فكر وفلسفة

رائد الاتجاه العقلاني في بلاد المشرق

الفارابي المعلم الثاني”259-339ھ” رائد الاتجاه العقلاني في بلاد المشرق العربي. ما الذي دفعني إلى الكتابة عن هذا الفيلسوف العملاق؟ لعل من الأسباب المهمة التي أثارت حفيظتي وجعلتني أتحدث عن هذا الرجل أنه للأسف،

هناك بعض المتخصصين في مجال الفكر الفلسفي الإسلامي لا يعلمون حقيقة الرجل وحقيقة منهجه الفلسفي وعلى يد من تتلمذ، فنجد من يخرج علينا منتفخ الأوداج مرتفع الصوت قائلا أنه تتلمذ على يدي أفلاطون،

ولسنا ننكر فضل أفلاطون على الساحة الفكرية الفلسفية، فكان أولى بهذا المتحدث أن يقول هو متأثر بأفلاطون مثلا عند حديثه عن المدينة الفاضلة، والمذيعة أمامه تهز رأسها ولا أعلم تهز مؤيدة أم ماذا؟ الفارابي يا سادة أرسطي المنزع أرسطي المذهب، التلميذ المخلص لأرسطو _كما سنوضح.

السبب الثاني أن دراستي الأكاديمية للفكر الإسلامي تحتم عليَّ التصدي لمثل هؤلاء، خصوصا وأن رسالتي للماجستير والدكتوراه متخصصة في الفارابي، فالماجستير كان عنوانه المعرفة بين الفارابي وابن باجه، دراسة مقارنة. والدكتوراه الله والعالم بين الاتجاه المشائي والاتجاه الإشراقي لدى مفكري الإسلام وفلاسفته، دراسة مقارنة.

  • من هو الفارابي؟

هو أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الفارابي نسبة إلى مدينة فاراب إحدى مدن بلاد التركمانستان، وقيل أنه فارسي الأصل، ونحن لا نؤيد هذا الرأي إذ أقرت معظم كتب التراجم بتركية الرجل.

تلقى علومه في حاضرة الخلافة العباسية بغداد، درس القرآن الكريم وعلومه، ثم درس كافة العلوم فبرع في الرياضيات والفلك والموسيقى وألف فيهم مؤلفات قيمة.

درس المنطق والفلسفة وخصوصا الفلسفة اليونانية وبرع في فلسفة أرسطو الواقعية، ولذلك لقب في الأوساط الفلسفية بالمعلم الثاني، أنشأ المدرسة المشائية الأرسطية في العالم العربي والإسلامي،

لزم سيف الدولة الحمداني في أخريات حياته وطلب منه الخليفة أن يتمنى عليه فلم يطلب سوى أربعة دراهم لليوم يقتات بها، اشتهر في أخريات حياته بالزهد والتقشف فلم ير إلا عند ملتقى الأنهار أو مشتبك البساتين والرياض، توفي عام 339ھ وصلى عليه سيف الدولة الحمداني مع أربعة نفر.

  • مؤلفاته:

ترك لنا الفارابي العديد من المؤلفات نذكر أهمها: “إحصاء العلوم” وهو المؤلف الخالد والذي ذكر في مقدمته الغرض من تأليفه إحصاء العلوم علما علما بغرض الاستفادة منها، فتحدث عن علم الكلام وعلم أصول الفقه وعلم التعاليم “الرياضيات” والموسيقى والعلم المدني والاقتصاد والعلم الحكمي “الفلسفة”،

وقد ذكرنا هذا الكتاب في مصنفنا تصنيف العلوم عند العامري وكيف نسج العامري تصنيفه على نسق الفارابي.

وكذلك الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو والذي حاول فيه أن يوفق بين فكريهما ولكنها كانت محاولة تلفيقية أكثر منها توفيقية. وكذلك السياسات المدنية وآراء أهل المدينة الفاضلة وتحصيل السعادة، والتنبيه على سبيل السعادة، وكتاب العبارة في المنطق، مسائل متفرقة سئل عنها الفيلسوف، وفصوص الحكم، وكتاب الموسيقى.

  • منهجه الفلسفي:

انتهج الفارابي لنفسه منهجا خاصا فالرجل لم يكن ناقلا لآراء أرسطو أو أفلاطون، وإنما كان صاحب نزعة نقدية أقام على إثرها نسقا فلسفيا متكامل البنيان حاول أن يستخدم المنهج التأملي لدراسة القضايا الميتافيزيقية.

حاول أن يوفق بين أفلاطون وأرسطو بغية الوصول إلى غايته في التوفيق بين الفلسفة والدين. حاول أن يقدم تعريفا للفلسفة، قال هي دراسة الوجود ما هو كذلك، أي بكل ما هو موجود، وهو في ذلك أرسطي.

فلسفته: يمكن تلخيص فلسفته في عدة نقاط:

1-التوفيق بين الفلسفة والدين.
2-تعريف الفلسفة.
3-مشكلة الألوهية

الله وإثبات وجوده وأدلته على وجود الله وخصوصا دليل الممكن والواجب، فالله واجب الوجود بذاته وما سواه ممكن الوجود واجب بالغير أي أن الله هو الذي أوجده، ثم دليل الغائية والنظام في الكون والعناية الإلهية، ثم حديثه عن الصفات الإلهية، وكذلك حديثه عن علاقة الله بالعالم والإنسان.

4-النفس الإنسانية وتفرقته بين النفس والروح والمصير وخلود النفس والبعث.
5-حديثه عن الأخرويات، اللوح المحفوظ والقلم والقضاء والقدر والملائكة والجن والجنة والنار.

  • 6- فلسفته الأخلاقية:

والتي حاول أن يجمع فيها بين عقلانيته ومعتقده، فدرس الأخلاق النظرية والعملية ووضح الغاية القصوى من بحوث الأخلاق تحقيق السعادة، واستشهد بالقرآن الكريم: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12))،

وكذلك تحدث عن الوسط الأخلاقي جامعا بين النسق الأرسطي وأصول دينه الذي يدعو إلى الاعتدال والوسطية، فالفضيلة وسط بين طرفين كلاهما رذيلة، فلا يميل بالكلية إلى طرف دون طرف آخر، كلوا واشربوا ولا تسرفوا، لا إفراط ولا تفريط لأن الإنسان بما هو كذلك يجمع بين جانبين بداخله المادي والروحي.

  • 7-فكره السياسي

فكره السياسي ومحاولته الجادة الحديث عن المدن الخيرة والمدن الفاضلة وتقسيماته للمدن ومنها الضآلة والجاهلة والصالحة وكيف السبيل إلى بناء مدينة يسودها الأمن والاستقرار والسلام، وما الشروط التي ينبغي أن تتوافر في من يلي أمر المسلمين وأهمها رجاحة العقل والكياسة والشجاعة وإقامة وتطبيق العدالة بين الناس والصلاح وحفظ بيضة الدين والذود عن حياضه.

  • 8-زهده:

سلك في أخريات حياته مسلك الزهد والتقشف وقيل أنه قرأ الفكر الرواقي، ولكني لا أرجح أنه تأثر بالرواقية لأن الرجل شهد له القاصي والداني بالتقوى والزهد والورع فزهده لم يكن دعوة لقتل النفس أو العيش عيش الكلاب، أو قتل الشهوة بالكلية، ألف في آخر أيامه كتاب فصوص الحكم الذي كمل فكره _إن جاز لنا القول_ لمحات وإن كنا نرى أن الرجل لم يترك لنا نظرية صوفية.

هذا هو الفارابي المعلم الثاني التلميذ المخلص لأرسطو. واضح الكلام يا أسيادنا؟ الحديث عن الفارابي يطول ولا تكفيه مقالات لكن كان غرضنا الرد باختصار على..

أ. د. عادل خلف عبد العزيز: أستاذ الفلسفة الإسلامية ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان.

عادل خلف عبد العزيز

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى