شيوخ بلا مريدين
لا تعاني الثقافة العربية المعاصرة فقط سلسلة من الانقطاعات مع ما تحقق منها في الزمن، ولكنها أيضا تعاني من الجحود والتنكر لما أنجز في أي حقبة من الحقب. إن غياب الاستمرار والوصل بين مكونات الثقافة العربية وهي تتطور في الزمن تكرس بصورة كبيرة منذ الخمسينيات من القرن الماضي تحت تأثير الإيديولوجيات الاستئصالية لكل ما جرى قبلها.
كانت هذه الإيديولوجيات الجديدة ترى نفسها تعبيرا عن حقبة تنبني على ضرورة القطيعة مع ما مضى، وهي تسعى إلى إقامة “الدولة الوطنية” الحديثة. ولقد ساهم بعض المثقفين ممن تبنوا المشروع التحديثي في إقامة مسافة مع الماضي، وفي الوقت نفسه مع التراث بذريعة أنه لم يعد صالحا للزمن الراهن.
تطورت هذه الذهنية الانقطاعية، والتي ترى في القطيعة أساس التقدم على المستويات كافة، وهيمنت في كل المجالات. وكان من أبرز نتائجها هيمنة النزعة الفردانية على الجماعية، والنرجسية الذاتية على الاعتراف بالآخر المختلف، والإيمان بأن بإمكانه أن يقدم أفكارا تستدعي النقاش، والحوار.
لا يمكن أن يتولد عن الفردانية والنرجسية سوى الإلغاء والتنكر. تبدو لنا هذه الذهنية في كل المجالات الثقافية والاجتماعية والسياسية. فكل واحد يرى نفسه مؤهلا ليكون “شيخا” في المجال الذي يهتم أو ينشغل به، وما على الآخرين إلا أن يكونوا أتباعا له وتحت إمرته ويأتمرون بأمره.
فالحاكم، ورئيس الحزب والطائفة والجمعية، والمسؤول عن أي مؤسسة في أي قطاع، كل هؤلاء يرون أنفسهم مؤهلين لممارسة ما يحلو لهم بدون أن يكون ثمة من يعارض، أو يعبر عن رأي.
تبدو لنا هذه القطائع في الثقافة والسياسة بجلاء على سبيل المثال. فكل من يشتغل بالثقافة يرى نفسه وحيد قرنه. وكل مشتغل بالسياسة فريد زمانه. وكل منهما يأتي ليلغي ما قبله. ومن آثار هذه الذهنية هيمنة التجريب والارتجال الذي يطبع الحياة العربية العامة التي تقوم على الانفصال لا الاتصال.
من يقول الآن إنه يطور في الفكر مشروع الطيب تيزيني أو حسين مروة في المشرق، أو يسهم في تعميق فكر محمود المسعدي، أو مالك بن نبي، أو علال الفاسي أو الجابري في المغرب العربي؟ يمكن أن نعدد الأمثلة من كل المجالات، وفي كل منعطفات الفترة الحالية لنرى أن ذهنية الانقطاع هي السائدة عندنا على خلاف ما نجد في الثقافات المعاصرة، حيث نجد من يجدد الأفكار والتيارات الكلاسيكية، من خلال ما نجد مع الليبيراليين والماركسيين الجدد، وقس على ذلك.
عادة ما تنعت العلاقة بين الشيخ والمريد في الثقافة العربية الإسلامية بالسلبية، اعتقادا بأن المريد ليس له إلا السير على منوال الشيخ. إن الشيخ يلعب دور المربي، وكلما سلك المتعلم طريقه للوصول واصل طريقة شيخه على منواله الخاص، وبذلك تتطور الطريقة مع الزمن، وفي الوقت نفسه تحافظ على استمراريتها. ولقد ساهم هذا التقليد الذي عرفه العرب القدامى في صيانة الكثير من المعارف والصنائع واستمرارها رغم انصرام السنين والعصور.
تغيرت العلاقات عندنا، وصار كل من يعمل في مجال ما لا يعترف بمن سبقه، بل إن كل مجهوده هو العمل على محو الجهود السابقة لإثبات أنه الذي يملك السلطة، أيا كان نوعها، ولو كانت رمزية. إن ذهنية الانفصال، والقطيعة المؤسسة على الفردانية والنرجسية، وإلغاء السابق تنبني على تصور خاص للعلاقة مع الزمن. فالماضي، وفق هذا التصور، ينبغي أن ينتهي لأنه ولى وانقضى. ولذلك فالبدء من جديد، ليس سوى تعبير عن محاولة تأكيد أن هنا والآن هو قاعدة أي سلوك أو عمل.
تتجسد هذه العلاقة في فهم الزمن على أساس الفصل الذي يعني القطيعة مع السابق من خلال فهم تبسيطي للنقد. إننا نمارس النقد على أنه هدم ونقض لما مضى، وليس إعادة قراءة لما مضى من منظور جديد، يصل الماضي بالمستقبل. ولهذا يغيب في ثقافتنا فهم النقد على أنه حوار من أجل التطوير. نمارس بديلا عنه النقض الذي يعني الهدم.
فكل من ينقد في أي مجال ليس له من هدف سوى إثبات ذاته على حساب من ينقده. وكل من فرض نفسه في أي مجال عمل على نقض ما سبقه مدعيا أنه جاء بالجديد الذي يقطع أي صلة بغيره. ليس لهذه الذهنية من غاية سوى صناعة الأتباع لا المريدين. إن المريد إذا تمكن من سلوك الطريق على أحسن وجه تمكن من تجاوز شيخه، عبر تطوير الطريقة التي سار عليها، ويظل على علاقة بسابقه.
أما التابع فليس سوى ظل لمن يتبعه، وكل من فرض نفسه، مع الزمن، يصبح تابعا لها، وينفض يديه من تبعيته لمن سبق. إنه يقوم على أساس الفصل لأنه لم يتأسس على ركيزة صلبة.
إن هيمنة هذه الذهنية في الممارسة والرؤية العربيين جعلت علاقتنا لا تعرف التطور لسبب بسيط هو أننا لم نتعلم ولم نربّ إلا على أساس الفردانية والنرجسية. كل منا يرى نفسه شيخا، ولو بدون شيخ. وهذه التربية ساهمت في جعل العمل الجماعي مستحيل التشكل أو التكوين. صار كل من كان ممثلا مخرجا بين عشية وضحاها، وصار من حصل على شهادة التأهيل الجامعي يرى أنه أهل ليكون رئيسا لمختبر أو مركز، وكل من انتقل إلى مركز قيادي يرى أنه مؤهل ليكون الزعيم أو الرئيس. وكان من نتائج هذه الذهنية أن صارت المجتمعات المختلفة، سواء كانت ثقافية أو سياسية، أو غيرها مرشحة للتشظي والانقسام، وكل يرى أن الحق بجانبه، وأن غيره في ضلال.
إن فهم النقد في ضوء هذه الذهنية لا يمكنه أبدا أن يسهم في البناء، بل إنه أداة لهدم الجيد والمفيد، بدعوى التجاوز والتجديد. من بإمكانه الآن أن يزعم الآن أنه يطور مشروع إخوان الصفا أو ابن تيمية؟ ومن يمكنه أن يدعي أنه يطور أفكار سلامة موسى، أو سيد قطب؟ وإذا مضينا بعيدا نقول من يطور اليوم نظرية الجرجاني أو مشروع ابن خلدون أو ابن رشد؟ إن مشروع أي مفكر لا يمكنه أن يكتمل لسبب بسيط هو أنه مشروع مفتوح على الاجتهاد،
ولو استمر صاحبه في الحياة، لعمل على تطويره وتعميقه، ومات وفي نفسه شيء منه. إن أصحاب المشاريع الكبرى في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، وكذا القديمة، شيوخ ساهموا في التفكير، وفي بلورة رؤيات من أجل المستقبل. أليس من أجل هذا يفكر ويكتب المفكر والكاتب؟ ما هي علاقتنا بإسهامات هؤلاء الشيوخ؟ لماذا لا نعمل كمريدين لتطوير مشاريع شيوخ كرسوا حياتهم لخدمة الثقافة والإنسان؟
أقصد بالمريد ليس الذي يردد ما قيل، ويستشهد بما كتب، ولكن الذي ينتبه إلى إشارات لطيفة وإلماعات دقيقة في أعمال أولئك الشيوخ، وينطلق منها لخلق مسارات جديدة تطور المشروع وتغنيه. بل ويمكنه الانطلاق من الأسئلة التي طرحوها في زمانهم، ويعمل على تعميقها بالنظر إلى الزمن الجديد الذي يعيش فيه. إن علاقة الشيخ بالمريد ليست علاقة تبعية، ولكنها علاقة تطويرية عكس علاقة التبعية.
إن “المريد” بلا شيخ لا يمكن أن يتحول إلى شيخ حقيقي، لذلك لا يمكنه إلا أن يضل الطريق التي يسلك.