النابغة الذبياني: الأمثولة الشعرية
كرس ملتقى الشارقة للتراث دورته الحادية والعشرين لموضوع «قصص الحيوان». إن فتح هذا الموضوع المهم، علاوة على كونه تنويعا على أنشطة الملتقى في محاور جديرة بالبحث، دعوة جريئة إلى إعادة الاستكشاف من منظورات جديدة تتجاوز التصورات التقليدية التي هيمنت طويلا.
وإيمانا مني بضرورة وضع «قصص الحيوان» ضمن خريطة السرد العربي القديم، وتقديم صورة شاملة لهذا النوع، بدا لي أن البحث في تشكّل أي نوع، وضمنه ما يتصل بالحيوان، يفرض علينا البحث في أصول ما قبل تشكله، تجاوزا للتصورات التي تبحث في أصوله، انطلاقا من «نصوص» محددة، سواء كانت ذات جذور هندية (الأسفار الخمسة) أو يونانية (أيسوب) أو فارسية وغيرها، وتنسب إليها فرادتها في ظهور هذه الأنواع. إن التأريخ بالنصوص المدونة يقفز على المرحلة الشفاهية التي ظهرت فيها بوادر هذه النصوص وقد قيدت بالكتابة ونسبت إلى «جامع» معين.
منذ أن صار السرد جنسا جامعا، يتجلى من خلال مختلف الأشكال والصور التي أبدعها الإنسان، تغيرت نظرتنا إلى النصوص، وبتنا قادرين على التعامل معها بكيفية مختلفة عن التصورات السابقة. إن السرد عن الحيوان، أو بلسانه، جزء من التعبير الإنساني، في كل العصور والأمكنة بسبب العلاقة الوطيدة بين الإنسان والحيوان، ولا يكاد يخلو منه إبداع إنساني.
لذلك يمكننا، من منظور سردي، التعامل مع الحيوان باعتباره «شخصية» أو «فاعلا» لا يختلف عن أي شخصية إنسانية في أي عمل سردي، سواء في الحياة اليومية أو الإبداعية والفنية، قديما أو حديثا. إن حضور الحيوان ماثل في اللغة اليومية، وفي مختلف أشكال الإبداع الشعري والسردي والصوري، وأيا كانت الوسائط الموظفة لذلك، وسواء كان هذا الحضور واقعيا وحقيقا أو خياليا ومتخيلا.
لا مراء في أن كتاب «كليلة ودمنة» تدشين لمرحلة جديدة في إنتاج الأمثولة كتابيا في تاريخ التراث العربي الإسلامي، لكن المرحلة الشفاهية العربية تزخر بالأماثيل التي ظلت جزءا من إبداعية الإنسان العربي، شأنه في ذلك شأن الإنسان في أي مكان، يكتب ابن قتيبة: «إن العرب كانت تضرب الأمثال على ألسنة الهوام». وما نجده في الأمثال والأشعار والأخبار ما يؤكد ذلك، ويكفي أن نطلع على الكتب الخاصة بالحيوان عند الجاحظ والدميري وغيرهما، لنتأكد من ذلك، ويقدم لنا القرآن الكريم والحديث النبوي، في هذا النطاق، أمثلة لا حصر لها حول ضرب الأمثال، وما يتصل به من معان ودلالات.
لا مراء في أن كتاب «كليلة ودمنة» تدشين لمرحلة جديدة في إنتاج الأمثولة كتابيا في تاريخ التراث العربي الإسلامي، لكن المرحلة الشفاهية العربية تزخر بالأماثيل التي ظلت جزءا من إبداعية الإنسان العربي، شأنه في ذلك شأن الإنسان في أي مكان.
من بين الإبداعات التي تتصل بالأمثولة، على غرار ما نجد في كليلة ودمنة، ما صاغه النابغة الذبياني في قصيدته عن الحية «ذات الصفا». إنها على غرار بنية الأمثولة ومادتها ومقاصدها إلا انها جاءت في قالب شعري منحها خصوصية مميزة. تقع القصيدة في ثمانية عشر بيتا تتوزع على قسمين رئيسيين، يمكن تحديدهما من خلال ثلاثة مقاطع.
خمسة أبيات منها، يتشكل القسم الأول الذي يعبر فيها الشاعر عن أحاسيسه وانفعالاته حيال قبيلته التي تنكرت له (المقطع الأول): «ألا أبلغا ذبيان عني رسالة / فقد أصبحت عن منهج الحق جائره». وينتهي البيت الخامس منها بعجُز يذكر فيها قصة عبيدان العبد الذي كان يورد قبل القوم، فجاء من يحول بينه وبين ذلك، ظلما وعدوانا (المقطع الثاني). وفي هذا تأكيد على مماثلة قصته مع عبيدان المظلوم: «ليهنأ لكم أن قد نفيتم بيوتنا/ مُندَّى عبيدان المُحلِّيءِ باقره».
أما القسم الثاني فيحتل ثلاثة عشر بيتا، يربط فيه الشاعر قصته بقصة الحية، من خلال «المماثلة» بينهما، من خلال قوله في البيت السادس: «وإني لألقى من ذوي الضِّغن منهمُ/ وما أصبحت تشكو من الوجد ساهره» ويأتي البيت السابع للربط: «كما لقيت ذات الصفا من حليفها/ وما انفكت الأمثال سائره» ثم تتقدم إلينا قصة الحية ذات الصفا مع الأخ الذي قتلت الحية أخاه، وتعاقدت معه على الصلح، مقابل تزويده بقسط من المال كدية.
فلما رأى نفسه اغتنى، بدأ يفكر في نقض العهد بمحاولة يحاول قتلها، والحصول على ما في جحرها من أموال، وفي الوقت نفسه يأخذ بثأر أخيه. وبعد فشله يطلب منها الرجوع إلى الحالة السابقة، فترفض ذلك مؤكدة له: «أبى لي قبر، لا يزال مقابلي/ وضربة فأس، فوق رأسي، فاقره». إن ما لقيه الشاعر من قومه نظير ما لقيته الحية من الأخ الموتور، مع فارق أساسي وهو أن الشاعر لم يعامل قبيلته إلا بالحسنى، ولكنها تتنكر لكل ما فعله من أجلها، وتطرده من القبيلة.
من الشعر إلى السرد، ننتقل من الشاعر الذي يعبِّر عن ذاته، ليعبُر إلى الراوي الذي يضرب المثل من خلال الموسوعة الثقافية المشتركة، فيتغير الصوت من الشعري إلى السردي. إن أي ذاتية خاصة (الفرد) لا يمكنها أن تتحقق إلا ضمن ذاتية عامة (الجماعة). ومن هنا يبدو السرد عاما وقابلا للتحقق من خلال كل الأجناس. ولعل تحليلا متأنيا للأمثولة الشعرية، يكشف لنا الخصوصية الإبداعية التي تتحقق من خلال القصيدة وهي تتدثر بالسرد.