تاريخ

99 عامًا على إلغاء الخلافة العثمانية

لعبت الدولة العثمانية دورًا مهمًا في التاريخ منذ بزوغ بذرتها الأولى، فقد كانت إحدى الدول الإسلامية الكبرى التي امتدّ نفوذها إلى مناطق واسعة من الرقعة الأرضية، وعلى الرغم من قلة الأدلة المتوفّرة حول نشأتها واختلاف المؤرخين في تقييمها.


إلا أنّ ما لا يمكن تجاهله أنّها لعبت دورًا مهمًّا في الحفاظ على الدولة الإسلامية، وسدّت الشرخ الناشئ عن انهيار الدولة العباسية، إلى أن انهارت الدولة، وسقطت الخلافة الأخيرة للمسلمين في بدايات القرن العشرين.


  • نبذة عن الدولة العثمانية 

نشأت الدولة العثمانية في أساسها من مجموعة من القبائل التركية الصغيرة، وكان أول ظهور سياسي لهم تحت مظلة الدولة السلجوقية في حماية الخلافة العباسية، فكانوا آنذاك قبائل سنيةً لها دور فاعل في التصدي للشيعة البويهيين.


وقد بدأ الدور السياسي للترك بالظهور في الفترة التي تولى فيها عثمان المؤسس الحكم، فوحّد قواته في الصراع ضد البيزنطيين، وتحالف مع عدد الجماعات الإسلامية والجماعات المسيحية الذين هادنهم. 


تعاقب بعده الحكام على الدولة العثمانية، حتى فتحت  القسطنطينية على يد محمد الفاتح، فكان هذا الفتح بمثابة بوابة نشر الإسلام في قارة أوروبا. ثمّ بلغت الدولة عصرها الذهبي في عهد السلطان سليمان القانوني من خلال الفتوحات التي عبرت الآفاق شرقًا وغربًا.


  • فترة اضمحلال الخلافة العثمانية 

بدأت الدولة العثمانية بالضعف بعد انتهاء حكم السلطان سليمان القانوني، فقد توالت على الدولة هزائم عظيمة على الصعيدين البري والبحري بين العامين (1566- 1718)م، وكان سبب ذلك انغماس معظم السلاطين بملذاتهم، وتولية المهام العظمى للنساء، فكان أول تفوق أوروبي على الدولة العثمانية في عهد السلطان سليم الثاني عام 1574م. 


ومع ظهور التفوق الأوروبي ما كان من الدولة العثمانية إلا أن بدأت بحركة من الإصلاحات المأخوذة عن الدول الأوروبية، فبدأ السلاطين بالحث على تعلم اللغات والترجمة، وإرسال المبعوثين، والتواصل مع السفراء الأجانب، والأخذ من خبراتهم العسكرية والمعمارية، فأخذوا عنهم البذخ في بناء القصور، والسبل الحديثة في تنظيم الجيوش والتسليح، لكن واجهت حركات الإصلاح هذه معارضة على عدة جبهات.


ثم قد أُلحقت في الدولة العثمانية الخسارة العظمى في القرن الثامن عشر إبان دخولها في صراع مع روسيا التي ألحقت بها خسائر كبيرة، واستولت على القرم، وأثارت اليونانيين ضد المسلمين؛ فقتلوا عددًا كبيرًا منهم، وأُجبر الحكام على توقيع اتفاقيات ومعاهدات مذلة للدولة العثمانية.


كما أن الثورات التي قامت بها الانكشارية أدت إلى إحداث فوضى عارمة وزعزعة في أمن الدولة، وتأجّجت الحركات الانفصالية في نهاية القرن الثامن عشر، فغدت الدولة العثمانية متناثرة تضم عددًا من الأقاليم التي يتبع بعضها للدولة اسميًا فقط، حتى ترجحت كفة القوة الأوروبية على القوة العثمانية. 


  • إلغاء الخلافة العثمانية 

السلطان عبد الحميد- سلطان الدولة العثمانية

كان الخليفة عبد الحميد الثاني آخر السلاطين الشرعيين للدولة العثمانية، وكان حريصًا منذ توليه الحكم على جمع المسلمين تحت مظلة الخلافة الإسلامية، وقد واجهت فكرة انتقال الخلافة إلى الدولة العثمانية -التي أصر عليها عبد الحميد الثاني- اعتراضات متعددة؛ لاعتبار البعض سلاطين الدولة العثمانية غير مستوفين لمتطلبات الخلافة.


وأيّا يكن، فإن ما كان جليًّا للعيان أن الدولة العثمانية رفعت حركة الجهاد، وتوسعت في الفتوحات باسم الإسلام، ولم تقدّم الترك على غيرهم.


  • تحالف دول أوروبا ضد الخلافة العثمانية

لربّما كان تمسك السلطان عبد الحميد الثاني بفكرة الخلافة الإسلامية الأمر الذي زعزع أمن الدول الأوروبية، وأثار خشيتها خاصةً بريطانيا، فكثّفت حملاتها في تشجيع الحركات الانفصالية، وخرق النظام العثماني بالرشوة، واستقطاب الجهات المعارضة للسلطان، ونشر الأفكار القومية والتحررية، والأفكار الهدامة.


فضلًا عن اتخاذ الدول الأوروبية موقفًا سلبيًا تجاه الصراع العثماني الروسي، وتشجيعهم للقوميات البلقانية على الاستقلال، فانفصلت بلغاريا وألبانيا ورومانيا، وضُمّت البوسنة والهرسك للنمسا إداريًا، ووقعت تونس تحت الحماية الفرنسية، ومصر تحت الحماية البريطانية.


وفي الوقت ذاته تزعّم المسيحيون في بلاد الشام حركة المعارضة للخلافة العثمانية، وذلك من خلال نشر الفكر القومي عوضًا عن الفكر الإسلامي. 


وعلى الرغم من المحاولات الجادة المتعددة التي قام بها السلطان عبد الحميد الثاني؛ من التعريب، وترسيخ الفكر الإسلامي بتشجيع الدعاة وعلماء الدين على نشر النهج الإسلامي القويم، وبناء المساجد، وإحياء الفكر الجماعي، وإحياء النهضة الاقتصادية والعلمية والصناعية، والحد من الإسراف في قصر السلطنة، وإنشاء المدارس والصحف، وبناء سكة حديد الحجاز، وغير ذلك، إلا أنه واجه العديد من المعارضات على مختلف الجبهات. 


  • أثر الفكر القومي على سقوط الخلافة العثمانية

كان تركيز الدولة العثمانية منذ تأسيسها على فكرة إعلاء راية الإسلام، والابتعاد عن التغني بحال الترك قبل الإسلام، وعلى الرغم من امتداد الأفكار الوطنية إلى الدولة العثمانية من الدول الأوروبية، إلا أنّها بقيت في بادئ الأمر محتفظة بطابعها الإسلامي.


وكانت الأشعار والنصوص الأدبية تكتب في معظمها باللغتين العربية والفارسية، ثم بفعل الحركات القومية والدعوة إلى تجديد اللغة احتفظوا بالألفاظ العربية والفارسية مع الاستعانة بالقواعد التركية، حتى آل الحال أخيرًا إلى استخدام اللغة التركية بشكل كامل. 


وبعد أن كانوا يتفاخرون بالتاريخ الإسلامي باعتباره الأساس الذي تشكّلت تحت مظلته رايتهم اتجهت أنظارهم إلى تاريخ الترك قبل الإسلام، حتى أنّهم أعلَوا من شأن بعض الشخصيات التي كانت محل مقت وسخط في السابق، وشككوا في التاريخ الإسلامي للدولة.


واعتبروا تبنيهم له طمسًا لهويتهم، فصاروا يبحثون عن هويّات جديدة من خلال تقليد الغرب، فظهرت بعض المصطلحات القومية الغربية؛ كالتقدمية والتنوير.


ومع تحوّل اللغة والتاريخ كان لا بد للنهج السياسي في الدولة أن يتأثر، فتركزت الجهات السياسية في ثلاثة محاور؛ جزء يدعو لوحدة المسلمين، وجزء يدعو للفكرة العثمانية، وجزء يدعو للوطنية التركية المحضة.


  • مواجهة هجرة اليهود إلى فلسطين

بالإضافة إلى ما سبق ذكره آنفًا، فقد كان لفكرة إنشاء دولة لليهود في فلسطين أثر كبير على الخلافة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر.


فقد عارض السلطان عبد الحميد الثاني فكرة انتقال اليهود إلى فلسطين وإقامة دولة لهم على أراضيها، وذلك بالرغم من المغريات والتسهيلات الكثيرة التي وعده بها مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل. 


وما كان من السلطان عبد الحميد الثاني إلا أن شدد الرقابة على فلسطين، ومنع إقامة اليهود فيها ما يزيد عن ثلاثة أشهر، ووضع حدود لتملك اليهود للأراضي الفلسطينية، فأدى ذلك إلى انقلاب اليهود عليه، والتحالف مع الدول الأوروبية ضد الدولة العثمانية.


فعملت الدول الأوروبية والحركة الصهيونية الناشئة على تعزيز الفكر الانفصالي القومي؛ من خلال الدعم المالي، وتوفير أماكن لاجتماعاتهم، وتسهيل تواصلهم؛ إيمانًا منهم أن الطريق إلى فلسطين يبدأ من إسطنبول. 


  • تركيا الفتاة

كانت “تركيا الفتاة” حركة قومية بدأت بعدد محدود جدًا من الأشخاص، لكنّها حظيت على دعم ضخم من الماسونية والصهيونية، فكانت القوة التي تقف خلفها تفوق قدرة الدولة على مواجهتها، فضلًا عن أن السلطان عبد الحميد الثاني كان رحيمًا؛ ففضّل استعمال أسلوب الحوار، وآلى الابتعاد عن العنف خشية أن تحظى هذه الحركة بالدعم الدولي، إلا أنّ ذلك مهّد لهم الطريق للتوسع والتواصل مع ضباط جمعية الاتحاد والترقي.


  • جمعية الاتحاد والترقي

تأسست جمعية الاتحاد والترقي عام 1889م، ثم انتشرت خاصة في سوريا على يد الضابط مصطفى كمال أتاتورك، وفي عام 1907م اتحدت الحركات الثورية تحت اسم “الاتحاد والترقي” وكان هدفها خلع السلطان عبد الحميد الثاني وكتابة دستور جديد للدولة، وكان سبيلهم إلى ذلك اتهام السلطان بالعنف والاستبداد. 


وعلى الرغم من المحاولات العديدة التي قام بها السلطان للتصدي لحركات التمرد، إلا أنه فشل في صد العصيان المدني، خاصة أنّ حركة “الاتحاد والترقي” نجحت في ضم عدد من ضباط الجيش العثماني، فاضطر أخيرًا للإعلان عن قيام انتخابات برلمانية نزيهة، فنجح قادة الاتحاد والترقي في أن يصبحوا أبطالًا في نظر الشعب، ولكن بعد توليهم زمام الأمور أخذت الخلافات تدب فيما بينهم، ولم يكن لديهم خطة واضحة للدستور الجديد، فاستمرت الفوضى.


  • تركيا من العثمانية إلى العلمانية

كان السلطان عبد الحميد الثاني هو من افتتح البرلمان، إلا أنّ النية في إقصائه وإقصاء حاشيته كانت مبيّتة، فنادى الإسلاميون بإلغاء الدستور الجديد خوفًا على الإسلام من الحركات العلمانية الجديدة، لكنّ الاتحاديين قاموا بالانقلاب العسكري. 


وعلى الرغم من إلحاح خليل باشا على السلطان عبد الحميد بالتصدي للانقلابيين، إلا أنه كره إراقة الدماء، وجعل من نفسه فداءً للعثمانيين، فدخل الانقلابيون إلى العاصمة وحاصروا القصر، وطالبوا السلطان بالتنحي عن الحكم، فاستجاب لهم، ثمّ قاموا بمحاكمة عدد كبير من أفراد الجيش والحاشية في مقدمتهم خليل باشا، فكان الإعدام نصيبًا لمعظمهم. 


وبعد تنحية السلطان عبد الحميد تولى شقيقه محمد رشاد الحكم اسميًا، مع بقاء الحكم الفعلي في يد العلمانيين الأتراك، فبدأت عندها سياسات التتريك، وأقحموا الدولة في الحرب العالمية الأولى التي لا طائل لها منها، فكانت النتيجة هزيمة ساحقة وأسر للسلطان العثماني، ودخول الحلفاء إلى إسطنبول. 


  • كيف أسقط مصطفى كمال أتاتورك الخلافة العثمانية

مصطفى كمال أتاتورك

مع دخول الحلفاء إلى إسطنبول ظهر مصطفى كمال أتاتورك الذي حثّ على الجهاد لإخراج الحلفاء، فقامت معركة لم يكن فيها خسائر للطرفين، ليصبح أتاتورك بطلًا قوميًا في نظر الشعب، إلا أنّه سرعان ما فصل دولته عن الأقاليم غير التركية؛ ممّا مهّد الطريق للغرب لاقتسام الدول العربية في اتفاقية سايكس بيكو، وإعطاء فلسطين لليهود من خلال وعد بلفور. 


وما إن تولى الحكم حتى تمّت تنحية السلطان عبد المجيد عن الحكم، والإعلان عن استقلال البلاد وإلغاء الخلافة الإسلامية لأول مرة منذ وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الثالث من شهر آذار عام 1924م، بحجة أن الخلافة اغتصبت حق السلطة من الشعب، وسار في منهجه تجاه الغرب، وسرعان ما توطدت علاقة تركيا ببريطانيا التي كانت تحاربها منذ شهور معدودات. 


تركيا بعد سقوط الدولة العثمانية

ألغى أتاتورك الخلافة العثمانيّة، وسنّ مجموعة من القوانين؛ منها ما يأتي: 

  • طرد الخليفة العثماني عبد المجيد وإرساله إلى سويسرا. 
  • اتخاذ القانون الإيطالي والسويسري بدلًا عن الإسلامي، وإلغاء المادة التي تنص على أنّ دين الدولة هو الإسلام واستبدالها بأن تركيا دولة علمانية. 
  • إلغاء وزارة الأوقاف والمحاكم الشرعية.
  • إعدام عدد كبير من رجال الدين، وهدم الكثير من المساجد.
  • منع علماء الدين من لبس العمامة وإجبارهم على لبس القبعة.
  • إلغاء تعليم الدين الإسلامي في المدارس.
  • منع لبس الحجاب الإسلامي. 
  • إلغاء العيدين لعدة سنوات. 
  • منع الأتراك من أداء الحج.
  • إغلاق عدد كبير من المساجد. 
  • منع تعدد الزوجات، وإباحة الزواج المدني.
  • إقامة الأذان باللغة التركية. 
  • المساواة بين الذكر والأنثى بالميراث.
  • إلغاء عطلة الجمعة واستبدالها بالأحد. 
  • الكتابة من الشمال إلى اليمين، وإلغاء الحروف العربية.

  • تركيا بعد الحرب العالمية الثانية

على الرغم مما قامت به الحركة العلمانية من إضعاف القوة الدينية في البلاد، إلا أن أصول الدين بقيت راسخة في النفوس، وبدأت العديد من آثار الحركة القومية العلمانية في تركيا بالاضمحلال بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، فرجعوا لإقامة الأذان باللغة العربية.


وعادت المدارس تعلّم الدين الإسلامي كمادة إجبارية عام 1935م، فضلًا عن تأسيس قسم خاص لتدريس الدين في جامعة أنقرة، ونادى الكثير من الأتراك بضرورة إعادة تعليم اللغة العربية المرتبطة بدينهم وتاريخهم. 


  • تركيا بعد 99 عامًا على إلغاء الخلافة العثمانية

بعد قرابة القرن على إلغاء الخلافة العثمانية الإسلامية عاد الإسلاميون لاستلام دفتي الحكم على رأس النظام التركي، وقد تطلب ذلك العمل لعقود طويلة؛ للتأكيد على تواؤم الشعب التركي الذي يميل بعضه إلى العلمانية مع النظام الإسلامي.


إلا أن ما يسمونه بالنهج الأردوغاني القائم على الوسطية والمدنية في توطين الدين جعل الحكم الإسلامي أكثر قبولًا في النفوس، فقد رفض الإسلاميون الجدد ممارسة الهيمنة والقوة لإجبار الناس على اتباع النظم الإسلامية، فلا يكونون بذلك سوى رعاةً للحكم الكمالي بحلة إسلامية. 


واليوم عادت تركيا للدفاع عن القضايا الإسلامية والافتخار بالإرث الإسلامي والخلافة العثمانية، وعادت فكرة تمكين ارتباط الدولة بالدين الإسلامي إلى حد كبير، وتم إصدار قرار بالسماح للنساء بارتداء الحجاب في المؤسسات، ومُنع الترويج للكحول، وما في ذلك إلا دليلًا على ارتباط الدولة بإرث الخلافة العثمانية الإسلامية.


المصادر:


المصدر

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى