قراءة في رواية “قبل الموت بقليل” للكاتبة فاطمة ياسين
قل كلمتك قبل أن تموت فإنها ستعرف حتماً طريقها، عبارة قالها محمد شكري.
الكاتبة فاطمة ياسين، أخذت على عاتقها قول هذه الكلمة في حقل روائي، ودونت رواية “قبل الموت بقليل” لتقتل الصمت.
هل العنوان “قبل الموت بقليل” يعني اقتراب موت الأخلاق أم يعتبر انعدام الأخلاق طريقا نحو الموت. أم هو النزيف الناتج عن اغتصاب الكلمة؟
“قبل الموت بقليل” ليست رواية رومانسية لكنها جنحت في بعض الفقرات إلى الحب حين يتجاوز الموت، وصورت تصويرا دقيقا لمشاعر شخصيات حياة وعبدو وخديجة أخت عبدو وزوجها أحمد.
والرواية ليست سياسية لكنها عالجت بشفافية قضايا مرتبطة بالسياسة ولامست موضوع التطلعات السياسية والخروقات السياسية والنضال السياسي الطلابي ونددت بواقع الترقيات والتوظيفات التي تبُث فيها السياسة أكثر من الكفاءة.
وليست رواية اجتماعية ولا أنثروبولوجية محضة وإن عالجت موضوع الهجرة القروية واغتراب الأسرة وصعوبة اندماجها اجتماعيا واقتصاديا عندما خصصت فقرة للحديث عن “با علي” وعن العلاقة بين الأم وحياة، وتضمنت إشارات كثيرة ومواضيع أثيرت بمقاربة سوسيولوحية.
ليست دراسة سيكولوجية وإن لامست بعناية المعارك النفسية داخل الذات وخارجها، وأثارت موضوع مزاجية المستبد بالسلطة “الرئيس” ونزوعه العدواني وعن القهر النفسي والخوف الكامن في نفسية المرؤوس، المغلوب على أمره.
تتداخل في هذه الرواية مجموعة من الأجناس الأدبية، لم يؤثثها الخيال بقدر ما أغنتها الشهادات على لسان أبطالها، عبدو، أحمد، خديجة، حياة ثم شهادة أمينة التي قدمت نبذة عن مسار النضال الطلابي والنقابي ومآله.
لكن البطل الرئيسي هو مذكرات عبدو التي حركتها الراوية وأحيتها بشحنة وجدانية وآراء انطباعية التقطتها من المفارقات والتناقضات الإنسانية والاجتماعية السياسية داخل أقبية الإدارات.
هي رواية يمكن تصنيفها من الأدب الواقعي، تتحدث عن المواضيع التي يمليها الواقع والسياق الذي أنتج أزمة أخلاق وحربا طاحنة وكان مُستقر الطاحونة في هذه الرواية هو الإدارة.
يقول نيتشه: الأخلاق من صنع الضعفاء للحد من سيطرة الأقوياء ويعتبر كارل ماكس أن الأخلاق من صنع الأقوياء للسيطرة على الضعفاء.
والروائية لخصت كلمتها: الأخلاق تقتل عند موتها، مات الحارس “با علي” مختنقا من الذل والمهانة اليومية ومات عبدو بعدما اختار طريق العزة والكرامة.
تحكي الراوية عن موت الأخلاق وألاعيب السلطة، عن انتزاع الحق في الكلمة، عن انهزام الإرادة وتراجع الإحساس بالكرامة وتُسلطُ الضوء على ما يتعرض له الموظف من تعذيب وتنكيل نفسي، وتطالعنا تيمة الشطط المؤدي إلى الموت البطيء وإلى التيه والضياع منذ الصفحات الأولى للرواية إلى نهايتها.
ويتحول ضمير المتكلم إلى أصوات متعددة، صوت الساردة التي عبرت عن شظايا الذات التائهة، صوت حياة التي فقدت الشعور بالحياة وفاء لقصة حب جميلة، صوت عبدو صاحب مذكرات إدانة التظلم اليومي داخل الإدارة، صوت الحارس والدوس اليومي على كرامته. ومن حين لآخر ينحو ضمير المتكلم المتعدد الأصوات نحو السير ذاتية الرواية.
تفتتح الكاتبة الرواية بمقتطفات عن الانهزام في معارك خفية وظاهرة وعن حالات من الانكسار والحزن لا يستوعبها العقل من قبيل:
“أي تيه أكبر من هذا الذي يقود اثنين متحابين إلى نهاية مأساوية”.
“أي تيه أكبر من هذا الذي يؤدي بالمرء إلى الطواف حول أروقة مستشفيات المجانين….انتهى كلام الساردة”.
رواية “قبل الموت بقليل” تنهل من واقع اليوم ومما حدث في الماضي، الذي لم يتغير، شطط واضطهاد يكبر ويتغول ويمارس أثره التراكمي فيحول الأفراد إلى آلة مستسلمة تتكيف مع واقع الحال أو إلى انتهازيين تجردوا من إنسانيتهم ليرسخوا عبودية جديدة، ولكل من اختار غير ذلك أو تمرد ينتهي إلى الحالات المأساوية كتلك التي افتتحت بها الكاتبة الرواية.
بين الحلم واليقظة، بين الخيال والواقع تستيقظ الساردة مفزوعة من هول ما رأت في المنام أو الواقع، لا يهم فعندما يتفشى وباء الفساد والتسلط ينخر الدواخل في كل الأحوال وفي كل الأزمنة والأمكنة.
وارتباطا بالأزمنة فقد تحدث يوسف السباعي في نهاية أربعينيات القرن الماضي في رواية “أرض النفاق” عن فساد السلطة وعن النفاق المتفشي في العلاقات، وفي سنة 2013 وصف كاتب رواية “ليالي تركستان” نجيب الكيلاني العلاقة بين الغالب والمغلوب حيث اللعنة تصيب المهزوم، مؤكدا أن السلطة لا تلتفت للمبادئ.
ها هي الكاتبة اليوم تكشف عن ضربات الفساد المجنونة، يصمت المرؤوس، يهدد ويتوعد الرئيس، يصيح غاضبا في وجه أتباعه من الموظفين ويقول: لا ترحموا الصمت المحايد ولا الصمت المعارض أما من سولت له نفسه إبداء الرأي المخالف فكدروا عليه حياته.
هذه الصورة موجودة في الفقرة الثانية بعنوان “سعادة المحترم” غير المحترم حيث تسلط الكاتبة الضوء عما يجري بين جدران الإدارة وتصور لنا أقسى حالات تجبر السلطة وأثرها في خلق صراع داخلي بين الذات والآخر وصراع علائقي بين الموظفين.
ونظرا لتعدد دواعي اللجوء إلى الشطط في إدارة السلطة والتراتبية التي تؤذي وتهين الكرامة. يمكن قراءة هذه العلاقة انطلاقا من منهج سياقي يفسر الأسباب التاريخية والأبعاد السياسية والدوافع النفسية لما يجري بين أقبية وسراديب الإدارات المظلمة، الفساد، المحسوبية.
تطرقت الرواية كذلك لقضايا شائكة عن تجبر النقطة الموجبة للرسوب بسبب العلاقة المتوترة بين الأستاذ وطلبته، وعن أوضاع المرأة…… وجاء الانتقال من موضوع إلى آخر سلسا وعلى لسان أبطال الرواية. ولا تكتفي الساردة بحكي الشهادات والمذكرات إنما تفند، تؤكد، تأخذ كلمتها هي أيضا وتحكي.
صعب أن تقرأ رواية وأنت تشعر بفتنة الأفكار، قد تكون حكايتك أو حكاية واحد قريب منك، صفحاتها تملأ النفس بالغيض والتذمر، تذكرك بشيء أغفلته لكنه موجود، من منا لم يشعر بالإحباط داخل إداراتنا، فما بالك بالموظف الذي يقضي داخل أسوارها زمنا أطول.
لا شك أنه في كثير من الحالات يتحسر على قدره، رغم هذا وذاك كنت أصر على المتابعة لا لأعرف مدى التظلم ومنتهاه لكن لأني وقعت في أسر متعة الحكي.
كتبت فاطمة ياسين روايتها بأسلوب سلس يحرك ويتحرك بين الأوضاع والمواقف، بشحنة عاطفية وبملكة روائية صقلتها التجربة وعمق الشجن، وأغنت أسلوبها بانزياحات عميقة نذكر منها على سبيل المثال تفشي ظاهرة الوشاية.
تقول الكاتبة: التقاط ما يجري في كل الأماكن والأركان. حتى صرنا نخشى على أنفسنا منا. ويتجلى من خلال هذا المثال تشبع الكاتبة بالثقافة الشعبية.
كما اعتمدت على أوصاف وتشبيهات معبرة عن الواقع كالسيد المحترم غير المحترم ومثال (السلحفاة) الذي ساقته إشارة إلى الموظف الذي يبتلع ريقه من الخوف عن مصالحه، والصور تتجلى أمام القارئ كأنها الحقيقة لأنها فعلا الحقيقة في كثير من الإدارات المغربية.
أعود إلى عتبة الرواية الأولى التي أجلت النظر فيها، فالعنوان لوحده قضية، هو عبارة عن لوحة تجريدية بشكل مربع يمكن تفسيره بضيق السعة والانحصار والانحباس النفسي، يقال une personne carrée للتعبير بالفرنسية عن الشخص غير المرتاح.
بسط الفنان اللون الأزرق على اللوحة وهو لون التحكم في النفس لكن اللون الأسود ينتشر فوقه بقوة فبدت الخطوط والتموجات وتداخل اللون الأسود بالأزرق كأنها كائنات تختنق والأسود لون الخوف والحزن وعلى أسفل الصورة لون أصفر، لون أشعة الشمس والدفء.
وتباث الجسم الأصفر على اللوحة يحيل إلى الشعور بالطاقة والأمل وإلى صفاء الروح والاستقرار النفسي وكأنها سيدة هادئة تحكي، قد تكون الراوية التي حكت عن أشجانها وتحررت منها.
في الختام يحق لنا في هذه القراءة العاشقة اعتبار رواية “قبل الموت بقليل” صرخة من أجل التغيير عن طريق كشف سيطرة الفساد ومخلفاته، واعتبارها شهادةً على العصر تفجر أزمة علائقية داخل الإدارة وما تخلفه من شقوق نفسية.
قيل عنها في هذا الباب أنها أول رواية لامست أكثر المغارات رطوبة.
قالت عنها الكاتبة مريم التيجي في علاقة العنوان بموضوع الرواية: هل هو جرس إنذار لواقع مُتردٍ داخل دهاليز الإدارة المغربية؟ هل هو دعوة صادقة للإنقاذ قبل الموت؟ والرواية تحمل الجواب كذلك.
قال عنها الناقد جمال الدين حريفي: رواية “قبل الموت بقليل” تملك راهنيةً لا يمكن في واقعنا الحالي غض النظر عنها أو تجاوزها لأنها تعرض مكامن ضعفنا وأوجه تخلفنا الفعلية.
ونخرج من نص الرواية بفسحة أمل رغم جرعات الشجن العميقة: فالرواية عربون محبة لهذا الوطن، صرخة ونداء من أجل التغيير، لبنة من لبنات الإصلاح في العلاقات التبادلية في بعدها النفسي والاجتماعي، نرجو أن يتم الانتباه إلى إشاراتها القوية ودلالاتها النفسية والاجتماعية أينما كان الاحتكاك الاجتماعي وليس في الإدارة فقط.