علم الاجتماع

كنجزلي ديفيز ونظرياته في علم الاجتماع السكاني: قراءة نقدية

يُعد كنجزلي ديفيز (Kingsley Davis) أحد أبرز علماء الاجتماع الأميركيين في القرن العشرين، حيث قدم مساهمات مؤثرة في مجال علم الاجتماع السكاني والديموغرافيا. تناول ديفيز قضايا التغير السكاني وعلاقته بالبناء الاجتماعي، وقدم نظريات تهدف إلى تفسير العلاقة بين النمو السكاني والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية.

من أهم مقالاته في هذا المجال “التغيير والاستجابة في التاريخ الديمغرافي الحديث” التي سعى فيها إلى تقديم تفسير شامل لكيفية استجابة المجتمعات للتغيرات السكانية.

  • التوازن السكاني ومتطلبات البناء الاجتماعي

على عكس بعض النظريات الديموغرافية التقليدية التي ركزت على العلاقة بين السكان والموارد، ركز ديفيز على التوازن بين حجم السكان ومتطلبات البناء الاجتماعي. فهو يرى أن المجتمع لا يسعى فقط لتحقيق التوازن بين السكان والموارد الاقتصادية، بل يسعى أيضا لتحقيق التوازن مع المؤسسات الاجتماعية مثل التربية، والدين، والترفيه، وغيرها من الأنشطة التي تعكس أهداف المجتمع.

عندما يختل هذا التوازن بسبب زيادة عدد السكان، فإن المجتمع يقوم بإجراءات استجابية للتكيف مع الظروف الجديدة. أطلق ديفيز على هذه الاستجابات “المتغيرات الوسيطة”، والتي تشمل تأخير سن الزواج، تنظيم النسل، وحتى اللجوء إلى الإجهاض في بعض الحالات. ومن خلال هذه الاستجابات، يتم إعادة ضبط معدلات الخصوبة والإنجاب للحفاظ على التوازن المجتمعي.

  • ديفيز والانتقال الديموغرافي في الدول المتقدمة

أحد أهم أفكار ديفيز هو تفسيره لانخفاض معدلات المواليد في الدول المتقدمة. حيث يرى أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها هذه المجتمعات، وخاصة النمو الاقتصادي وزيادة مستوى الرفاهية، ساهمت بشكل مباشر في خفض معدلات الإنجاب. ويفسر ذلك بأن الرفاهية الاقتصادية تؤدي إلى ارتفاع مستوى التعليم، وتغير أنماط العمل، وزيادة مشاركة المرأة في القوى العاملة، مما يخلق بيئة تقل فيها الحاجة إلى إنجاب أعداد كبيرة من الأطفال.

يُعتبر هذا التحليل امتدادا لنظرية الانتقال الديموغرافي التي تنص على أن المجتمعات تمر عبر مراحل محددة من التغير السكاني، حيث تنتقل من معدلات مواليد ووفيات مرتفعة إلى معدلات منخفضة مع تطور الاقتصاد والمجتمع. لكن ما يميز تفسير ديفيز هو تركيزه على البُعد الاجتماعي والثقافي لهذه الظاهرة، وليس فقط على العوامل الاقتصادية.

  • الانتقادات الموجهة لنظرية ديفيز

رغم أهمية طروحاته، تعرضت نظرية ديفيز لعدة انتقادات، من أبرزها:

  1. الطابع غير الديناميكي: يرى النقاد أن نموذج ديفيز يفتقر إلى الديناميكية المطلوبة لفهم التعقيدات الاجتماعية الحديثة، حيث ركز بشكل أساسي على المجتمعات المتقدمة ولم يضع تصورا كافيا لكيفية تأثير العوامل السياسية والتكنولوجية في المجتمعات النامية.
  2. إغفال العوامل الهيكلية والتفاوت الطبقي: لم تراعِ نظريته تأثير التفاوت الطبقي والاقتصادي داخل المجتمعات على النمو السكاني، حيث أن العوامل الاقتصادية لا تؤثر على جميع الفئات بنفس الطريقة.
  3. التحيز نحو الاتجاه المحافظ: صنف بعض الباحثين نظريته ضمن الاتجاهات المحافظة في علم الاجتماع، حيث ركز بشكل كبير على فكرة التوازن الاجتماعي، متجاهلا إمكانية حدوث تغيرات جذرية في المجتمعات بسبب العوامل الديموغرافية.

تبقى مساهمات كنجزلي ديفيز ذات أهمية كبيرة في علم الاجتماع السكاني، حيث قدم رؤية تحليلية لكيفية تفاعل السكان مع المؤسسات الاجتماعية، وأثر التحولات الاقتصادية في أنماط الإنجاب. وعلى الرغم من الانتقادات التي وُجهت لنظريته، فإن أفكاره لا تزال تُستخدم في الدراسات الديموغرافية الحديثة، لا سيما فيما يتعلق بالتحولات السكانية في المجتمعات الصناعية.

المراجع:

    • Davis, K. (1956). “The Amazing Decline of Mortality in Underdeveloped Areas.” American Economic Review, 46(2), 305-318.

    • Davis, K. (1945). “World Population in Transition.” Annals of the American Academy of Political and Social Science, 237(1), 1-11.
    • Weeks, J. R. (2011). Population: An Introduction to Concepts and Issues. Cengage Learning.
    • Caldwell, J. C. (2006). “Demographic Transition Theory.” Springer.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى