الدراسات الثقافيةعلوم سياسية

هاجس استقلال الأقليات في أوروبا .. “كتالونيا” نموذجاً

بين مُصطلح الاستقلال الذي يستعملُه القوميون الكتالونيون، وبين مصطلح الانفصال الذي تستعملُه السلطة المركزية في مدريد، تكمُن كثيرٌ من الأسئلة والتكهنات والتحليلات؛ أهمها على الإطلاق؛ مآلُ الوحدة الأوروبية بعد استقلال إقليم كتالونيا فعليا. والغموض الذي يلف كيانات الدول الأوروبية المرعوبة من شبح التفكك إلى دويلات وكيانات صغيرة واهنة ومُتناحرة.


تعيدنا حالة إقليم كتالونيا في إسبانيا، إلى ثمانية قرون خلت، وبالضبط إلى سنة 1492م، وهو تاريخ سقوط الأندلس، وبداية توحيد أوروبا المسيحية، إذ تمثل شبه الجزيرة الإيبيرية في أوروبا؛ ميزانا ومعيارا لقياس صعود أو انحدار الكيان الأوروبي المسيحي، مثلما تُعتبر مدينة القدس الشريف ميزاناً ومقياسا للصعود وسقوط العالم الإسلامي.

بدون كتالونيا.. كيف تبدو إسبانيا؟


فقد شكل سقوط شبه الجزيرة الإيبيرية في يد المسلمين؛ بداية تشتُّت وتضعضُع وانهيار التكتلات المسيحية في أوروبا، وتشرذُمِها وتحوُّلِها إلى مماليك ودويلات وكيانات صغيرة متناحرة، فيما بنى المسلمون حضارة تامة الأركان؛ موحدةً ومتماسكة وكاملة المقومات في الأندلس، عمَّرت لـ 8 قرون.


بعدها استطاعت أوروبا المسيحية لملمة شتاتِها وتوحيدِ كلمتِها وقوَّتِها خلال ما عُرف في كتب التاريخ بـ”حروب الاسترداد” الصليبية، التي استثمرت مرحلة سقوط الحكم الأموي في الأندلس، وبدءِ مرحلة “ملوك الطوائف“، حيث استقلَّ كلُّ أميرٍ بمدينتِه وأعلنها إمارةً، فأصبحت الأندلس دويلات صغيرة ضعيفة ومتناحرة، يكيد بعضها لبعض، إلى أن سقطت غرناطة آخر قلاع المسلمين في أوروبا، وبها طويَ سِجِلُّ المسلمين في الأندلس.


تَوحَّدت أوروبا باسترجاع شبه الجزيرة الأيبيرية وتقوَّت، وهيمنت البرتغال وإسبانيا على العالَم بعد ذلك، وعمَّت الثورة الصناعية أوروبا الغربية، وتم اكتشاف العالم الجديد “القارة الأمريكية”. وتم ترسيخ الثقافة الديمقراطية والوحدة والتكافل بين دول أوروبا في اتحادٍ قلّ نظيرُه في العصر الحديث.


واليوم؛ يلوح لأوروبا شبح التفكك والتقسيم والتفتُّت من جديد إلى دويلات وكيانات صغيرة. بعد أن باتت الكثير من الأقاليم الحساسة في أوروبا، تعرف نزعات انفصالية واستقلالية وعنصرية. وأيّاً يَكُن المسمى؛ فإن الاتحاد الأوروبيّ عاجز تماما عن تبرير موافقه، فهو بين مطرقة الوحدة الأوروبية وسندان الديمقراطية وحرية تقرير المصير.


فالحريات والحقوق والديمقراطية التي قامت على أساسِها أوروبا، هي المصوّغ الذي به يُنادي إقليم “كتالونيا” بالاستقلال والانفصال عن إسبانيا، فهي تدعوا إلى تفعيل الديمقراطية واحترام اختيار الشعب الكتالاني بإنهاء الحكم الذاتي وإعلان الاستقلال، وتدعوا أوروبا كاملة إلى الاعتراف بها دولةً كاملة السيادة على إقليمِها، باعتبارِها  تمتلك كل المقومات الاقتصادية والتشريعية والإدارية لتكون دولة ناجحة.


في حين؛ تتمسك إسبانيا بحق سيادتِها على جميعِ أراضيها، وتدعوا الاتحاد الأوروبي إلى ضمان وحدة الاتحاد بضمان وحدة وتماسُك دولِه.


فالاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف؛ تكتلُ دولٍ، والنزعات الانفصالية في أوروبا كثيرة جدا وعلى كف عفريت، وغضُّ الطرف عن استقلال كتالونيا، سيقود حتما إلى عدوى الحركات الانفصالية الداعية للاستقلال والتي ستعُمُّ كلَّ أوروبا. خصوصا مع الشواهد التي بدأت تطفوا على السطح في السنوات الأخيرة.


خصوصا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتدفق عدد كبير من المهاجرين العرب الفارين من الأزمات التي تجتاح بلدانَهم، ونُظرائهم الأفارقة الفارين من نفس البؤس. ما يُنذر باضطراب الخريطة الديمغرافية والعرقية لأوروبا، وبورز قوميات جديدة ستطالب فيما بعد بالاستقلال.


الشيء الذي ساهم في صعود اليمين المتطرف أكثر فأكثر، وتقوية  النزعة العنصرية لديه أكثر فأكثر. والمُتمثلة في؛ دعواته المتكررة لتنظيف أوروبا من المهاجرين من السود والعرب.


  • تخوفات أوروبية من تنامي الحركات القومية الداعية للانفصال في أوروبا.

تتحسس الدول الأوروبية رأسَها، وتضع يدها على قلبها، خوفا من موجات انفصالية جارفة ستجتاح أوروبا عاجلا أم آجلا، تقودها أقليات قومية تطالب بالاستقلال، وربما لن تكون هذه الدعوات سليمة إلى النهاية، ما يُنذر بشبح حرب أهلية طاحنة تجتاح أوروبا، وقد تعيد القارة العجوز إلى سالف عهدِها في “القرون الوسطى”، أو ربما تُكرر مأساة الحربيْن العالميتيْن.


إن نموذج إقليم “كتالونيا” ليس الوحيد، فهناك دولٌ كثيرة في أوروبا لديها التخوف نفسُه الذي يعتري إسبانيا من الانقسام والتشرذم والتفكك والاضمحلال والتفتت.


  • فرنسا:

تواجه فرنسا شبح انفصال جزيرة “كورسيكا“، وتتخوف من قيام دولة الباسك على الحدود الجنوبية مع إسبانية.


  • بلجيكا:

تنام بلجيكا على فوهة بركان قومي انفصالي خامد، قد يثور في أي لحظة، إذا ما دعت كلاًّ من “الفلامندو” و”الوالون” القوميتان الكبيرتان في بلجيكا إلى الانفصال. إذ تعرف بلجيكا أحد أعقد التشكيلات العرقية والثقافية في أوروبا، فإلى جانب البلجيكيين؛ هناك القوميات الناطقة بالهولندية وأخرى ناطقة بالألمانية والفرنسية. عدى عن الصراع الطائفي الدائم بين الكاثوليك والبروتستانت في هذا البلد الصغير.


  • المملكة المتحدة:

تستعمل الحكومة المركزية في بريطانيا وطيلة تاريخِها، سياسة أكثرَ لُيونة للحد من النعرات الانفصالية، التي تُسبب تقزيمَ كثير من أراضي الامبراطورية البريطانية (بريطانيا العظمى)، وانكماش “البريكسيت”.


فإلى جانب مطالبات “اسكتلندا” المتواصلة بالانفصال، ومعها “إيرلندا الشمالية” و”ويلز”، كما أن هناك مخاوف من حدوِ إقليم “جبل طارق” نفس النهج، ومطالبة القوميون فيه بالانفصال عن بريطانيا.


  • إيطاليــا:

تتخوف إيطاليا كذلك؛ من النعرات والدعوات الانفصالية في جنوب “تيرول“، هذه المنطقة التي كانت تنتمي إلى النمسا قبل الحرب العالمية الثانية، ويتحدث سكان هذه المنطقة اللغة الألمانية.


ويتمتع هذا الإقليم كذلك؛ بمؤهلات اقتصادية كبيرة جدا، وقد خلقت الأزمة الاقتصادية الحادة التي ضربت إيطاليا في 2012، وتراكم ديونها لدى المانحين الأوروبيين، ومخاوف هذا الإقليم من استنزاف موارِده المالية ودخِّها في الشريان الاقتصادي لروما على حساب شعب “تيرول“.


  • ألمانيا:

ما فتئ إقليم “بافاريا” يُطالب باستقلالِه عن ألمانيا، خصوصا وأن هذا الاقليم كان مملكة مستقلة في القرن 18، وتمتد مساحتُه على أزيد من 70 كلم مربع، ويقع وسط جبال الألب. وله عاصمة ومؤهلات اقتصادية كبيرة جدا، بالإضافة إلى استقلالِه إداريا، ويضم الإقليم أكثر من 12 مليون نسمة، مما يجعل منه قوة بشرية كبيرة وضاغطة، يصعب التعامل معها أمنيا.


  • بوادر حرب أهلية أوروبية تلوح في الأفق.

لا يمكن لا لإسبانيا ولا لأي دولة أوروبية مهما بلغت ديمقراطيتُها وهامش الانفتاح والحريات فيها. أن تقبل بتفكك الدولة المركزية، لأن التشكيلة الإثنية والطائفية والعرقية في أوروبا؛ معقدة جدا وبالغةُ الخطورة والحساسية.

Brexit or Scramble for Europe? - Dharma Today


فالقوميون في أوروبا؛ يرون أن لا جدوى من الحفاظ على الوحدة الأوروبية بينما تعاني الأقليات ويتم استنزافُ موارِدها وخيراتِها بحجَّة تمتين الاتحاد، وتصريفُ عائداتِها وثرواتِها إلى دول أخرى. خصوصا بعد صرف ملايير الدولارات لإنقاذ اليونان وإيطاليا من إفلاس محقق في الأزمة الاقتصادية الأخيرة مطلع 2012.


  • معلومات تقنية عن إقليم كاتالونيا.

كتالونيا؛ محافظة أو إقليم، تقع شمال شرق شبه الجزيرة الأيبيرية، تحدها فرنسا شمالا، ومحافظة بلنسية جنوبا، وتطل على البحر الأبيض المتوسط من جهة الشرق، ويحدها غربا منطقة أراغون.


كتالونيا؛ متنازعٌ عليها بين مملكة إسبانيا التي تعتبرُها جزءا من المملكة وتمنحها حكما ذاتيا واسع الصلاحية، وحكومة كتالونيا التي تعتبرها جمهورية مستقلة وذات سيادة وعاصمتها برشلونة. 


يبلغ عدد سكان كتالونيا حوالي 8 ملايين نسمة، وتبلغ مساحتها 23 ألف كلم، وتضم 4 مقاطعات، ولها دستور خاص وبرلمان وجهازُ شرطة مستقل عن شرطة مدريد. 


تمتلك كتالونيا مؤهلات اقتصادية كبيرة جدا، فإضافة إلى موقعها الاستراتيجي المهم، تستحوذ كتالونيا على حوالي 20 % من مجموع اقتصاد اسبانيا، و26 % من المواد التصنيعية الإلكترونيات وصناعة السيارات، حيث يعرف الإقليم أعلى نسبة في المبادلات التجارية بين إسبانيا والاتحاد الأوروبي؛ لاستضافتِها كُبريات الشركات الأوروبية على أراضيها.


كما تلعب السياحة دورا هاما في الثقل الاقتصادي الكتالوني، ساهم فيه بشكل كبير نادي برشلونة من خلال إنعاش الخزينة العامة للمدينة بإيراداتِه المالية التي تُعادل 1 مليار دولار، بمعدَّل 300مليون دولار سنويا.  وهو ما يعادل 1.2% من الناتج الإجمالي المحلي لإسبانيا.


كما يوفر النادي آلاف الوظائف المباشرة وغير المباشرة، كما يحج ملايين الأشخاص سنويا خصوصا من  المشجعين ومن محبي فريق البارصا من إسبانيا ومن أوروبا عموما لمدينة كتالونية لتشجيع فريقهم، فتنتعش الخدمات الفندقية والمواصلات والمطاعم والمحلات التجارية.


كذلك؛ تعد كتالونيا من أغنى المناطق في إسبانيا، وهذا ما اعتبرَه القوميون الكتالونيون هيمنة وتبديدا وتضيعا للعائدات المالية الكاتالونية من طرف مدريد.


ما ينقص كاتالونيا؛ هو الاستقلال، فحكمها الذاتي موسع ويشمل تدبير الإقليم سياسيا واقتصاديا وإداريا بكل حرية، ولها دستور مكتوب وبرلمان وعَلَم  ونشيد وطني، ويبقى الانتماء الشكلي لإسبانيا؛ هو العقبة الوحيدة المتبقية لإعلان الجمهورية الكاتالونية المستقلة.

الحسين بشوظ

كاتب، صحفي عِلمي وصانع محتوى، باحث في اللسانيات وتحليل الخطاب، حاصل على شهادة الماجستير الأساسية في اللغة والأدب بكُلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. مسؤول قسم اللغة العربية في منظمة المجتمع العلمي العربي بقَطر (سابقا)، عُضو مجلس إدارة مؤسسة "بالعربية" للدراسات والأبحاث الأكاديمية. ومسؤول قسم "المصطلحية والمُعجمية" بنفس المؤسسة. مُهتم باللغة العربية؛ واللغة العربية العلمية. ناشر في عدد من المواقع الأدبية والصُّحف الإلكترونية العربية. له إسهامات في الأدب إبداعاً ودراسات، صدرت له حتى الآن مجموعة قصصية؛ "ظل في العتمة". كتاب؛ "الدليل المنهجي للكتابة العلمية باللغة العربية (2/ج)".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى