الدراسات الأمازيغيةالدراسات الثقافيةتاريخ

استعراب بلاد المغرب الكبير

“استعراب بلاد المغرب” أو “استعراب شمال إفريقيا“؛ مصطلح ثقافي لغوي يُشيرُ إلى التأثير الديموغرافي والديني والثقافي واللغوي الذي عرفته شمال إفريقيا نتيجة الفتح الإسلامي العربي.


وقد سماه المؤرخون واللغويون بالتعريب أو الاستعراب؛ لكونه أدى إلى تغييرٍ ثقافي هوياتي واسع النطاق، نتج عن ظهور مفهوم المغرب العربي الحالي.


ساهم في عملية الاستعراب، عدة عوامل، أبرزها: توافد القبائل العربية بهجرات كثيفة، عبر مراحل متفرقة تاريخيا، واستقرارهم في شمال إفريقيا، حيث اختلطوا مع أهل البلاد بحماسة كبيرة، تحت راية الإسلام، فكان نتاج هذا نشر الثقافة العربية وحضارتها.


يعلق إيميل فيليكس جوتييه على ذلك بقوله:

“ما زالت النتائج التي وصل إليها العرب في فتحهم الشمال الإفريقي تُدهشنا إلى الآن. لقد عُرّب المغرب إلى حدٍّ كبير، وتحول إلى الإسلام تحولًا تامًا عميقًا، وهذه نتيجة تدعو إلى الإعجاب، ما في ذلك شك”.


يربط العديد من الباحثين استعراب المغرب، بالتواجد العربي قبل الإسلام في منطقة شمال إفريقيا، ممثلا في الحضارة الفينيقية التي سبق وتوسعت لتشمل عدة مناطق في بلاد المغرب والجزيرة الإيبيرية. وكان لها الفضل في تأسيس العديد من المدن أهمهم قرطاج، وليكسوس، والصويرة… إلخ.


فالتوسع الفينيقي في شمال إفريقيا أدى دورا هو الآخر، في التعريب، حيث إن اللغة التي كانت سائدة آنذاك هي البونيقية التي تتشابه مع اللغة العربية. وهذا ما أكده الدكتور “روبرت كير” من جامعة ليدين، في مقال عنوانه: “اللغة البونية لم تمت”، حيث جاء فيه: أن اللغة البونيقية استمرت كلغة حية حتى قدوم الإسلام.


كما أن الشعب الفينيقي هو امتداد للعرب، فقد ذهب العديد من المؤرخين إلى أن الفينيق هم عرب قدماء، ولاسيما أنهم من جزيرة العرب، فنجد المؤرخ اللبناني أمين ريحاني يقول:


“ما أجمع عليه المؤرخون والآثريون أن الفنيقيين مثل العرب ساميون، بل أنهم عرب الأصل نزحوا من الشواطيء العربية الشرقية”.


ويحكي المؤرخ الروماني ساللوستيوس (86 ق.م)، في كتاب الحرب اليوغرطية، أن الشعوب التي كانت تسكن شمال إفريقيا هي كثيرة أهمها: الفينيقيون والليبيون والجيتول والفرس.


وهذا ما أكده هيروديت (حوالي 484 ق.م – 425 ق.م)، أن ساكنة شمال افريقيا تنقسم لأربعة شعوب: ليبيون وفينيقيين وإيثيوبيون وإغريق.


ويذهب عالم الأثار البريطاني باري فيل في كتابه “ساغا أمريكا”، إلى أن العربية والعرب كان لهم وجود في شمال إفريقيا قبل الفتح الإسلامي حيث جاء في كتابه:


“قام الرومان بآخر الغزوات الكبرى لشمال إفريقيا بعد الحروب مع قرطاج، في القرن الثاني قبل الميلاد، وكان يُعتقد – ولا يزال يُعلم عن طريق الخطأ – أن عرب جيوش الإسلام جاءوا أولاً إلى ليبيا في القرن السابع الميلادي ومع ذلك، أثبتت الأبحاث التي أجريت على النقوش الليبية القديمة في كل من أمريكا وشمال إفريقيا الآن بشكل قاطع أن اللغة العربية جاءت إلى إفريقيا قبل البعثة بوقت طويل. في جميع الاحتمالات، كان بعض من يسمون بشعوب البحر من العرب حقًا”.

أما المؤرخ وعالم الأثار الأسترالي وارويك بوول من جامعة إدنبورغ البريطانية، فيخلص في كتابه:

“أصولنا من جزيرة العرب”، إلى أن: “أجداد العرب الفينيقيين هم أول من سكن أوروبا وإفريقيا الشمالية و ضفاف المتوسط، والفاتحين العرب هم فقط امتداد لأسلافهم”.


  • مرحلة الفتح الإسلامي

تبدأ هذه المرحلة مع بداية الفتح الإسلامي لبلاد المغرب مع عقبة بن نافع سنة (640م)، ثم مع موسى بن نصير (711م). وقد تميزت الحملات العربية أنذاك بمرافقة النساء والأطفال والعلماء والتجار في الخطوط الخلفية للجيش.


حيث كانت نية العرب، تأسيس مدينة في البلاد لإيواء الجند العرب وعائلاتهم ولتكون كقاعدة عسكرية تنطلق منها الجيوش للمحافظة على المناطق التي ثم فتحها، فأسس عقبة القيروان، تنفيذًا للسياسة الإسلامية التي كانت متبعة في عصر الخلفاء الراشدين والتي تتلخص في إقامة المدن الإسلامية في البلاد المفتوحة،


  • وقال في هذا الدكتور مصطفى أبو ضيف أحمد:

” لما ولى معاوية بن أبي سفيان عقبة بن نافع الفهري ولاية إفريقية فقد رسم لنفسه برنامجا للعمل يرمي إلى تحقيق أهداف أبعد من أهداف سابقيه وتتلخص خطته في تثبيت أقدام العرب في المغرب وتأسيس قاعدة عسكرية بافريقية من أجل تحقيق نشر الاسلام بها وتعريب البلاد “.

وتم تخطيط القيروان حسب الطريقة التقليدية لبناء المدن العربية، منذ بناء الكوفة والبصرة والفسطاط، بدًاية ببناء المسجد الجامع ودار الإمارة ثُمِّ قسمت الأرض المحيطة بهما على القبائل العربية والناس لبناء الدور والمساكن.


اذ كانوا يفردون كل قبيلة أو بطن من بطون الفاتحين بناحية معينة من التقسيم لإنشاء دور مساكنهم. فنزل قوم من قبيلة فهر العربية بالجهة الشمالية من الجامع وبنوا بها المساكن واتخذوا حولها بعض الأجنة. وفهر بطن من قريش قوم عقبة بن نافع ورهطة، وعرف هذا الحي بمنازل الفهريين .


أما أولئك الذين جاءوا من المدينة، أي الأنصار، ورجال القبائل الآخرون الذي ينتمون إلى عشائر، خولان وغفار، وبلي ومعافر وحضرموت، ومراد، ولخم فقد اختطوا منازلهم في الأماكن المجاورة ولقد اتخذت الكثير من المحلات والساحات والطرق أسماء هذه العشائر، مثال ذلك رحبة القريشيين ورحبة الأنصار، ورحبة بني دراج، ودرب الهذلي، وحارة يحصب.


وتحدث ابن الرقيق القيرواني عن استقرار العرب في بلاد المغرب مع مطلع الفتوحات العربية حيث جاء في كتاب تاريخ إفريقية والمغرب ص 20:


“فالعنصر العربي دخل بلاد المغرب في صورة جيوش فاتحة، وقد استقر رجال هذه الجيوش في نواحي المغرب كله بعد إتمام الفتح، ولحقت بهم جماعات أخرى من الجند والمهاجرين العرب مع استمرار حركة الفتح، وكانت نتيجة ذلك قيام مجتمعات عربية صغيرة معظمهم في المدن والمعسكرات، ومن هذه المراكز بدأوا ينتشرون في نواحى البلاد”.

ويورد الحسن الوزان (ليون الإفريقي)، حول استقرار العرب الفاتحين:

“وأسس (عقبة) مدينة القيروان على بعد نحو 120 ميلًا من قرطاج وأمر القواد العسكريين والمدنيين الذين أقاموا معه… وعندما أمن العرب أصبحوا مواطنين بهذه البلاد ممتزجين بالأفارقة”.


واستمر تدفق العربي إلى بلاد المغرب للإقامة فيه، واتخاده وطنًا ومستقرًا، فترة الدولة الأموية، في حقبة موسى بن نصير لا سيما بعد بسط السيطرة على شمال إفريقيا وفتح الأندلس، فكان المغرب منطلق القوافل الراغبة في العبور للأندلس.


وقد فصلت المصادر التاريخية في الهجرات العربية التي تمت للأندلس، فنجد المقري التلمساني يذكر في كتابه نفح الطيب ج1، ص290:


“واعلم أنه لما استقر قدم أهل الإسلام بالأندلس وتتام فتحها صرف أهل الشام وغيرهم من العرب هممهم إلى الحلول بها، فنزل بها من العرب وساداتهم جماعة أورثوها أعقابهم إلى أن كان من أمرهم ما كان”.


كما تجمع المصادر إلى أن العرب دخلوا الأندلس على موجات متتابعة وانتشروا في أقاليمها المختلفة انتشارًا متغلغلًا، وخاصةً المناطق الخصبة التي تفيض بالخيرات، وكانوا يمثلون أكثر القبائل العربية المعروفة في المشرق العدنانية منها واليمنية (القحطانية) إلا أن اليمنية – كما يقول المقري – “هم الأكثر إلا ما كان من خلفاء بني أمية”.


وأول طالعة من العرب دخلت الأندلس طالعة موسى بن نصير في رجب (94هـ)، وكانت تتألف من ثمانية عشر ألفًا من وجوه العرب والموالى وعرفاء البربر يقول صاحب مخطوط فتح الأندلس من تحقيق لويس مولينا “أن موسى دخل الأندلس ومعه ثمانية عشر ألفًا من قريش والعرب ووجوه الناس”.


ثم طالعه الحر بن عبد الرحمن الثقفي ثالث الولاة – في ذي الحجة (97هـ) إذ قدم واليًّا ومعه أربعمائة رجل من إفريقية. وكان أغلب عرب هاتين الطالعتين من اليمنيين، وسموا بالبلديين، ثم تأتى طالعة بلج بن بشر القشيري في سنة(124هـ).


وقد اختلفت المراجع حول عدد الفرسان العرب فيها فنجد ابن عذارى في الجزء الأول من تاريخه يذكر عدد الشاميين في هذا الجيش وهم 12 ألفًا من الفرسان، أما ابن حيان فيجعل عدة الجيش 70.000، بينما يذكر ابن قوطية أن عدده كان 30 ألفًا وكان أغلبهم من العرب القيسيين.


وتشير الأرقام إلى أن عدد الجنود الذين دخلوا المغرب في العصر الأموي نحو 70 ألف جندي، 40 ألفا منهم دخلت مع حسان بن النعمان الغساني إلى أفريقية سنة(74هـ / 694م)، و30 ألفًا دخلت مع كلثوم بن عياض(124هـ /740م).


لكن بالرغم من هذا ظل الحضور العربي في هاته الحقبة في بلاد المغرب قليلا، لاسيما أن أغلب العرب كان يعبر للأندلس للاستقرار فيها، ولم تتغير الأوضاع إلى بعد قدوم الفاطميون والأدارسة بالمغرب.


  • مابعد الفتح الإسلامي

إن شمال إفريقيا في عصر الدولة الأموية عرفت عدة حروب ووقائع كان لها أثر كبير على التكوين الديموغرافي للبلاد، وكان من نتاج هذا تقلص الحضور البربري الكبير في بلاد المغرب، ومن أهم هاته الحروب نخص بالذكر معركة القرن والأصنام التي كانت خسائرها كبيرة في صفوف البربر وغيرهم من الخوارج.


كما أجمع المؤرخون إذ تعد المعركتين سالفه، من المعارك الطاحنة التي دارت بين العرب والبربر ، بعد خيانة موقعة الاشراف، فلما سمع الخليفة هشام بن عبد الملك خيانة البربر وتمردهم عين حنظلة بن صفوان الكلبي واليا على مصر وإفريقية وهذا الأخير كان قائدا شجاعا فارسا مغوارا.


يقول شهاب الدين النويري عن واقعة تعيين حنظلة واليا من طرف الخليف هشام في كتابه نهاية الأرب في فنون الأدب، الجزء 11، ص 33 مانصه :


“ولما بلغ هشام بن عبد الملك ذلك، بعث إلى إفريقية حنظلة بن صفوان الكلبي ، وكان عامله على مصر ولاه عليها في سنة تسع عشرة ومائة، فأقام بها إلى أن بعثه إلى إفريقية. فقدمها في شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين ومائة”.

بعد تولي حنظلة علم زعماء البربر الخوارج ، وهما عكاشة الصفري وعبد الواحد بن يزيد الهواري، بهذا قرروا قتله هو الأخر، بمباغتته بجيش من البربر لم يرى مثله في إفريقية ولا أكثر منه ويقول عن هذا المترجم أعلاه النويري في نفس المرجع :


“فلم يمكث بالقيروان إلا يسيرا حتى زحف إليه عكاشة الصفري الخارجي في جمع عظيم من البربر، لم ير أهل إفريقية مثله ولا أكثر منه…، وزحف إلى حنظلة أيضا عبد الواحد بن يزيد الهواري في عدد عظيم وكانا قد افترقا من الزاب : فأخذ عكاشة على طريق مجانة، فنزل القرن، وأخذ عبد الواحد على طريق الجبال فنزل طبيناس ، وعلى مقدمته أبو قرة المغيلي”.

فلما علم حنظلة بتوجه الجيش إليه قرر مهاجمة عكاشة وجيشه أولا ثم مواجهة عبد الواحد بن يزيد الهواري كي لا يكثر عليه الجمع لعظمة و كثرة جيشهم ، وفي هذا يضيف النويري:


“فرأى حنظلة أن يعجل قتال عكاشة قبل أن يجتمعا عليه ، فزحف إليه بجماعة أهل القيروان. والتقوا بالقرن وكان بينهم قتال شديد فني فيه خلق كثير وهزم الله عكاشة ومن معه، وقتل من البربر ما لا يحصى كثرة”.

وبعد قتل عكاشة وجيشه قرر حنظلة الرجوع للقيروان قبل هجوم عبد الواحد بن يزيد الهواري عليها وكان جيش عبد الواحد كبيرا جدا يضم أكثر من 300 ألف مقاتل من البربر الخوارج، ويقول في هذا ابن الأثير الجزري في كتابه الكامل في التاريخ المجلد الرابع ، ص229 ، مانصه :


“وسار عبد الواحد فنزل على ثلاثة أميال من القيروان بموضع يعرف بالأصنام، وقد اجتمع . معه ثلاثمائة ألف مقاتل، فحشد حنظلة كل من بالقيروان وفرق فيهم السلاح والمال، فكثر جمعه”.

وعن وقائع المعركة الطرفين يقول :

“فلما دنا الخوارج مع عبد الواحد خرج إليهم حنظلة من القيروان واصطفوا للقتال، وقام العلماء في أهل القيروان يحثونهم على الجهاد وقتال الخوارج ويذكرونهم ما يفعلونه بالنساء من السبي… ، فكسر الناس أجفان سيوفهم، وخرج إليهم نساؤهم يحرضنهم، فحمي الناس وحملوا على الخوارج حملة واحدة وثبت بعضهم لبعض، فاشتد اللزام وكثر الزحام وصبر الفريقان، ثم إن الله تعالى هزم الخوارج والبربر ونصر العرب، وكثر القتل في البربر وتبعوهم إلى جلولاء يقتلون، ولم يعلموا أن عبد الواحد قد قتل حتى حمل رأسه إلى حنظلة، فخر الناس الله سجداً .”

وقيل في حق المعركة هذه كما أجمع المؤرخون وأهل العصر بالتواتر:

” لم يقتل بالمغرب أكثر من هذه القتلة، فإن حنظلة أمر بإحصاء القتلى، فعجز الناس عن ذالك “. وقال إبن عذاري المراكشي في كتابه البيان المغرب في أخبار المغرب نقلا عن إبن عبد الحكم والنويري وإبن خلدون والرقيق القيرواني :” وقيل ما علم في الأرض مقتلة كانت أعظم منها ” وروى أن الليث بن سعد كان يقول : « ما غزوة كنت أحب ان اشهدها بعد غزوة بدر أحب إلى من غزوة القرن والاصنام ».

وكان هذا الإنتصار بمتابة إعادة الإعتبار وحافز لنزوح العرب لشمال إفريقيا، بعدما أعادو قوتهم في بلاد المغرب. فبعد ضعف وإنهيار الدولة الأموية، ظهرت دويلات عربية في المنطقة ، كالأغالبة في الجزائر وتونس و الأدارسة في المغرب ، ثم بعدهم الخلافة الفاطمية التي شملت مناطق واسعة في شمال إفريقيا وكان لها دور كبير في تعريبها.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى