يُعتبر روبرت ميرتون (Robert Merton) أحد أبرز علماء الاجتماع في القرن العشرين، حيث أسهم بشكل جوهري في تطوير النظرية الوظيفية البنيوية، مقدما رؤية أكثر واقعية وقابلية للتطبيق مقارنة بالنموذج التقليدي الذي وضعه معلمه تالكوت بارسونز.
ومن خلال تحليله المتعمق، اقترب ميرتون إلى حد كبير من بعض المفاهيم الماركسية، متجاوزا بذلك الإطار المحافظ للنظرية الوظيفية التقليدية. في هذا المقال، سنستعرض مساهمات ميرتون في علم الاجتماع، مع تحليل نقدي لأفكاره حول البنية الاجتماعية والوظيفة، وصولا إلى إسهاماته في فهم التغير الاجتماعي.
- 1. نقد ميرتون للوظيفية التقليدية
يختلف ميرتون عن بارسونز في عدة نقاط جوهرية، حيث حاول تفكيك المسلمات الصلبة التي قامت عليها النظرية الوظيفية التقليدية، وذلك عبر النقاط التالية:
- إلغاء الالتزام الأيديولوجي: رأى ميرتون أن الوظيفية يمكن أن تُستخدم كأداة تحليلية دون أن ترتبط بالضرورة بموقف أيديولوجي معين، سواء كان محافظا أو راديكاليا، ما يتيح لها إمكانية تفسير الظواهر الاجتماعية بمزيد من الحياد.
- التأكيد على التغير والصراع: على عكس بارسونز، الذي ركّز على التوازن والتكامل في المجتمع، شدد ميرتون على وجود الصراعات والتناقضات التي يمكن أن تؤدي إلى تحولات جذرية في البنية الاجتماعية.
- رفض فرضية الوحدة الوظيفية: لم يكن مقتنعا بأن جميع العناصر في المجتمع تعمل دائما في انسجام، بل رأى أن بعض المكونات يمكن أن تكون غير متكاملة أو حتى متناقضة مع البناء الاجتماعي العام.
2. تطور النظرية الوظيفية من خلال ميرتون
أسهم ميرتون في تحديث الوظيفية من خلال إعادة تنظيم مفاهيمها الأساسية، حيث قام بالتمييز بين نوعين من الوظائف داخل البنية الاجتماعية:
- الوظائف الظاهرة (Manifest Functions): وهي تلك النتائج المقصودة والواضحة التي يمكن ملاحظتها بسهولة، مثل القوانين والسياسات الاجتماعية التي تهدف إلى تحقيق أهداف محددة.
- الوظائف الكامنة (Latent Functions): وهي الوظائف غير المقصودة أو غير الملاحظة بشكل مباشر، والتي قد تكون إيجابية أو سلبية، مثل التأثير غير المتوقع للمدارس على تكوين العلاقات الاجتماعية بين الطلاب.
ومن خلال هذا التمييز، قدّم ميرتون أداة تحليلية أكثر دقة لفهم كيفية عمل الأنساق الاجتماعية المختلفة وتأثيراتها غير المباشرة.
- 3. مفهوم المعوق الوظيفي (Dysfunction)
من بين الإسهامات الهامة لميرتون في علم الاجتماع، طرحه لمفهوم المعوّق الوظيفي، والذي يشير إلى العناصر أو الظواهر التي تؤدي إلى اضطراب أو توتر داخل البناء الاجتماعي. فبينما كان النموذج التقليدي يرى أن جميع الأنساق الاجتماعية تعمل بانسجام لتحقيق التوازن، أكد ميرتون أن هناك عمليات داخل المجتمع يمكن أن تكون مُعوقة لهذا التوازن، مثل الفقر، والبطالة، والتمييز العنصري.
يقول ميرتون في هذا الصدد: “إن مفهوم المعوقات الوظيفية بما يتضمنه من ضغط وتوتر على المستوى البنائي يمثل أداة تحليلية هامة لفهم ودراسة الدينامية والتغيّر”.
- 4. البنائية الوظيفية والتغير الاجتماعي عند ميرتون
خلافا للاتجاه التقليدي الذي ركّز على الاستقرار الاجتماعي، يرى ميرتون أن أي ظاهرة اجتماعية يجب تفسيرها من خلال نتائجها وتأثيراتها على البناء الاجتماعي الأكبر. ففي نظره، التغير الاجتماعي ليس مجرد استثناء، بل هو جزء لا يتجزأ من سيرورة المجتمع.
أمثلة على عوامل التغير الاجتماعي وفقا لميرتون:
- التفاوت الطبقي والصراعات الاجتماعية.
- التقدم التكنولوجي وتأثيره على المؤسسات.
- التغيرات الثقافية والتفاعلات الاجتماعية.
5. مقارنة بين ميرتون وبارسونز في تفسير استقرار المجتمع
رغم اختلافهما في العديد من الجوانب، لم يكن ميرتون بعيدا كليا عن بارسونز. حيث يظل مفهوم التوازن مهما في نظر ميرتون، لكنه يراه أكثر ديناميكية. ففي حين كان بارسونز يؤكد أن المجتمع دائما في حالة “تلاؤم مستمر”، فإن ميرتون أضاف إلى ذلك فكرة أن المجتمع قد يستند أيضا إلى عدم التوازن في بعض الفترات، مما قد يؤدي إلى تغييرات بنيوية على المدى الطويل.
- 6. دوركايم وميرتون: نقاط الالتقاء والاختلاف
يمكن مقارنة ميرتون بعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم، الذي أسس للاتجاه الوظيفي من خلال دراسته للوقائع الاجتماعية. يتشابه الاثنان في تركيزهما على البناء الاجتماعي، لكن بينما رأى دوركايم أن المجتمع يتطور نتيجة لعوامل مثل الكثافة السكانية والوعي الاجتماعي، فإن ميرتون أولى اهتماما أكبر لديناميكيات الصراع الداخلي داخل المجتمع.
نقاط الالتقاء:
- التأكيد على وجود أنساق وظيفية داخل المجتمع.
- دراسة العلاقات بين البناء والوظيفة وتأثيرهما على الاستقرار الاجتماعي.
نقاط الاختلاف:
- يرى دوركايم أن المجتمع يسعى دائما إلى التضامن (سواء آليا أو عضويا)، بينما يؤكد ميرتون أن المجتمع يحتوي على عناصر غير متكاملة وقد يكون عرضة للصراع.
استطاع روبرت ميرتون من خلال تحليلاته النقدية والتعديلات التي أدخلها على النظرية الوظيفية أن يُحدث ثورة في فهمنا لآليات عمل المجتمعات. فقد قدم رؤية أكثر واقعية وديناميكية، لا تقتصر على الاستقرار الاجتماعي بل تأخذ في الحسبان أيضا الصراعات والتناقضات الداخلية التي تؤثر على البناء الاجتماعي.
ومن خلال مفاهيمه مثل الوظائف الظاهرة والكامنة، والمعوق الوظيفي، ساهم في تطوير أدوات تحليلية أكثر دقة لدراسة التحولات الاجتماعية. وبالتالي، فإن أعماله تظل ذات أهمية بالغة في علم الاجتماع الحديث، حيث توفر إطارا مرنا لفهم التغيرات الاجتماعية المعقدة.