخضع النوع للتصنيف والتقسيم حسب المكونات والسمات الثابتة والمتغيرة.

ويقترح الكاتب تصنيفا للأنواع يستند إلى تحليل علاقة المتكلم بالخطاب (إسناد الخطاب) على النحو التالي:
1- 
المتكلم يتحدث باسمه: الرسائل، الخطب، العديد من الأنواع الشعرية التقليدية
2- 
المتكلم يروي لغيره: الحديث، كتب الأخبار
3- 
المتكلم ينسب لنفسه خطابا لغيره.
4- 
المتكلم ينسب لغيره خطابا يكون هو منشئه.

هنا حالتان: إما لا يفطن إلى النسبة المزيفة فيدخل الخطاب ضمن النمط الثاني، وإما يفطن إلى النسبة فيدخل الخطاب ضمن النمط الأول. وكمثال نذكر لامية العرب التي أنشأها خلف الأحمر ونسبها إلى الشنفرى. ويمكن إرجاع الأنماط الأربعة المذكورة إلى نمطين:
1- 
الخطاب الشخصي
2- 
الخطاب المروي:
1- 
بدون نسبة 
2- 
بنسبة:
أ‌- صحيحة
ب‌- زائفة
ت‌- خيالية. (مقامات الهمذاني).


  • ج- قواعد السرد:

يعتبر فلاديمير بروب الناقد الروسي أول من وضع تصنيفا بنيويا شكلانيا للحكاية الخرافية ومهد للدراسات البنيوية الأخرى التي وسعت منهجيته التحليلية لتطبق على السرد بصفة عامة والرواية والقصة القصيرة بصفة خاصة مع رولان بارت وگريماس وتلامذتهما. أما النقد العربي فمازال يقيد النص بالمرآة الاجتماعية والإيديولوجية على حساب النص وثوابته البنيوية.

ينطلق كيليطو من نص مأخوذ من ألف ليلة وليلة قصد استخلاص القواعد السردية العامة لكل نص حكائي أو سردي. فأثبت بأن الحكاية السردية عبارة عن أحداث أو أفعال سردية تنتظم في متواليات سردية مترابطة زمنيا ومنطقيا. كما تخضع الأحداث لمنطق الاختيارات والإمكانيات المحتملة، أي إن السارد يمكن أن يجعل الحدث فعلا تحسينيا أو فعلا منحطا.

كما أن للسرد قواعد أساسية يمكن حصرها في تعلق السابق باللاحق وارتباط تسلسل الأحداث بنوع الحكاية، وأفق الاحتمال والعرف. ولاستخلاص هذه القواعد لابد من القراءة العادية (من البداية إلى النهاية)، والقراءة العالمة (من النهاية إلى البداية).

ولكن هذه القواعد يمكن خرقها وتجاوزها بنصوص حداثية أخرى، ولكن لا يعني هذا انتفاء القواعد واندثارها، بل هذا الانزياح يحيل عليها مادام هذا الخروج تم بانتهاك معايير وقواعد تقعيدية موجودة فعلا في الظل أو السطح.

فالرواية الجديدة التي ظهرت في فرنسا إبان الخمسينيات انطلقت من قراءات البنيويين للقصة المصورة والشعبية والقصص البوليسية فانزاحت عنها تجديدا وتجريبا كما انزاحت قواعد الأساطير الهندية الأمريكية على ثوابت المتن الأسطوري الحكائي الذي جمعه كلود ليڤي شتروس.

ويعني كل هذا أن السرد خاضع لمجموعة من القواعد التجنيسية التي تشكل ثبات النوع وكل خروج عن هذه القواعد لا ينفيها، بل يؤكد وجودها واستمراريتها الفنية والجمالية.


  • د- دراسة الأدب الكلاسيكي:

اعتمد الدرس النقدي العربي في مقاربته للثقافة العربية الكلاسيكية على التركيز على المبدعين الأفذاذ والقمم الشامخة في الأدب عن طريق ربط أدبه بحياته الشخصية ومؤلفاته ومجتمعه باستقراء الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وإصدار أحكام خارجية عامة مطلقة لاعلاقة لها ببنية النص. إنه درس نقدي يعتمد على نظرية المرآة التي انتشرت كثيرا في القرن التاسع عشر.

كما يطرح الكاتب مسألة مهمة وهي الطريقة التي نظر بها النقاد العرب إلى الشعر القديم حينما كانوا يبحثون في طياته عن الوحدة العضوية انطلاقا من المقاييس الغربية بينما للشعر العربي القديم خصوصياته التي تميزه عن باقي الأشعار العالمية الأخرى.

ولابد كذلك أثناء التعامل مع المؤلفات الكلاسيكية من مراعاة غرابة النصوص والتسلح بتصورات نقدية وتأويلية تنسجم مع هذه النصوص التي تتطلب قارئا خاضعا لمنطق السؤال والجواب يستطيع أن يرصد الغرابة ويحاول تفكيكها وتركيبها من منطلقات تأخذ بعين الاعتبار عصر المؤلف وبيئته واللغة التي كتب بها نصه والسياق الذي ورد فيه.


  • هـــ- تاريخ الشاعر:

يرفض الكاتب عند دراسة الشاعر ما يسمى بالدراسة التاريخية الكلاسيكية التي تهتم بحياة الشاعر بإسهاب وذكر أحوال نفسيته وآثاره الإنتاجية. ويقترح أن نجيب عن مجموعة من الأسئلة النصية الداخلية مثل: كيف يعلل الشاعر إنتاجه؟ إلى أي حد يوجد هذا التعليل في ثنايا الإنتاج نفسه؟ ما الداعي إلى هذا التعليل؟ كيف تندمج حياة الشاعر ضمن هذا التعليل؟

إن الشاعر في العصر الجاهلي كان شاعر القبيلة بامتياز وكل شعر ذاتي أو تأمل شخصي ينصهر في إطار القبيلة. وفي العصر الإسلامي صار الشاعر يتغنى بالانتماء العقائدي (الشيعية والخوارج..)، وفي العصر العباسي انحطت مرتبة الشاعر، وصار النقاد يفضلون الكاتب على الشاعر والنثر على الشعر، وأصبحت مهمة الشاعر هي الكدية والاستجداء والارتزاق حتى شبه الشاعر بصفات دنيئة كالصبي والمجنون… ولذلك لم يتم محاسبة الشاعر إذا خرج عن المروءة الأخلاقية أو الدين أو عن الأعراف والقواعد الاجتماعية ما دام يلتجئ إلى التعقيد والتعمية في النظم والكتابة.


  • 2-  القسم الثاني: تطبيقات حول مؤلفات عربية كلاسيكية

أ- بين أرسطو والجرجاني/ الغرابة والألفة:


تشبه البلاغة العربية البلاغتين اليونانية والهندية كما يبدو ذلك واضحا من خلال الأمثلة المستعملة (الرجل كالأسد) وأنواع الصور الموجودة.

وإذا كانت البلاغة اليونانية تهدف إلى إنتاج قوانين الخطاب وتعليم الناس كيف يخطبون من أجل إقناع الآخرين داخل المجتمع الديمقراطي السياسي والانتخابي الذي يحتاج إلى منطق الإقناع والتأثير في الجمهور السياسي، فإن البلاغة العربية هي تفسير للخطاب أي هدفها هو تفسير القرآن وتبيان أوجه الإعجاز القرآني من خلال رصد الصور البلاغية وتحليلها واكتشاف أوجه الروعة والجمال فيها.

ولكن البلاغة العربية خضعت للتصنيف والتقسيم في إطار العلوم الثلاثة (علم البيان، علم المعاني، علم البديع)، وأصاب البلاغة العربية انكماش وإهمال بسبب غرابتها وكثرة مصطلحاتها ومفاهيمها المعقدة. وهذا هو شأن الريطوريقا الغربية التي انكمشت بدورها ولم تجدد إلا مع منظورات بنيوية وسيميائية حديثة كما فعل رولان بارت في كتابه قراءة جديدة للبلاغة الجديدة [10].

ويلاحظ أن الثقافة العربية الكلاسيكية على مستوى التقبل والتلقي قائمة على الغرابة والإبعاد والاغتراب كما يظهر ذلك جليا في الشعر والبلاغة اللذين يعتمدان على الصور الفنية القائمة على التشبيه والاستعارة والكناية والتي تساهم في تعمية النص وإثرائه بالغموض و الإبهام المجازي الذين لا ينكشفان إلا بنبراس الشمس ونورها الوهاج ومشكاتها الكاشفة.


  • ب- الحريري والكتابة الكلاسيكية:

إذا كانت شخصيات كتب الحديث والأخبار والتاريخ شخصيات فردية، فإن شخصيات مقامات الحريري أنماط إنسانية ونماذج بشرية عامة مثل: أسماء النساء التي ترد في الشعر الجاهلي أو الإسلامي كهند وليلى وسعاد وخولة وسلمى ودعد ولبنى وعفراء حتى أصبحت سنة شعرية من الصعب الخروج عنها.

إن ابا زيد السروجي والحارث بن همام بطلا المقامات الحريرية أنماط بشرية عامة تترجم سلوكيات أخلاقية إنسانية مطلقة. كما في الحديث النبوي الشريف: “كلكم حارث وكلكم همام”. ومما يؤكد نمطية هذه الشخصيات أوصافها التي تتغير من مقامة إلى أخرى حتى تصبح شخصيات براقشية متغيرة تتلون في أخلاقها بتغير الأمكنة والأزمنة والأفعال.

وإذا كانت المعاني والأفكار تتغير بسرعة في العصر الحديث بتغير الموضات والمدارس والتيارات الأدبية والفلسفية، فإن المعاني في الآثار العربية الكلاسيكية مهما كانت مبتذلة ومكررة فإنها ما تزال تحافظ على مصداقيتها ومطلقيتها المعرفية والثقافية، وفي هذا يقول كيليطو: “أما في العصر الكلاسيكي فإن المعنى كان يعتبر مطلقا ويمتاز بالعمومية أي إننا نجده في جميع العصور، وهذا ما يفسر إيجابيته. نجد عند كل شاعر تشبيه الكريم بالبحر والمرأة بغصن البان..”.


  • ج- الزمخشري والأدب:

من المعروف أن توليد نص أدبي وإبداعي خاضع للظروف الذاتية والموضوعية أو لدواع ميتافيزيقية كشياطين الشعراء الذين يلهمونهم بالشعر أو بناء على طلب ضمني توحي به الكتابة أو مقدمة الكتاب. وقد كتب الزمخشري أدب المقامات تحت وازع حلم رآه في الليل يطلب منه أن يستعد للموت وأن يدع عنه الهزل ويعوضه بالجد.

لذلك كتب مجموعة من المقامات التي لاتشبه مقامات الحريري أو الهمذاني إلا في أسلوب السجع واستعمال المحسنات البديعية. وتخضع المقامة حسب الكاتب للثوابت البنيوية التالية:
السند، والسفر، ونمطان إنسانيان متناقضان (الأديب والمكدي)، وحكاية مبنية على مايسميه أرسطو التعرف، وفن كتابي يشير إلى الأسلوب الرفيع سواء أكان مزيجا من الشعر والنثر أم مزيجا من الأنواع الأدبية ومن الجد والهزل أم يغلب عليه السجع والمحسنات.

وإذا كانت مقامات الحريري والهمذاني يغلب عليها الهزل واللهو بسبب الكدية والاستجداء الدنيوي، فإن مقامات الجرجاني هي مقامات دينية وعظية وإرشادية قائمة على الترغيب والترهيب ويغلب عليها الجد لارتباطها بماهو أخروي. كما يطغى عليها النقد الذاتي والعتاب النفسي وتأنيب الضمير.

وهو في مقاماته لايوجه خطابه إلا لذاته لتقريعها وتوبيخها ولومها وإسداء النصائح لها من خلال صيغ الأمر والنهي والتحضيض والاستفهام والإطناب بالترادف والطباق. كما أن لغة المقامات تجمع بين معجمين: معجم الضلال ومعجم الهداية. فالدنيا امرأة فاتنة كثيرة الإغراء والافتتان، ولترويضها لابد من سلوك طريق الجد والاستعداد للموت.


كما يتناول الزمخشري الأدب من وجهة نظر غريبة، أي إنه يعرض أغراض الأدب وأدواته (النحو والعروض والقافية) من خلال نظرة واعظ متزهد. ويوجه الزمخشري كتابه لقارئ ضمني وسيط مدرس للأدب يقوم بتبليغ المقامات لأصحاب الفضل والديانة، أي إنه لن يمكن منها العامة وقليلي الدين.

ولابد لهذا الكتاب من مؤلف يعطيه المشروعية ومصداقية التلقي والانتشار لأن النص المكتوب أرستقراطي، بينما النص الشفوي بلا اسم المؤلف يصبح ديمقراطيا في انتشاره.


  • د- الملح والنحو:

كتب الحريري أرجوزة في النحو تشكل ملحمة الإعراب، وكانت الأراجيز وسيلة لنظم العلوم والمعارف من أجل تسهيل الفهم والاستيعاب على الطلبة عن طريق الحفظ والاستظهار. يلاحظ على ملحة الحريري أنها نظم وليس بشعر لانعدام الطرب والمتعة الشعرية والألفاظ الشاعرية.

كما تتسم هذه الملحة بالحشو والكلام الزائد الذي تستوجبه القافية. وتخضع الملحة النحوية لهرمية في الإسناد : العرب العرباء والرواة والمتكلم والمخاطب. وتقترب الملحة النحوية من الوعظ لهيمنة الوظيفة التعليمية التلقينية وصيغ الأمر والنهي والإرشاد.

وتطفح الملحة بآراء النحاة في المسائل الخلافية دون أن يشير إليهم، وكان من الأفضل ألا يذكر إلا المسائل النحوية التي اتفق حولها النحاة.. كما يستعمل الحريري لغة السلطة والسيطرة في توجيهه الخطاب إلى المتلقي طالبا منه التنبيه والإنصات دون اعتراض قصد الاستفادة من النحو،

وعلى السامع كذلك أن يصحح أخطاء شيخه إن وجدت وأن يكمل مانقص وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى تواضعه وتواضع العلماء الكبار أمثال الحريري. أما أمثلة الملحة فهي غنية بالفوائد الدينية والأخلاقية والمعرفية والأدبية.


  • هــ- نحن والسندباد:

في هذا الفصل ينطلق الكاتب من شعرية گاستون باشلار التي ترتكز على المبادئ الكونية الأربعة: الماء والنار والهواء والتراب في تحليل أسفار سندباد الواردة في كتاب ألف ليلة وليلة. إن الكاتب يقابل بين شخصين: السندباد البري رمز الفقر والمعاناة والشقاء الأرضي، والسندباد البحري رمز الغنى والسعادة، ورمز الانفتاح والتحدي والمغامرة الخارقة.

كما أن الكاتب يقابل بين عالمين: عالم البحر وعالم البر، أو بين فضاءين متعارضين: فضاء الانغلاق و شدة الحر والتعب والمشاكل البشرية وفضاء الانفتاح والأهوال والكنوز والمغامرات العجيبة. وتقابل القصة أيضا بين عالم الألفة وهو عالم البر أو عالم الأرض الذي يرتبط به السندباد الأرضي وعالم الغرابة وهو عالم فانطاستيكي عجائبي يتميز بمواصفات غريبة تتعلق بحجم المخلوقات، وجمع فضائه الغريب بين متناقضات ومتنافرات تتجاوز الطبائع البشرية، ووجود شعائر وعادات لم تكن تدور بخلد السندباد كأكل اللحوم البشرية وتحول الناس إلى كائنات حيوانية ووحوش خارقة ممتسخة.

وكل هذا يعبر عن ثنائية الإيهام والإبهام كما أن السفر السندبادي لا يكتفي بما هو أفقي (السفر برا وبحرا)، بل يتعداه إلى ما هو عمودي (السفر في الجو وعمق الأرض). ولا تنتهي الأسفار السندبادية إلا بالتوبة والعودة إلى البر و إلى حاضرة بغداد وتوقف السرد الشهرزادي.

وتنبني القصة كذلك على المقايضة السردية لأن السرد وليد توتر بين قوي وضعيف، شهرزاد راوية في موقف الضعف وشهرزاد مستمع في حالة القوة والسيطرة والبطش، و السندباد البحري السارد في حالة قوة والسندباد البري المستمع في حالة ضعف وسكون. ويكون الاستماع هنا بمائة مثقال ذهبا وعشاء فاخر للسندباد البري،

وفي العقد الضمني بين شهرزاد وشهريار يكون السرد في مقايضة مع الرحمة والعطف.
هذا، وإن حكايات السندباد ما هي إلا حوار بين الانغلاق والانفتاح وإثبات لجدلية الداخل والخارج وحوار الأنا مع الآخر أو الغير. ولقد امتدت الرحلات السندبادية إلى عصرنا الحاضر واستمرت ثنائية الألفة والغرابة كما في الساق على الساق لأحمد فارس و حديث عيسى بن هشام لمحمد الميلحي.


  • 4- القضايا المنهجية والفنية:

يتبنى عبد الفتاح كيليطو في كتابه الأدب والغرابة البنيوية السردية القائمة على التفكيك والتركيب والتحليل المحايث وتحليل الخطاب. وسياق هذا الكتاب هو فضاء العالم العربي إبان فترة السبعينيات التي ظهرت فيها البنيوية عن طريق الترجمة والمثاقفة والاحتكاك بالآداب الغربية و مناهجها النقدية. وكان من الطبيعي أن يتأثر النقاد العرب بالمناهج النقدية الغربية الحديثة ويحاولون تطبيقها على الآداب العربية سواء القديمة منها أو الحديثة. وإذا كان كمال أبو ديب قد اهتم ببنية الشعر العربي القديم والجديد، فإن عبد الفتاح كليطو اهتم بالثقافة العربية الكلاسيكية وخاصة بنية السرد والحكاية في شتى تقاطعاتها وأجناسها.

ومن المعلوم أن البنيوية تربت في أحضان اللسانيات مع فرديناند دوسوسير و البنيوية الوظيفية( أندري مارتينيه)، والگلوسيماتيكية (هلمسيلف)، وحلقة براگ( جاكبسون، تروبتسكوي)، والتوزيعية (هاريس وبلومفيلد)، والتوليدية التحويلية( نوام شومسكي)، كما تربت في أحضان الشكلانية الروسية والنقد الفرنسي الجديد . ويعد كلود ليڤي شتروس ورومان جاكبسون من البنيويين الأوائل الذين طبقوا المنهج البنيوي اللساني على الشعر ولاسيما قصيدة القطط Les chats للشاعر الفرنسي بودلير في منتصف الخمسينيات لتعقبها تحليلات بنيوية حول السرد والقصص المصورة والحكايات الشعبية والبوليسية مع رولان بارت وكلود بريمون وتودوروف وجيرار جنيت. وستتحول البنيوية بعد ذلك إلى مقاربة سيميائية مع گريماس و جوليا كريستيڤا وفليب هامون وجماعة أنتروڤيرن ومدرسة باريس و أتباع بيرس. وقد استلهمت البنيوية الفرنسية الإرث الشكلاني وجماعة تارتو السيميائية بموسكو عن طريق الترجمة والاطلاع الثقافي والتبادل المعرفي.

ولقد استفاد الدارسون العرب من المنهج البنيوي في أواخر الستينيات وعقد السبعينيات من خلال الاطلاع على كتب تعريفية ككتاب محمد الحناش “البنيوية اللسانية ” ،وكتاب فؤاد أبو منصور”النقد البنيوي الحديث”، وكتاب فؤاد زكريا “الجذور الفلسفية للبنائية “، وكتاب صلاح فضل “نظرية البنائية في النقد الأدبي“…

هذا، وقد غدا النقاد العرب يطبقون المنهج البنيوي على الأدب العربي انطلاقا من مرجعيات نقدية غربية متنوعة كما فعل موريس أبوناضر وخالدة سعيد ويمنى العيد وكمال أبوديب وصلاح فضل وعبد الكبير الخطيبي وجمال الدين بن الشيخ وجميل شاكر وسمير المرزوقي وعبد السلام المسدي وحسين الواد وسيزا قاسم

وإذا كان أغلب الدارسين يتعاملون مع المنهج البنيوي بطريقة حرفية آلية قائمة على الإسقاط الخارجي حتى يصبح العمل النقدي تمرينا منهجيا آليا يسمو فيه المنهج على حساب النص، إلا أن عبد الفتاح كيليطو يتعامل مع المنهج البنيوي بذكاء خارق حيث يخضع المنهج للنص ويستنبط من داخله دلالات عميقة لايمكن أن يتصورها القارئ الضمني والفعلي على حد سواء . 

وبرتبط المنهج البنيوي لدى كيليطو بالوصف والتفسير والتأويل من خلال استقراء اللغة في سياقاتها النصية مع تنويع المنظورات والتصورات في التحليل والمقاربة حيث يعتمد في إحالاته البيبليوغرافية على الشكلانية الروسية والبنيوية الفرنسية والسيميائيات والفلسفة الغربية وجمالية التلقي( ياوس). ولكن هذه المرجعيات يتحكم فيها الكاتب بنوع من المرونة و التلميح الموجز والتصرف المنهجي.

ويبدو من خلال قراءتنا للكتاب أن كيليطو يوجز في الكتابة اختصارا وتكثيفا؛ لأن الكلام كما هو معروف ما قل ودل. وعلى الرغم من هذا الإيجاز غير المخل الذي يظهر واضحا في صغر حجم الكتاب إلا انه كتاب دسم مليء بالمعارف المنهجية والمعلومات المتعلقة بالآداب الغربية والعربية. 

وعليه، فإننا نشيد بالكاتب تنويها وتقديرا كبيرا، ونحييه تحية إجلال وإكبار لأنه خدم الثقافة المغربية ونقدها الأدبي، و أعاد الاعتبار للثقافة العربية الكلاسيكية، وفتح باب التراث العربي الجمالي والفني للدارسين العرب لقراءته من جديد على ضوء مناهج تأويلية جديدة تستقرى الداخل النصي تأويلا وتفسيرا وتفكيكا.

وهذا ما قام به أتباعه وتلامذته كالباحث السعودي عبد الله الغذامي والمغاربة محمد مفتاح وسعيد يقطين ومحمد مشبال في كتابه” بلاغة النادرة”، والباحثة المصرية نبيلة إبراهيم، والعراقي عبد الله إبراهيم، أي البحث الجاد في أدبية السرد العربي القديم و الثقافة العربية الكلاسيكية وتفكيك جميع أجناسها من أجل تركيب تاريخ للأدب العربي بمفهوم علمي دقيق.

ويلاحظ أيضا أن بعض نصوص كليطو مختصرة وموجزة تتطلبها المقاربة البنيوية التي تكتفي بالنصوص القصيرة وهذا هو شأن التحليلات البنيوية والسيميائية الغربية( جماعة أنتروڤيرن مثلا.


وقد يبدو أن منهجية الكتاب متجاوزة وأن المعارف التي يحملها أصبحت بديهية، إلا أن الكتاب مازال معاصرا يعيش معنا ويتجدد كل يوم في الزمان والمكان باختلاف القراء، و ينبغي لكل دارس ومبتدئ في الآداب أن يعود إليه من أجل استيضاح الأمور والمفاهيم الاصطلاحية الأدبية والنقدية قبل الشروع في أي بحث أو عمل دراسي ونقدي سواء أكان بحثا شخصيا أم أكاديميا . 

و تمتاز مقاربة كيليطو النقدية بلغة وصفية رائعة تعتمد على المساواة بين اللفظ والمعنى والمتعة اللفظية وشاعرية التحليل وتنوع السجلات المعجمية والنقدية بتنوع المرجعيات التناصية، كأننا أمام عمل إبداعي محكم يحقق للقارئ الضمني والفعلي متعة ولذة نادرة كلذة النص التي تحدث عنها الفرنسي رولان بارت.


وفي الأخير، إن كتاب “الأدب والغرابة” نموذج نقدي رائد في عالمنا العربي في دراسة الثقافة العربية الكلاسيكية؛ لأنه يستند إلى آليات التفكيك والتركيب والتأويل وتفسير النصوص من الداخل واستكناه المضمر من خلال المصرح بأسلوب وصفي ممتع رائع حيث يصبح المنهج في خدمة النص وليس العكس.


  • المراجع المعتمدة : 

    [1] رولان بارت: قراءة جديدة للبلاغة القديمة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء،ط1، 1994؛

    [2] رولان بارت: قراءة جديدة للبلاغة القديمة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء،ط1، 1994؛
    [3] 
    رولان بارت: قراءة جديدة للبلاغة القديمة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء،ط1، 1994؛
    [4] 
    رولان بارت: قراءة جديدة للبلاغة القديمة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء،ط1، 1994؛
    [5] 
    رولان بارت: قراءة جديدة للبلاغة القديمة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ط1، 1994؛
    [6] 
    رولان بارت: قراءة جديدة للبلاغة القديمة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ط1، 1994؛
    [7] 
    رولان بارت: قراءة جديدة للبلاغة القديمة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ط1، 1994؛
    [8] A. KILITO: LES Séances, Paris, ED.Sindibad. 1983/l’Auteur et ses doubles, Paris, Ed. Du seuil, 1985 /L’auteur de paille, Poétique, 44,1980;
    [9] 
    عبد الفتاح كليطو: الأدب والغرابة، ص:21؛
    [10] 
    رولان بارت: قراءة جديدة للبلاغة القديمة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ط1، 1994؛
    [11] 
    عبد الفتاح كيليطو: الأدب والغرابة، ص: 76
    12.
    الموقع الإلكتروني ديوان العرب مقال عن جميل الحمداوي

——————
نقلا عن موقع : صدى المعرفة

بالعربيّة

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى