سرديات

الجماليات الثقافية للرؤية في عنوان الرواية التشيكية «ساحرات جيتكوفا»

الكتاب: “ساحرات جيتكوفا

المؤلف: كاترشينا توتشكوفا

المترجم: د. إيمان إسماعيل

الناشر: دار صفصافة للنشر والتوزيع

سنة النشر: 2017‎‎

عدد الصفحات: 414 صفحة


عندما نذكر عتبات النص الأدبي، العنوان هو أول ما يخطر على أذهاننا؛ فالعنوان أول ما يصطدم به القارئ أو الناقد، وعناوين النصوص عامة تعطينا انطباعًا عما يمكن أن يحويه النص من أفكار، والكاتب البارع  يجدر به أن يحسن اختيار عتبته الاستهلالية.

ونحن هنا نتناول بالتحليل عنوان رواية “ساحرات جيتكوفا” التي صدرت عام 2012 في مدينة برنو التشيكية، والرواية للكاتبة الشابة كاترشينا توتشكوفا، وتمت ترجمتها إلى أكثر من 20 لغة، وإلى العربية ترجمتها إيمان إسماعيل عام 2017. حصدت الكاتبة عن روايتها هذه عدة جوائز مهمة، منها جائزة يوزِف شكفوريتسكي عام 2012 وجائزة ماجنيسيا ليترا. وكانت “ساحرات جيتكوفا” الأكثر مبيعًا في سوق الكتب التشيكية عام 2012، وكانت كذلك الرواية الأكثر استعارة من المكتبات عام 2013.

أول ما يصدره لنا عنوان الرواية التشيكية “ساحرات جيتكوفا” هو انطباع بأننا أمام رواية ذات صبغة نسوية؛ هذا اللون من الكتابة الذي يكشف عن خصوصية الأنثى، أو كما يوضح معجم مصطلحات الأدب الصادر عن مجمع اللغة العربية: “هو ما يمكن تحقيقه بأن تجعل المبدعة ذاتها تنهمر من الداخل أي تتدفق نحو النص، مع الحرص على إزالة كل ما من شأنه تعويق هذه التجربة والإبقاء على ما يلائم طبيعتها، وتعتمد الكتابة النسوية على مناهضة هيمنة الذكورية على اللغة والثقافة [شوشة 2007، صـ119]. وليس عنوان الرواية فقط يشير إلى انتماء النص المذكور إلى الأدب النسوي، غالبية فصول الرواية كذلك تحمل أسماء نسائية، مثل: سورمينا، دورا إيديسوفا، كاترشينا سخانيلكا، إيرينا إيديسوفا، ألجيبيتا باجلاروفا …

العنوان “ساحرات جيتكوفا” يتكون من عنصرين؛ عنصر بشري وعنصر مكاني (المرأة والأرض). والمرأة هنا ليست امرأة عادية. العنوان في لغته الأصلية يحمل كلمة bohyně التي تعني حرفيًا إلهة أو ربة؛ في معجم اللغة التشيكية نجد تفسيرها كالتالي: كلمة تطلق على الكائنات الخارقة والتي يتم تقديسها بسبب قدرتها على السيطرة على الطبيعة ومصائر البشر (فيليبتس 2010، صـ38). واختيار هذه اللفظة تحديدًا لوصف شخصيات الرواية تمنحهن هالة من التقديس والاحترام. وهنا نطرح على أنفسنا سؤلاً ملحًا: لماذا لم تسمي الكاتبة الرواية مثلاً “سحرة جيتكوفا”؟ ببساطة هذا غير ممكن؛ فهذه المكانة العالية التي اكتسبتها هذه النسوة ترجع إلى ما يقمن به من فنون في مداواة للمرضى وقضاء حاجة المعذبين والإتيان بأفعال تكون أحيانًا خارقة للعادة كرؤية المستقبل أو صد العواصف، وهذه المهام كانت حكرًا على النساء فقط. وهذا يؤكد لنا أننا أمام نص نسوي بامتياز. وهذا العنوان يذكرنا ويحيلنا إلى أولى المرويات العربية النسائية، أي زرقاء اليمامة، مروية تنسب إلى المرأة طاقة خارقة في الرؤية والبصيرة، تلك المرأة التي تواجه مصيرًا مأساويًا كمصير الساحرات بسبب غباء الرجال وضيق أفقهم (قطب 2000، صـ9:10).

وتنحدر بطلة الرواية من سلالة ساحرات عريقة أقامت لقرون في منطقة جيتكوفا، نسوة خبرن أسرار الطبيعة وقواها وخبرن خبايا النفس البشرية مما ساعدهن على مداواة الناس جسديا وروحيا. دورا، البطلة، تمثل الفرع الأخير من شجرة الساحرات. صحيح أنها غير ملمة بفنون السحر، لكنها تشعر بانتمائها لعائلة الساحرات وتقرر أن تكشف الغموض الذي أحاط بساحرات جيتكوفا بشكل علمي لعل هذا يمحي ما لحقهن من ظلم وافتراء على مر القرون بسبب التاريخ المغلوط الذي كتبه رجل ذكوري النزعة، دورا هنا تمثل الساحرة والمرأة حاملة الإرث العائلي (كالجدات اللاتي يتناقلن قصص وبطولات الأسرة جيلاً بعد جيلاً) والباحثة الأكاديمية (الباحثة عن الحقيقة) والمؤرخة التي تعيد كتابة تاريخ جيتكوفا بنقدها لكتاب يوسف هوفر المتعسف ضد نساء جيتكوفا.

“وسألت نفسها عندئذ للمرة الأولى: ماذا لو لم تكن هذه مجرد أحلام عادية؟ ماذا لو كان ما تراه ليس خيالاً جامحًا؟ وماذا لو كانت تلك بقايا ما كانت تحوزه سابقاتها، نزر يسير من فنون الساحرات؟ ماذا لو كان ذلك صدى الإرث المشترك، الوعي المشترك، الذي انتقل من كاترشينا سخانيلكا على مدار عدة قرون ومر بسورمينا وبأمها وامتد حتى وصل إليها؟ وفي اللحظة التي دارت فيها تلك الفكرة بعقلها، شعرت كأنما وجدت مفتاح الباب المغلق منذ أعوام طويلة. وبمجرد أن انفتح الباب، تجلى لها دورها الحقيقي، وبدأت فجأة تستشعر ما يجب عليها فعله، وكيف يمكن أن تكون فاعلة في هذا الأمر. فهي الوحيدة التي تقف على أعتاب عالمين جِد مختلفين، إحدى قدميها منغمسة داخل العلم، ولكنها في نفس الوقت منخرطة بشدة داخل أعماق حياة الساحرات. وراحت تحدث نفسها بأن دورها سيتمثل في معرفة مصير كل سيدات عائلتها، ستنتزع قصصهن من ظلمات التاريخ، والأهم أن تعرف العالم بفنونهن الفريدة، التي سعى أعدائهم على مر العصور أن يمحوها من أرض كوبانيتسه.” (توتشكوفا 2017، صـ110)

“انقبض قلب دورا بسبب ذلك الصراع المحموم، خاصة عندما قرأت مسودات الخطب التي كانت تحمل في طياتها السخرية والافتراء الذي بلغ مداه على الساحرات وعلى أولئك الذين مازالوا يترددون عليهن. وانقبض قلبها كذلك عندما قرأت كتاب هوفر حكايات من كوبانيتسه، وكان موضوعها الساحرات ومصائرهن التي كان القس يفسرها بشكل يجافي الحقيقة. صدرت هذه الكتب تباعًا، وكانت تحكي للقراء عن الظلم الذي تمارسه نسوة محنكات ماكرات في حق أهالي كوبانيتسه المساكين البسطاء، وذلك باعتبارهن محتالات مخادعات بلا ذرة ضمير. وهكذا يستاء القارئ بشدة، وبعدها يكون من الطبيعي أن ينحاز إلى جانب الرواي الماهر المبدع، الذي كان ينهي كل قصة من قصصه بمعاقبة إحدى الساحرات. ولم يكن الرواي العادل والبطل شخصًا آخرسوى يوسف هوفر قس أبرشية ستاري هروزينكوف.” (توتشكوفا 2017، صـ176)

وبذلك تنهي دورا المرأة والباحثة سلطة المؤرخ والمبدع الرجل وتحطم أسطورة المذكر. كل هذه الدلالات تحملها لفظة ساحرات. والعنصر الثاني للعنوان، أي المكان، يقدم لنا مسرح حياة الساحرات، جيتكوفا، منطقة تشيكية لا يتجاوز عدد سكانها حاليًا 172 مواطنًا. ولا يمكن لفظ لفظة ساحرات دون التفكير في قرية جيتكوفا، ولا يمكن كذلك نطق اسم جيتكوفا دون الإشارة إلى ساحراتها. وساحراتها يعتقدن أن قواهن لا تجدي نفعا خارجها: “لم أتمكن من إقناعهن بالحسنى أو حتى الوعيد. وفضلاً عن ذلك يؤكدن أن قوتهن مرتبطة بالمكان هنا في تلال الكاربات التي تسري فيها موجات مغناطيسية. هذا ما أكدته لي النساء الثلاث ومن بينهن اثنتان غير متعلمتين، أتفهم ما أعنيه؟ حاول أن ترسل لي شخصًا يستطيع أن يدرس البيئة المحلية، خبيرًا متخصصًا في الجيولوجيا والطبيعة، فهذا الأمر يهمني بشكل خاص”. (توتشكوفا 2017، صـ305)

جيتكوفا/ كوبانيتسه مسرح لأحداث تؤرخ لفترات تاريخية مهمة. أحيانًا يتوقف الزمن في تلك المنطقة شبه المنعزلة عن العالم، وفي أحيان أخرى تدب فيها الحياة فتعود لمواكبة مجريات العصر: “أولئك هم من ظلوا يعملون بلا أجر في أراضي النبلاء ببلدة سفيتلوف حتى بعد مرور خمسين عامًا على إلغاء العبودية، لأن أحدًا في كوبانيتسه لم يكن يجيد القراءة والكتابة ناهيك عن مطالعة الصحف؛ لذلك لم يصل إليهم خبر إلغاء العبودية” (توتشكوفا 2017، صـ97). وفي الخمسينيات انتشرت الشيوعية في الأراضي التشيكية، بما فيها جيتكوفا، ودخلت هذا الريف الجبلي المؤسسات الاشتراكية كالجمعية الزراعية التعاونية.

جيتكوفا لا تختلف كثيرًا عن أي قرية في أي بلد آخر؛ فهي تعج بالخرافات المتوارثة من جيل بعد جيل، خرافاتها تشبه إلى حد كبير الخرافات الشائعة في الريف المصري، مثل: الأشباح والعفاريت التي تسكن الجبال، القطط السوداء التي يراها الناس نذير شؤم، ونعيق البوم الذي يدفعهم للتعوذ بالصليب وغيرها من الخرافات.

دمج الكلمتين المكونتين لعنوان الرواية (الساحرات/النساء وجيتكوفا/الأرض) له وقع سحري على آذان المواطن التشيكي:

“ربما كانت مشاعر الناس تتأثر بمجرد ذكر سيرة ساحرات جيتكوفا؟ وهذا ما شعرت به في إحدى المكالمات الهاتفية مع أحد المتاحف المحلية. أحست كما لو كانت تنطق بكلمات سحرية.

في العادة لا نقدم تلك الخدمات، لكن ما دمت تقولين إنك تحتاجينه لبحثك، دعيني أبحث لك عنه.. أتعلمين أن جدتي حكت لي عنهن عندما كنت طفلة، وكانت قدراتهن تبدو بالنسبة لي خارقة. ثم سألتني موظفة الأرشيف على الطرف الثاني من الهاتف: هل ستطلعينا على نتائج بحثك عندما تنتهين منه؟” (توتشكوفا 2017، صـ260)

العنوان له وقع سحري على القارئ التشيكي وغير التشيكي، فالعنوان يحدد مسبقًا عناصر بناء الرواية، الشخصيات النسائية ومكان الحدث. وأعتقد أن المترجمة وفقت في ترجمته إلى العربية في بنية الإضافة، إضافة الساحرات أو أولئك النسوة إلى الأرض/جيتكوفا، مؤكدة انتمائهن لتلك البيئة، وإن كان العنوان في لغته الأصلية أخذ شكل الصفة والموصوف وهو تصرف غير مناسب في العربية، أي اشتقاق صفة من الاسم الأجنبي جيتكوفا ووصف الساحرات بها. وبذلك يحقق العنوان أهدافه في الحقل الدلالي للرؤية الذي يشغل حيزًا جماليًا لأنه متصل بالتشكيل والمقصدية معًا.


  • المصادر والمراجع:

– توتشكوفا، كاترشينا: ساحرات جيتكوفا. ترجمة إيمان إسماعيل. القاهرة، دار صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات، الطبعة الأولى، 2017.

– شوشة، فاروق؛ وآخرون: معجم مصطلحات الأدب. القاهرة، مجمع اللغة العربية، 2007.

– فيليبتس، يوزِف؛ وآخرون: معجم اللغة التشيكية الفصحى (للمدارس والعامة). براغ، دار نشر الأكاديمية، الطبعة الرابعة، 2010.

– قطب، سيد محمد السيد: الجماليات الثقافية للقصة القصيرة. القاهرة، دار المها للطباعة وتوزيع الكتب والترجمة، الطبعة الأولى، 2018.

– قطب، سيد محمد السيد؛ وآخرون: في أدب المرأة. القاهرة، الشركة المصرية العالمية للنشر- لونجمان، الطبعة الأولى، 2000.


بثينة عبدالحي محمد أبوبكر / مصر


خاص لمجلة فكر التقافية

بثينة عبدا لحي أبوبكر

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى