سرديات

“تحولات الإنسان الذهبي”.. حفرٌ معرفي إبداعي

عوّدنا الروائي السوري نبيل سليمان، الحائز على جائزة عويس في دورتها الأخيرة، أن يحفر في التاريخ بجدّ وشغف، في العديد من أعماله، لعلّ أبرزها “مدارات الشرق” التي شكّلت أربعة أجزاء من الرواية الضالعة في تاريخ سورية منذ أوائل القرن الماضي. أمّا في روايته الصادرة حديثّا عن دار خطوط وظلال، “تحوّلات الإنسان الذهبي”، فإنه حفّار في الأدب والثقافة والفنون والتراث والمرويات والأساطير وغيرها الكثير، تحت عنوان جامع: “الحمار”.


وإذا كان قد حُكي عن لوكيوس أبوليوس، مؤلف الكتاب الشهير “تحوّلات الجحش الذهبي”، أنه قال: “أمبيدوقل ينظم القصائد، وأفلاطون يصنّف المحاورات، وسقراط يضع الأناشيد، وأبيكاروس يصنّف مشاهد التمثيل الإيمائي، وكسينوفون يؤلف القصص التاريخية، وغراتس يصنع الأحاجي، أما صاحبكم أبوليوس، فهو يجمع كل هذه الأصناف ويتعامل مع ربات الفنون التسع”، فإن نبيل سليمان في “تحوّلات الإنسان الذهبي”، جمع أصنافًا كثيرة، بينما بطل روايته، متحوّل إلى حمار، في الواقع هو لا يتحوّل،

إنما يعيش الحياة الحالية بلبوس إنسان تقمّص روح حمار، فكارم أسعد الذي يعيش هذا الإحساس منذ طفولته، بل كان أبوه يقول لأمه عنه إن هذا الولد كان حمارًا في الجيل الماضي، هو كاتب يفكّر في كتابة رواية عن الحمار منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وهو يجمع الوثائق ويراكم قاعدة بياناتها حول الحمار، مما أنتج التراث الإنساني من فنون وأدب وأشعار ومسرح وأغانٍ وغيرها، مثلما سنلمس ذلك في الرواية التي تتعدّد الألسنة فيها، إنّما اللسان الغالب هو لسان البطل كارم أسعد، مرة بضمير المتكلّم ومرّة بضمير الغائب، يصير هو الراوي يحكي عن الشخصية المقصودة.

وهو إذ يعيش بين بني البشر بقميصه البشري، فإن “حميريّته” حاضرة بقوة لتلتقط طبائع وسلوك ومواقف هذا المجتمع البشري، ويعيش نتيجة ذلك في التناقضات: “التفت إلى تولاي ليحدثها عن تناقضاته الغنائية الموسيقية، لكن السؤال داهمه: الغنائية الموسيقية فقط يا كارم أسعد؟ يا حمار؟”، ما يفسّر القلق الذي يعيشه كارم أسعد المثقف الطامح إلى كتابة رواية عن الحمار، ومن خلال سيرته على مدى عمره المسرود في الرواية هذه، نتعرّف على سيرته “الذاتية الفكرية الإبداعية”.

وهو إذ يقدّم الكتاب بهذا القول للوكيوس أبوليوس “إن الأغبياء من البشر وحدهم لا يصدقون ما يحدث نادرًا، أو ما لا تستطيع عقولهم إدراكه”، فإنه يضع القارئ أمام نصّ كاشف، يرسّخ هذا الانطباع قول كافكا: “خجلت من نفسي عندما أدركت أن الحياة حفلة تنكرية”.

تتوزّع الرواية على أربعة فصول، يعنون الفصل الأول: على شفا زلزال أو زمن تولاي، والفصل الثالث: على شفا الزلزال، وهنا تأكيد ما بإضافة أل التعريف، ثم ينتهي في الفصل الرابع بعنوان: زمن الزلزال، فعن أي زلزال يتحدّث، وهو المعروف عنه تسمية الحراك السوري أو انتفاضة الشعب السوري وما آلت إليه بالزلزال؟

 وإذا كان حمار لوكيوس أبوليوس أمضى حياته يُباع ويُشرى ويهرب ويُلاقى فيتحدّث عمّا كان يعيش ويرى ويلاحظ ويتفكّر في أحوال بني البشر، فإن كارم أسعد الذي يُضمر “حميريّته” في أعماقه وتلحّ عليه في طرح الأسئلة والمقارنات، في مسيرة حياته، قد طاف وسافر وعاصر وشهد، وجرّب في الحياة وفي الثقافة والكتابة وفنونها، ليتشكّل من شهاداته على تاريخ سورية تحديدًا، والمنطقة العربية وقضية فلسطين، كتاب، شاغله الحمار بما جمع الكاتب عنه من مدوّنه مكتنزة، بين مرويّات شعبية وأساطير وتراث ثقافي إنساني، وروايات وأشعار ومسرح وأغانٍ وسينما وغيرها، أورد الكاتب معظم مراجعها في ثبتٍ في آخر الرواية بلغت 134، ومراميه أبعد بكثير.



تبدأ الرواية في مدينة “أكياكا” الواقعة جنوب غربي تركيا، حيث يصل كارم أسعد للمشاركة في مهرجان ثقافي، مدعوًّا من قبل رئيسة اللجنة التنظيمية للمهرجان، الأكاديمية تولاي سيرجين، وكان قد تعرّف إليها قبل مدّة في مهرجان عبد السلام العجيلي للرواية، بدورته الثانية في مدينة الرقّة السورية، والمعروف أنها كانت في عام 2006،

يعني أن لقاءه في تركيا كان على أبواب إرهاصات الحراك السوري، كانت ضيفة على المهرجان مع صديقه أصلان الناشط السياسي المعارض للنظام التركي، وهو ابن أنطاكية السوري، سوف يمنّي كارم أسعد نفسه بلقاء حميمي مع تولاي، وستُبهره نعومة بشرتها، وستعترف له بالسرّ: إنه صابون مصنوع من حليب الأتان، ومغاطس بحليبها أيضًا،

وبعد المهرجان سيمضيان يومين في إزمير قبل أن يعود إلى أنطاكية ثم إلى اللاذقية وبلدته الجبلية نيبالين. ثم ينتقل إلى الاسترجاع في سرد يمتد على ما يقارب المئة صفحة، تعود تولاي للظهور مرّة أخرى، مع أن الاسترجاع لا ينقطع في الرواية في كل فصولها.


سيكبر في قريته “نيبالين”، ويلتقي بزلفى عشقه الأوّل، وسيتخلّى عنها عندما يحصل لقاء صاخب بينهما في البرية، وكانت تجربته الأولى التي ذهل أمام غموضها إذ ظنّ أن أفعى لدغت زلفى، فيهرب وتموت زلفى لاحقًا، وستتقمّص في حياة أخرى في جسد صبية هي غنوة.

وهو إذ يحكي عن حرب حزيران 1967، واستقالة عبد الناصر، ويرشح موقفه النقدي منه، فإنه كان في مرحلته الجامعية، وسيذكر وفاة عبد الناصر وهو في مدينة الرقة يعمل مدرّسًا فيها منذ عامين، فيمكن التكهّن بأن مواليده تعود إلى منتصف أربعينيات القرن الماضي، ما يشي بالسيريّة، حتى لو قالت له تولاي في معرض حديث بينهما: إنّك تبدو في الخمسين.

يهرب من الرقة خوفًا من افتضاح أمره بعلاقة مع جارته أريام التي تعيش وحدها بسبب هرب زوجها الملاحق سياسيًّا إلى العراق، في مجتمع قبلي، للشرف والعرض مكانة كبيرة لديه، ويعود إلى بلدته يدرّس فيها فترة بسيطة ثم يستقيل ليعمل في الكتابة ويحضّر لمشروعه في تأليف رواية عن الحمار، وسيكون في هذه المرحلة صديقُ عمره “غالي” حاضرًا بقوة مع زوجته المصريّة “منصورة” الأكاديمية في الصيدلة، وغالي معارض شرس للنظام.

ولقد طرد من عمله، فراح يعمل للترجمة، وسيستقر الحال بكارم أسعد منعزلًا في بيته في نيبالين، وقد ورثه عن أبيه وحدّثه وأضاف إليه وأنشأ مكتبته، وهناك سوف تأتي صبية أرملة لتقوم بخدمته وتدبير منزله، وهي حاملة للشهادة الثانوية وقد مات زوجها قبل أن تنجب، ستنشأ علاقة بينهما، تبدأ بعلاقة جنسية، ثم تصير علاقة حميمة من دون زواج، حتى إنها تحمل منه وتجهض جنينها، لكن أخاها حامد الذي كان يعمل في أحد الفروع الأمنية ومتزوجًا من امرأة من الشام، يعود بعد نهاية خدمته إلى ضيعته ويمارس سطوته الذكورية وجشعه على أمه وأخته،

وهو إذ يعرف أنها تعمل في بيت كارم ويشتبه بعلاقة بينهما يحبسها ويمنعها عنه، ثم سيقوم بتدبير الاعتداء على بيت كارم في نيبالين وتهديم سوره وسرقته، في إشارة تحمل تهديدًا كبيرًا، وهذا ما كان في الواقع مع الكاتب نبيل سليمان الذي تم الاعتداء على بيته الريفي حيث معتزله للكتابة أكثر من مرة خلال الأزمة السورية.

خلال هذه المسيرة يكون قد خاض تجارب عديدة ومتنوعة في طريق تكوّنه كاتبًا، فهو دعي مرة لحضور “ملتقى الطبيعة والثقافة” في الكويت، حيث سيقدم ورقة عن الحمار ويرفضها الملتقى، وسيتعرف هناك على الكاتبة ظبية الراشد، وسيكون مشروع لقاء حميمي إلّا أنه يُجهض، وسيلتقي هناك مع مؤنس الرزاز من الأردن، وأحمد رجب من مصر،

وسيلتقي في المغرب بالروائي الراحل الطيب صالح، مثلما كان قد التقى قبله بعبد السلام العجيلي في الرقة، كذلك بناديا لطفي، وكل اللقاءات مع رموز الثقافة والأدب والفن كانت تدور الأحاديث فيها حول الحمار في التراث الثقافي الإنساني، ليعود مرّة أخرى ويلتقي بتولاي في مهرجان بني عمار في المغرب، وخلال هذا اللقاء الأخير، سيأتيه اتصال من صديقه غالي يخبره أنه تم الاعتداء على بيته في نيبالين، ليحصل اللقاء المنتظر بينه وبينها قبل أن يغادر، فيبلغ ذرى اللذة في ذروة الألم.

في تتبّع حياة كارم أسعد، سوف نرى، ليس فقط تكوّنه الكتابي، بل الفكري والسياسي، ونمو وتطور فكره النقدي من كل ما في الحياة، وذلك بضمير الحمار الذي يسكنه، إذ يستطيع الوصول إلى عمق المعنى طالما هو في دخيلته متحرّر من الثوابت القيَمية الموروثة، وهو إذا كان الحمار شاغله خلال مسيرته،

فإنه يغدق على النص بمعارف  متنوعة عن الحمار، عمّا كتب عنه، منطلقًا من موقف نقدي، ليس كأديب أو كاتب أو معني بالهمّ الثقافي، بل كمراقب للحياة الاجتماعية والسياسية والتحولات التي تطرأ على المجتمعات، فهو يناقش مع غالي وضع الأحزاب الماركسية في سورية: “كل من تمركس في هذه البلاد إنما تمركس على الملخصات والترجمات إلّا من عصم ربي”،

موقفه من حرب حزيران، موت جمال عبد الناصر، الحياة السياسية في سورية منذ استلام البعث السلطة ثم انقلاب حافظ الأسد، موضوع التوريث في سورية وفي أكثر من بلد عربي، الصراع العربي الفلسطيني، الثورات في التاريخ العربي، وصولًا إلى اللحظة المفصلية، لحظة انتفاضة الشعب السوري وظهور غنوة التي تسكنها روح زلفى،

غنوة الشابة التي ترمز إلى جيل الانتفاضة، فهي كانت فعالة ونشطة في المظاهرات التي اكتسحت الشوارع والميادين إلى أن قوبلت بالعنف من قبل النظام فتعسكرت وتأسلمت، وبدأ الخلاف بين “المثقفين” حولها كما بينه وبين غالي: ابتدأ خلاف الصديقين بهدير غالي بالثورة، مقابل لجلجة كارم وحيرته بين الحراك والانتفاضة والثورة إلى أن هدر: “هذا زلزال، فعفّط له غالي: الزلزال للطبيعة والثورة للمجتمع،

زلزالك هروب وفذلكة وخوف ولا يقدم، بل يؤخر، لا ينفع، بل يضر”، ويصرّح غالي برأيه في موقف المثقفين، بعد اليساريين والمقاومين الذين إذا سقطوا “يبدعون في السقوط”، كذلك المثقف “عندما يسقط الشاعر أو الكاتب أو الفنان أو المفكر، صدقني يبدع في السقوط، لا فرق بين يساري ويميني وبين بين”.


رواية “تحولات الإنسان الذهبي” حاولت أن تتمثّل إبداعات الآخرين عن الحمار، منذ لوكيوس وثربانتس إلى وقتنا الحالي، ففي أحد الفصول، مثلًا، بينما هو يقدم ندوته في مهرجان، تتتالى القصص كما لو أنه تداعي أفكار، أو ما يسمى تيار الوعي أو المونولوج. فيسرد حكايات عن حمار الحكيم عندما يلتقي بالكاتب الجزائري أحمد رضا حوحو.

حمير بريجيت باردو في فرنسا، حمار سعيد الفلسطيني في حرب 1948 لإميل حبيبي، في رواية العصفورية لغازي القصيبي، حمار قصائد سليم بركات إلخ. يكتب في الهامش، على لسان كارم إنه لن يقرأ الهوامش، “بل سأكتفي في الختام بالإشارة إلى أن ما قرأته مسبوك من كتب عديدة، كان الحمار عمادها”، ثم لا يني يحمّل الهوامش نظرة نقدية ببعض الكتب عن الحمير كما الهامش الذي ذكره المحاضر كارم حول مجلّدات إبراهيم عبد القادر المازني لما تنضح به كتاباته من ازدراء “لنا معشر الحمير”.

نصّ صعب، ليس لناحية فهمه، بل لناحية تكوينه وتركيبه غير النمطي، إذ يمكن إطلاق تسميات عديدة عليه، فهو رواية معرفية بما اكتنزت من حمولة معرفية حول الحمار من ناحية، وحول التراث والمُنجز الثقافي بمجالاته الإبداعية، عربيًّا وعالميًّا، من ناحية أخرى، وأخمّن أن الكاتب حذف الكثير منها في مسوداته. وهي رواية سيريّة “ذاتيّة وفكريّة إبداعية” والقرائن كثيرة في النص لمن اطّلع على حياة نبيل سليمان ومسيرته من خلال مقابلاته أو الحوارات التي أجريت معه وهي كثيرة، أو لمن هو قريب في الواقع منه.

ويمكن اعتبارها ميتارواية أيضًا، مما تردّد فيها من محاولات التفكّر بنفسها، بطريقة تحقّقها، بالوقفات النقدية الذاتية التي يقوم بها كارم أسعد.

برعت الرواية في وصف المكان، من نيبالين إلى اللاذقية إلى أنطاكيا إلى أكياكا إلى إزمير إلى المغرب، وشخصياتها في معظمها مرسومة بإتقان، خاصّة كارم أسعد، كذلك لوزية، وتولاي، المرأة الواثقة المتمردة الإشكاليّة في الوقت نفسه.


ما يلفت أيضًا في الرواية، في تقنيتها، عدا تعدد الأصوات ولو كان الصوت الغالب لكارم أسعد، هو الهامش الذي يشكّل جزءًا رئيسيًّا من المتن، وهو يتداخل فيه الواقعي بالمتخيّل، فمرة يشير إلى مرجع ما، وأخرى إشارة أو توضيح يخص إحدى شخصيات الرواية، وأخرى يكمل السرد لجهة شخصية منها، وأحيانًا يتوقّف عند مفاصل في مسيرة البطل الإبداعية،

عدا الموقف النقدي الذي يمارسه نبيل سليمان بلسان كارم أسعد، بالإضافة إلى تداخل الوعي باللاوعي، وهذه إحدى حِيله التي اتبعها في أكثر من كتاب، لكن ما تتميز به هذه الرواية هو غناها بالأسماء الحقيقية، لشخصيات ثقافية وسياسية وغيرها.


في الخلاصة فإن رواية “تحولات الإنسان الذهبي” عمل كثيف منشغل بقضايا إنسانية ووجودية كثيرة؛ الحب، الجنس، الصداقة، الموت، الحياة ما بعد الموت، التقمص، السياسة، المصير.. إلخ، صرف من أجله نبيل سليمان الكثير من الجهد والوقت، انطلاقًا من قناعته بأن الرواية يلزمها اجتهاد بحثي، وقد أخلص لها في هذا العمل.


ضفة ثالثة

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى