سرديات

موضوعة الصراع السردي بين القارئ والنص

يظل العمل الأدبي في حاجة إلى ذات قارئة، هذه الأخيرة تحقق بفعل إدراكها لإشكالاته وجوده الخاص عبر فعل التخييل الذي تمارسه غير متجاوزة الاستراتيجيات المؤسسة لبنية النص ذاته، وهو ما يدعو إلى القول إن العملية القرائية فاعلية عقلية مغلفة بأفعال وعي تخيلية مشروطة بضرورة الإبقاء على جوهرية النص[i]، وأن القارئ يسعى من خلالها إلى إدراك دلالات النص وعوالمه، ذلك أن فعل الإدراك للمعنى المُدرَك يساعد في بناء معنى العمل الأدبي ويتيح إنتاج معنى إضافي، فالنصّ يُولد حينما يقرأه الآخر، وهو القارئ[ii] ولا يتحقق إلا بوجود هذا القارئ.


تؤمن الدراسات الحديثة على أن فعل القراءة والذات القارئة يسهمان في أن عملية الفهم تتم داخل النص الأدبي، إذ أن القارئ بامتلاكه لآليات التأويل والتفسير يتمكن من الغوص في النص إلى درجة الاندماج بعوالمه الكلية، اندماجا يحافظ على استقلالية كل طرف منهما أي النص والقارئ، وهو ما يعني أن تأويل وتفسير أي نص أدبي إنما ينطلق من مدى التفاعل بين الاثنين، وقدرة القارئ على التواصل معه، إذ أن النص يفرض عليه تفاعلا محددا في إطار أنساقه الثقافية والمعرفية التي تؤطره، وإٍنْ كان لا يمارس سلطته الكاملة على القارئ،

ففعل التأويل يمَكِّن من اختبار إمكانات النص في مدى إفصاحه عن معانيه. وبالعودة إلى رواية (أتربة على أشجار الصبار) نلفي قلق السؤال حاضرا عن طبيعة هذا التفاعل، وعن الإمكانات المتاحة لنا عبره تفرض ذاتها.

إن القارئ لرواية (أتربة على أشجار الصبار)، يلفي ذاته أمام رواية تجريبية بامتياز، تنفتح على آفاق واسعة بهدف فهم الواقع بشتى تناقضاته، وإدراك الذات الكاتبة في محاولتها تجاوز اجترار النمط الكلاسيكي، مستمدة روح التجديد والإبداع من مرحلة الثمانينات التي عايشتها وعاشتها، هذه المرحلة التي عرفت تحولا عميقا على مستوى الكتابة السردية،

 والسارد الكاتب عبد الواحد كفيح في روايته هاته كان حريصا على الحفاظ على هذا التميز، حتى أنه عبر عن خوفه من أن تضيع منه خيوط السرد في أتون رغبته تجاوز السائد يقول: (تخيل عزيزي القارئ لو انفلت خيط السرد من يد الراوي، لا قدر الله، وتشعبت الأحداث في كل منحى واتجاه… ويترك السارد في أتون المجهول، وتضيع منه خيوط السرد المحكم… وتنتهي الوشائج السردية التي نتمناها ماتعة في هذه الرواية تقوي لحمتها، وتُقَوِّم سُداها، وتصلب بناءها لا أن تُسْقِمَه أو تُرَهِّله… [iii]).

على هذا الأساس تنطلق الرواية من تشخيص وقائع وفضاءات نصية ودلالية وسياقية مختلفة عن تلك التي يمتلكها القارئ بل أحيانا متعارضة معها،

لأن الرواية في كنهها تنطلق من رؤية انتقادية للعوالم المؤثثة لواقع مهزوز، ( لا أحد يعرف بالضبط، لا كيف ولا متى ولا من أي طرف من الدنيا أتى ذلك الداهية الغريب حتى شق صيته عنان الشرق والغرب…[iv]/ المشعودون يكتسبون القداسة في عالم الجهلاء[v] /ملأوا أوقاتهم في نقاشات بيزنطية بليدة[vi]/لأن السلطات القوية تحرسها الخرافات العظيمة[vii]/العجوز ميمونة عشتها الأسوء من عشة الدجاج[viii]/ كَلَّت أرجلهم ولم تعد تقو على حملهم فسقطوا جاثين على ركبهم ثم مستلقين[ix]/مشوا راجلين إلى أن انتهوا إلى حزام البؤس[x]/إني رأيت هذه المدينة قاسية بلا قلب فاستبدل قلبك بقلب فيل ضخم، ولا تخف[xi]/ على الأقل عثرنا على شبر أرض نقبع فيه[xii]/ في المزابل أرزاق لا يعرفها إلا من خبرها[xiii]/لا أدري يا أمي هل نحن هاربون؟ أم مهاجرون؟ أم راحلون؟ أم مرحَّلون؟[xiv]/ أعد اكتشاف نفسك إنك تجهلها [xv]/ وهي جالسة تحدث نفسها أحست بما يشبه اليد على كتفها،

التفتت مرعوبة فلم تر أحدا[xvi]/ اعتاد على المشي الساعات الطوال، يَذْرُع الأزقة الضيقة، والشوارع الفسيحة دونما هدف معين[xvii])، يبدو من هذه المقاطع السردية أن الرواية تنفتح على المتخيل المحلي، وعلى التراث الشعبي، وتتقاطع مع الكثير من العادات والتقاليد و السلوكات المجتمعية التي تدفع بالضرورة القارئ إلى تتبعها، بل إلى استجلاء بشاعة الواقع حيث يصبح ذاك التفاعل بين النص والقارئ تفاعلا موسوما بالتوتر والصراع. صحيح أن الأنساق الثقافية والمعرفية لكليهما مشتركة غير أن النص يسعى دائما إلى تفجير هذه الأنساق مبزرا مكامن الضعف فيها، وهو ما يجعل القارئ يغوص في صراع حقيقي،

هذا الصراع يكون قادر على إظهار الموضوع الجمالي في النص. ويبدو ذلك جليا في رواية (أتربة على أشجار الصبار) من خلال الدلالة الاستلزامية الدالة على السخرية لأسئلة السارد عن كَمِّ الذكريات التي تحتشد بها ذاكرته، حيث يقول: (ما أقساك من سارد أجلف، أحقا رأيت بأم عينك كل هذه الأفعال الشنيعة؟ … والله غريب امر هذا السارد الأحول، إذ كيف أمكن له بعد مرور كل هذه السنين الطوييييلة أن تسعفه الذاكرة على حشد كل هذه الذكريات والأحداث البشعة؟[xviii])

إن المتتبع للرواية حتما سيقف عند ذاك التمايز الذي أوغلت فيه من خلال الرؤى المتعددة لكل من السارد/ الكاتب والشخوص، والتيمة موضوع الرواية والقارئ، هذا التباعد هو ما يزيد من شساعة نسبة التوتر والصراع، إذ ليس بالضرورة أن يجتمع هؤلاء على رؤية موحدة للعالم. فتصورات السارد والشخصيات للواقع والحياة حتما متباينة، يقول: (كان بالإمكان، وخلافا لكل التوقعات أن نشعل حربا شرسة بين العجوز وطاقم أسرتها.. والحكيم الفقيه وأزلامه.. تستعمل فيها كل أنواع الأسلحة المتاحة، ويجثوا جَمَل السرد زمنا طويلا … إذن لا حاجة لنا بحروب سرود استنزاف لا طائل من ورائها[xix]

يشير هذا المقطع إلى قضيتين مهمتين حيث أراد السارد الوقوف عندهما بطريقة جعلته يخص صفحة لهما، مرتبطتين بإشكالية السرد، وتتمثل الأولى في القطع مع التصورات التقليدية التي تقتل الروح الإبداعية عند القارئ، كلما احتكم العمل الأدبي إلى النموذج الكلاسيكي، ومع كل ما انتهى إلينا قبل الوعي بالسرد في مقابل التركيز على الانتقاء والتبئير.

والثانية مرتبطة بأفق الانتظار الذي يستدعي خبرة القارئ والتي تمكنه من بناء فرضيات سابقة تدعوه إلى مجابهة النص، بل مجابهة رؤية السارد ذاته عبر عمليتي الرفض والقبول، هذا السارد الذي يدبر المقالب للقارئ، يقول: ( وأنا الراوي أبحث لك أيها القارئ عن مكائد بين هذه السطور وأتصيد لك المقالب والمطبات، هل تعلم أنني أنقب في كل زاوية مظلمة وفي ثنايا ذاكرة وقلب رجيم عن مكيدة… حتى أوقع بك في شرك المكائد السردية الجميلة[xx]

وهو ما يولد حتمية الصراع الذي يؤدي إلى الفهم النصي. إن الحوارات التي عجت بها الرواية بين الشرقاوي وعلال من جهة، وبين المولودية ومحمد من جهة ثانية، ورغبة كل طرف في إقناع الآخر برؤيته، نجد أن السارد قد جمع بين رؤية الشرقاوي وعلال، وبين رؤية المولودية ومحمد رغم تباعدهما على اعتبار المرجعيات الثقافية والتاريخية، والاجتماعية التي تؤلف بينهما.

كل ذلك يجعل القارئ في حالة انفعال وتوتر. وإن بدا السارد مقتنعا أن العملية السردية لا تتوقف عند الوصف، ولعل رؤية النص بدورها لا تتماشى مع تصورات كل من السارد والشخصيات، وهو ما يجعل رؤيته أكثر تعقيدا. إن إدراك القارئ لهذا الاختلاف يدفعه أكثر إلى خلق تواصل عبر الحوار لاستبيان الموضوع الجمالي، تقول المولودية إحدى شخصيات الرواية :(إعلم يا محمد أننا ما خلقنا في هذه الدنيا إلا للنبش سواء بالمخاطيف أو بالمخالب أو بغيرها من وسائل النبش… فهناك بعض البشر ينبشون في أمعاء إخوانهم البشر وهم على قيد الحياة. هكذا هي الحياة صراع ونبش من أجل البقاء قيد النبش وهلم نبشا[xxi]

نخلص إلى أن عملية القراءة رهينة بحجم التوتر الذي يخلقه النص إثر التفاعل بينه وبين القارئ خاصة وأن الصور الذهنية المتمثلة لدى القارئ معرضة للتغير. وقارئ رواية أتربة على أشواك الصبار يدرك معناها كنص إبداعي انطلاقا من حالات التوتر والصراع التي يحياها في تفاعله معه، وبالتالي يصل إلى أن الرواية تسعى إلى تشريح واقع إنساني انهارت فيه القيم، وباتت السيادة للتهميش والإقصاء والظلم والتسلط، وأثناء عملية التفاعل ينبثق وعي يفتح أفق القارئ على التمرد والانفتاح على قيم العدالة، والكرامة والحق في الحياة،

غير أننا لم نلف أيا من شخصيات الرواية تفكر بشكل جمعي بقدر ما هيمن عليها سرد ذاتي تبعا لرغبتها. إن درجة الوعي الفني لرواية أتربة على أشجار الصبار تفتح أمام القارئ سبلا تحليلية تساعد في خلق جدل مع البنى الدلالية بهدف صياغة موضوع جمالي نابع من الصراع السردي لحظه ممارسة فعل القراءة.


[i]  الرواية المغاربية المعاصرة

[ii] عبد العزيز حمودة- الخروج من التّيه (دراسة في سلطة النص)- سلسلة عالم المعرفة –ع: 289–2003/ ص:11

[iii] أتربة على أشجار الصبار ،ص.55

[iv]  أتربة على أشجار الصبار ، ص. 7

[v]   أتربة على أشجار الصبار ، ص. 10

[vi]  أتربة على أشجار الصبار ، ص.12

[vii]  أتربة على أشجار الصبار ، ص. 14

[viii]  أتربة على أشجار الصبار ، ص. 43

[ix]  أتربة على أشجار الصبار ، ص. 79

[x]  أتربة على أشجار الصبار ، ص. 85

[xi]  أتربة على أشجار الصبار ، ص. 92

[xii] أتربة على أشجار الصبار ، ص. 102

[xiii]  أتربة على أشجار الصبار ، ص. 103

[xiv] أتربة على أشجار الصبار ، ص. 104

[xv]  أتربة على أشجار الصبار ، ص. 105

[xvi]  أتربة على أشجار الصبار ، ص. 107

[xvii] أتربة على أشجار الصبار ، ص. 115

[xviii]  أتربة على أشجار الصبار ، ص. 100

[xix]  أتربة على أشجار الصبار ، ص. 73

[xx]  أتربة على أشجار الصبار ، ص. 215

[xxi] أتربة على أشجار الصبار ، ص. 163

عتيقة هاشمي

عتيقة هاشمي، أستاذة الثانوي التأهيلي بالرباط المغرب، حاصلة على شهادة الدكتوراه وحدة التكوين (الإنسان والمجال في العالم المتوسطي) تخصص : (قضايا وظواهر نقدية وأدبية في المغرب الأندلس ) جامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية - الرباط، المغرب. حاصلة أيضا على ماستر في شعبة اللغة العربية، تخصص (التفاعل الثقافي الأندلسي المتوسطي) جامعة محمد الخامس كلية الآداب والعلوم الإنسانية-الرباط المغرب. عضوة الاتحاد الدولي للغة العربية، عضوة شباب الائتلاف من أجل اللغة العربية، عضوة المكتب الوطني لجمعية التنمية المغربية للقراءة (شبكة القراءة بالمغرب)، عضوة مجلس إدارة الاتحاد العربي للثقافة. عضوة مجلس إدارة مجموعة تغريدات نخلة العراقية ُنشرت لها الكثير من المقالات والدراسات النقدية في مجلات وجرائد مغربية وعربية ودولية ورقية وإلكترونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى