فكر وفلسفة

غاستون باشلار : شعرية الخيال والحركية

ترجمة : سعيد بوخليط

       ”يجب أن يشكِّل موضوع الشعراء أكبر دراسة بالنسبة للفيلسوف الذي يرغب في اكتشاف الإنسان”(جوزيف جوبير/أفكار).


مثل كثير من القضايا النفسية،اضطربت الأبحاث حول الخيال بالإضاءة الخاطئة لمبحث الاشتقاق.نريد دائما أن يكون الخيال بمثابة قوة لتشكيل الصور.غير أنه يمثل بالأحرى قوة لتغيير شكل الصور التي يقدمها الإدراك،بل خاصة تلك القدرة على تحريرنا من الصور الأولى،وكذا تحوُّلها.إذا لم تعرف الصور تغيُّرا،وتآلفا غير متوقع،فلا وجود للخيال،وليس هناك فعل متخيِّل.

أيضا،لايمكننا الحديث عن الخيال،إذا لم تحفزنا صورة حاضرة للتفكير في أخرى غائبة،ولم تحرض صورة عَرَضِيَّة على خصوبة صور أخرى ضالّة،وكذا انفجار للصور.يتعلق الأمر بإدراك حسي،ذكرى تصور،ذاكرة مألوفة،وعُرْف على مستوى الألوان والأشكال.لذلك،تعتبر تسمية وهمي وليس صورة،اللفظة الجوهرية المناسبة للخيال.

تتحدد قيمة صورة نتيجة امتداد نفوذها المتخيِّل.هكذا،يصبح الخيال بالضرورة منفتحا،مراوغا.يجسِّد داخل النفسية الإنسانية تجربة الانفتاح،بل والحداثة نفسها.يميز النفسية الإنسانية،أكثر من أيِّ قوة ثانية،مثلما أكد ويليام بليك :”ليس الخيال مجرد حالة،بل يمثل الوجود الإنساني ذاته”(1).

سنقتنع على نحو يسير أكثر بحقيقة هذه القولة،إذا نحن درسنا،مثلما سنفعل منهجيا في هذا الكتاب،الخيال الأدبي،الخيال المنطوق،الماسك باللغة،مبلورا النسيج الزماني للروحية،ومتخلصا بالتالي من الواقع. 

على العكس،عندما تتخلى صورة عن مبدئها المتخيِّل ثم تتوطد في إطار صيغة مطلقة،ستأخذ شيئا فشيئا سمات الإدراك الماثل.بعد ذلك،عوض تحفيزها لنا على الحلم والكلام،سنكتفي معا بالتأثر.حين الإقرار بأن صورة راسخة ومكتملة،تقطع أجنحة الخيال. فسيحرمنا ذلك من  خيال حالم يرفض الانحصار عند صورة بعينها،يمكننا تسميته حينئذ خيالا دون صور من خلال أسلوب نقبل معه بفكر دون صور.

بالتأكيد،تبعا لحياته الخارقة،ينطوي المتخيِّل على صور،لكنه يطرح نفسه دائما أبعد من صوره تلك،ويتجاوزها باستمرار.القصيدة أساسا بمثابة طموح وجهة صور جديدة، بحيث تتطابق مع الحاجة الجوهرية للحداثة التي تميز النفسية الإنسانية. 

هكذا،فالخاصية التي يضحي بها تحليل نفسي للخيال غير مهتم سوى بإنشاء صور، تعتبر أساسية،وبديهية،يعرفها الجميع :إنَّها حركة الصور.هناك تعارض – داخل هيمنة الخيال مثلما بالنسبة لمجالات أخرى- بين التشكل والحركية.

وبما أن وصف الأشكال أكثر يسرا من وصف الحركات،سيرتبط تبرير ذلك بكون التحليل النفسي ينشغل أولا بالمهمة الأولى. في حين، تعتبر الثانية أكثر أهمية.هكذا،يمثل الخيال،قبل كل شيء بالنسبة لمقاربة نفسية متكاملة، نمط حركية روحية،الأكبر والأكثر حياة وبقاء.يلزم،إذن أن نضيف منهجيا إلى دراسة صورة معينة دراسة حركتها خصوبتها وحياتها. 

هذه الدراسة ممكنة،لأن حركة صورة تبقى محدَّدَة.غالبا،تعتبر نوعية حركة صورة معينة.إذن،يلزم التحليل النفسي لخيال الحركة أن يعيِّن مباشرة حركية الصور.ثم يقودنا كي يتعقب رسما تخطيطيا بخصوص كل صورة،يختزل حركيتها.سنعرض بين صفحات هذا العمل مخطط دراسة من هذا القبيل.  

نترك إذن جانبا تلك الصور الفاترة،التي تشكَّلت ثم أضحت كلمات محدَّدة جدا.أيضا،مختلف الصور التقليدية بوضوح كما الشأن مع صور الأزهار المتواترة جدا في معشبة الشعراء.تصدر عن أثر تقليدي،يزخرف الأوصاف الأدبية.لذلك خسرت سلطتها الخيالية.

في المقابل،هناك صور أخرى جديدة تماما.تعيش حياة اللغة الحية.نختبرها،في إطار غنائيتها الفعلية،وكذا إشارتها الحميمة التي تنعش الروح والقلب؛بحيث تمنح – هذه الصور الأدبية- أملا نحو شعور،وقوة نوعية بخصوص قراري أن أكون شخصا،بل وطاقة لحياتي الفيزيائية.هكذا، يصبح فجأة بالنسبة إلي الكتاب الذي انطوى عليها بمثابة رسالة حميمة.

صور، تلعب دورا في حياتي،أستلهم منها الحيوية.يرتقي بفضلها،الكلام،الفعل،الأدب نحو مرتبة الخيال المبدع.حينما،يعبِّر الفكر عن ذاته من خلال صورة جديدة،يغتني بإثرائه اللغة.يغدو الكائن كلاما.يتجلى الكلام عند أوج نفسية الكائن،وينكشف باعتباره صيرورة فورية للنفسية الإنسانية. 

كيف نجد قياسا مشتركا بخصوص إغراء أن تحيا وتتكلم؟لن يتحقق ذلك ربما سوى بمضاعفة تجارب الرموز الأدبية،والصور المتحركة،عبر الاحتفاظ،حسب وصية نيتشه،لكل شيء بحركته الخاصة،ثم نرتِّب ونقارن مختلف حركات الصور،ونرصد جل ثراء الاستعارات المتربصة بلفظة.يلزمنا التساؤل،فيما يتعلق بكل صورة تذهلنا،عن التالي:ماهو الحماس اللساني الذي أثارته لدينا هذه الصورة؟كيف ننتزعها من داخلنا المترسِّخ بذكريات مألوفة.

لكي نشعر بالدور المتخيِّل للغة،يلزمنا البحث بأناة،فيما يتعلق بمختلف الكلمات،عن رغبات الغيرية،والمعنى المزدوج وكذا المجاز.ينبغي بكيفية أكثر عمومية،تعيين مختلف رغبات التخلي عن مانراه ونقوله لصالح مانتخيَّله.

هكذا،سيحالفنا الحظ بأن نعيد للخيال دوره على مستوى الإغواء.نتجاوز بفضل الخيال المسار العادي للأشياء،ندرك ونتخيل هما على قدر من التناقض،كما الحال بالنسبة للحضور والغياب.أن تتخيل معناه تغيب،وتبتعد منطلقا وجهة حياة جديدة. 

غالبا،هو غياب بلا قانون،وانطلاقة بلا مثابرة.يكتفي التأمل الشارد،كي ينتقل بنا صوب هناك دون التمكن حقا من أن نعيش جل صور المسار.يذهب الحالم على غير هدى التيار. 

لايكتفي شاعر حقيقي بهذا الخيال المراوغ.ويريد أن يكون الخيال سفرا.ندين لكل شاعر بدعوته إلى السفر.دعوة،تحس معها كينونتنا الحميمة باندفاع عذب،يهزُّنا،ويبلور تأملا شاردا ملائِما،ديناميكيا حقا.إذا اختيرت الصورة الأولى بشكل جيد،فستنكشف مثل اندفاع نحو حلم شعري محدَّد جدا،

وكذا حياة خيالية لها قواعد حقيقية لصور متتالية،دلالة حيوية حقيقية.ستأخذ الصور التي توضع ضمن سلسلة نتيجة دعوة السفر،حيوية نوعية  في إطار نظامها المنتقى بعناية ستمكننا عبر الحالات التي سنقف عليها طويلا بين صفحات هذا العمل، من تحديد حركة للخيال.

حركة،تتجاوز إطار مجرد كونها استعارة.سنختبر ذلك فعليا بين ثنايا دواخلنا،في أغلب الأحيان مثل تخفيف للحمولة،وكذا سهولة على مستوى تخيل صور تابعة،وأيضا مثل حماسة اقتفاء خطى الحلم الساحر.

إن قصيدة رائعة بمثابة أفيون أو نبيذ،وغذاء مهدئ للأعصاب،يلزمها أن تبعث فينا تحريضا ديناميكيا.سنحاول في هذا السياق،إعطاء تصور بول فاليري العميق حين قوله :”الشاعر الحقيقي يلهم”،تعدديته الحقيقية.لايكشف شاعر النار وكذا الماء والأرض،عن نفس وحي شاعر الهواء. 

لذلك تتباين جدا دلالة السفر المتخيَّل حسب اختلاف الشعراء.يكتفي بعضهم على استدراج قرائهم نحو بلد جذاب.يريدون العثور ثانية في مكان آخر مايرونه يوميا حول ذواتهم.يشحنون الحياة المعتادة جمالا،ويفرطون في ذلك. لانحتقر هذا السفر نحو بلد الواقع يتسلى معه الكائن بسعر زهيد.حقيقة يستلهمها الشاعر،تمتلك على الأقل حداثة إضاءة جديدة.لأنه يكشف لنا تميزا دقيقا عابرا،سنتعلم تخيُّل كل تميز باعتباره تغيرا.وحده الخيال قد تكون له فوارق دقيقة،يعرضها عند الانتقال من لون نحو لون آخر.

توجد إذن في هذا العالم الشائخ،أزهار لم نراها جيدا،ونحسن النظر إليها لأننا لم نلتقط تغيرات درجات ألوانها.أن تزهر،يعني الكشف عن فوارق دقيقة،إنها باستمرار حركة ذات صبغة.إن الذي ينتبه في حديقته لكل الورود،وهي تتفتح وتتلون،يعاين سلفا ألف نموذج  بخصوص ديناميكية الصور.  

غير أنَّ الحركية الحقيقية،ذلك التأهُّب في ذاته والمتخيَّل لايُسْتنفر جيدا من خلال وصف الواقع،ولا أيضا صيرورته.يكمن سفر الخيال الحقيقي،في الرحيل صوب بلد المتخيَّل،ضمن إطار المتخيَّل نفسه.لانقصد بهذا إحدى المدن الفاضلة التي تقدم نفسها دفعة واحدة جَنَّة أو جحيما، قارة أطلانطيس أو طيبة.Thébaïde ينصب اهتمامنا على رحلة من هذا القبيل، وكذا وصف الإقامة فيها.

والحال أن مانتوخى حقا استحضاره بين فقرات هذا الكتاب،يكمن في محايثة  الخيالي للواقع،أي تلك المسافة المتواصلة من الواقعي إلى المتخيَّل.لم نَعِش سوى نادرا التحوير الخيالي البطيء الذي يتيحه الخيال أمام التصورات الحسية.لم نحقق جيدا الحالة السحرية للنفسية المتخيِّلة.إذا أمكننا مضاعفة تجارب تحولات الصور،سنفهم مدى عمق ملاحظة بنيامين فوندان(2) :”أولا،الشيء ليس واقعيا،بل يعتبر مرشدا جيدا للواقع”.

بناء عليهِ،سيكون بحسبنا الموضوع الشعري،الديناميكي مثلما ينبغي نتيجة اسم مفعم بالأصداء،مرشدا جيدا للنفسية المتخيِّلة.يلزم،هذا البثّ،استدعاء الموضوع الشعري باسمه القديم،عبر إعطائه بكيفية مضبوطة حجمه الصوتي،من خلال إحاطته بكاشف للذبذبات الكهربائية،تُنْطق نعوتا فيتمدَّد إيقاعها،وكذا حياتها الزمنية.

ألم يقل ريلكه(3) :”لكي تبدع مقطعا شعريا واحدا،تحتاج إلى زيارة مدن كثيرة،وتعاين العديد من البشر والأشياء،يلزمك أن تكتشف حيوانات،وتحس بكيفية تحليق الطيور ثم تتأمل حركة الأزهار الصغيرة لحظات تفتُّحها صباحا”.

يمثل كل موضوع متأمَّل،واسم كبير مهموس انطلاقة حلم وكذا فاتحة بيت شعري،إنّه حركة لسانية مبدعة.كم من مرة بجانب بئر،على الحجر القديم الذي تكسوه أعشاب الحُمَّاض البرية والسرخس،همستُ باسم المياه البعيدة،وكذا اسم العالم المتواري.عديدة هي المرات التي خاطبني الكون خلالها… آه إنها أشيائي ! كم تكلَّمنا !

أخيرا،لايبلور السفر إلى العوالم المتخيَّلة البعيدة،نفسية ديناميكية إلا إذا أخذ وجهة سفر نحو بلد اللانهائي.في خضم سيادة الخيال،ينضم التعالي إلى كل  محايثة. إنها ذات قاعدة التعبير الشعري لتجاوز الفكر.بالتأكيد، يظهر غالبا هذا التعالي فَظّا،زائفا،محَطَّما.أحيانا،كذلك ينجح سريعا جدا، بحيث يبدو سرابا، متبخِّرا، مُبَعْثَرا.فهو سراب،بالنسبة للكائن المتأمِّل،لكنه سراب ساحر.ينتج ديناميكية خاصة،تشكل سلفا حقيقة نفسية يقينية.

يمكننا إذن تصنيف الشعراء بأن نطلب منهم الإجابة على السؤال التالي :”أخبريني عن اللانهائي بالنسبة إليكَ،حتى أستلهم معنى عالمكَ،هل يتعلق الأمر بلانهائي البحر أو السماء،الأرض العميقة أو أرض مخزن الحطب؟”. ضمن مضمار سيادة الخيال،فاللانهائي منطقة يتجلى الخيال معها باعتباره محض خيال،يكون حرا ووحيدا،منهزما ومنتصرا، متغطرسا ومرتجفا.

إذن، تنطلق الصور وتتلاشى،ترتفع وتتحطم خلال ارتفاعها نفسه.هكذا، تُطرح بشكل ملموس واقعية اللاواقع،ندرك الأشكال من خلال تغيُّر هيآتها.الكلام نبوءة.أما الخيال،فيتجاوز البعد النفسي،ويأخذ مظهر نفسية  طليعية تستحضر وجودها. 

لقد جمعنا فعلا، في كتابنا الماء والأحلام،صورا يسقط من خلالها الخيال انطباعات حميمة على العالم الخارجي.ثم،بدراستنا النفسية الهوائية بين صفحات الكتاب الحالي،فسنقدم أمثلة يعرض الخيال الكائن بأكمله.عندما نذهب أبعد من ذلك،صوب أقصى مستويات الارتفاع،فسنكتشف فعلا بأننا في خضم حالة خيال مفتوح.

يتلهف الخيال في مجمله،نحو حقائق المحيط الهوائي،يضاعف كل إحساس بصورة جديدة.يشعر الكائن،مثلما يقول ماريا ريلكه،قبل تحوله إلى موضوع مكتوب:”هذه المرة،إذا حدث وأضحيتُ موضوعا للكتابة، فسأكون انطباعا متغيِّرا”(4).

يعمل الخيال إبان هذا الانتقال،على بعث واحدة من هاته الورود المانويَّة التي تبعثر ألوان الخير والشر،وتنتهك قواعد القيم الإنسانية الأكثر ثباتا.نقتطف مثل هذه الورود من بين طيات أعمال نوفاليس، شيلي، إدغار بو، بودلير، رامبو، نيتشه.حينما ندلِّلُها،نجرب إحساسا مفاده بأن الخيال يمثل إحدى صيغ الشجاعة الإنسانية.بحيث تتأتى لنا جراء ذلك ديناميكية مجدِّدة.  

سنحاول تبعا لذلك تقديم مساهمة إيجابية بخصوص التحليل النفسي لهذين النمطين المتعلقين بالتسامي:تسامي استطراديّ يتطلع نحو هناك،وكذا تسامي جدلي بصدد بحثه عن المجاور.دراسات من هذا القبيل ممكنة،تحديدا،لأن الأسفار المتخيلة واللانهائية تمتلك خطوط سير عديدة أكثر انتظاما مما نعتقد. 

لقد استفاد كثيرا علم الآثار الحديث،مثلما لاحظ فردناند شابوتيي(5)،بتشكيل سلسلات منتظمة للوثائق.فقد سمح الاستعراض البطيء لحياة الأشياء عبر قرون كي نستنبط أصلها.أيضا،حينما نفحص سلسلات مختارة جيدا عن الوثائق النفسية،سنندهش نتيجة انتظام تدرجها؛ونستوعب بشكل أفضل ديناميكيتها اللاواعية.كذلك،بوسع توظيف مجازي جديد إضاءة آثار اللغة.

سنقارب من خلال هذه الدراسة،الأسفار المتخيلة الأكثر تملُّصا والمحطات الأقل ثباتا،صورا غالبا مائعة،ورغم كل شيء،سنلاحظ بأن هذا الهروب،والطفو، والرخاوة،لاتمنع حياة خيالية حقا منتظمة، بل تبدو كأنها اختلالات تمنح أحيانا مسلكا محدَّدا جدا بحيث يمكنها تقديم خطاطة لتماسك قوامه الحركة.

في الواقع،تكشف بوضوح الطريقة التي نتخلص بها من الواقع حقيقة جوهرنا.يعتبر عُصَابيا الكائن المحروم من وظيفة اللا-واقع تماما مثل الكائن المفتَقِد لوظيفة الواقع.وبوسعنا القول بأن اضطرابا على مستوى وظيفة اللا-واقع يؤثر على وظيفة الواقع.وإذا تمت وظيفة الانفتاح،باعتبارها تحديدا وظيفة الخيال،على نحو سيئ،يظل الإدراك نفسه ضعيفا.يلزمنا إذن العثور على تسلسل منتظم من الحقيقي إلى الخيالي.يكفي أن نصنف جيدا سلسلة الوثائق النفسية كي نعيش هذا التسلسل المنتظم.

يستند هذا الانتظام إلى انقيادنا خلال البحث عن المتخيَّل خلف مواد أساسية،وعناصر متخيَّلة لها قواعد مثالية يقينية تماما كالقواعد التجريبية. نسمح لأنفسنا هنا قصد التذكير ببعض الكتب الصغيرة الحديثة درسنا بين طياتها،تحت اسم الخيال المادي،هذه الحاجة المدهشة ل”الاختراق”،والتي فيما وراء إغراءات خيال الأشكال،ستتأمل المادة،تحلم بالمادة،تعيش داخل المادة  أو – الأمر نفسه- تجسيد المتخيَّل.

نعتقد بأننا بلورنا خطابا يتطرق إلى قاعدة الخيالات المادية الأربعة،قاعدة تنسب بالضرورة إلى خيال مبدع،واحدا من العناصر الأربعة:النار، الأرض، الهواء والماء .

مما لاشك فيه،بوسع العديد من العناصر التدخل كي تؤسس صورة خاصة؛هناك صور مركَّبة؛لكن حياة الصور ذات انتماء سُلالي خالص وأكثر إلحاحا.ما إن تكشف الصور عن حضورها في صيغة سلسلة،حتى تحدد مادة أولى،وعنصرا جوهريا.تمتثل فيزيولوجيا الخيال،بل وأكثر من ذلك تشريحه، لقاعدة العناصر الأربعة. 

ألا نخشى من الوقوع في تناقض بين أعمالنا السابقة وكذا الدراسة الحالية؟إذا كانت هناك قاعدة للخيالات المادية الأربعة تلزم الخيال كي يركز على مادة معينة،ألن يجد الخيال هنا مبررا للثبات وكذا الرتابة؟بالتالي، لاجدوى من دراسة حركية الصور.

ليس الأمر كذلك،مادمنا لانتخيَّل عنصرا من العناصر الأربعة في إطار قصوره؛ بل وفق دينامكيته الخاصة،إنَّه يمثل واجهة سلسلة تستدعي نمطا من الانتساب بالنسبة للصور التي تكشف عنها.لكي نستعمل مرة أخرى التعبير الرائع لفوندان،يجسد كل عنصر مادي مبدأ مرشدا جيدا يمنح الاستمرارية إلى نفسية متخيِّلة.أخيرا،كل عنصر تبناه الخيال المادي بحماس،يهيئ بالنسبة للخيال الديناميكي،تساميا خاصا،وتعاليا نموذجيا.

سنقدم الدليل،على امتداد هذه الدراسة ونحن نقتفي أثر الصور الهوائية.سنكتشف بأن التسامي الهوائي،بمثابة التسامي الاستطرادي الأكثر نمطية،تبدو مستوياته أكثر جلاء وانتظاما.تتواصل وفق تسام جدلي سهل،بل في غاية السهولة.

يظهر بأن الكائن المحلِّق يتجاوز المحيط الجوي حيث يحلِّق،بحيث يقدم دائما الأثير نفسه،قصد التسامي بالهواء؛وبأن مطلقا ما،يحقق الوعي بحريتنا.هل تنبغي بالتالي الإشارة،إلى أن الصفة الأقرب في خضم سيادة الخيال من اسم الهواء،هي صفة حر؟فالهواء الطبيعي، هواء حر.

يلزمنا إذن مضاعفة انتباهنا نحو حرية لم نتمثّلها جيدا،أمام استحضار سريع جدا لدروس الهواء الحر،وكذا الحركة الهوائية المحرِّرة.سنحاول الولوج إلى تفاصيل التحليل النفسي للهواء مثلما فعلنا مع التحليل النفسي للنار وكذا الماء.سيكون استقصاؤنا مختصرا  بناء على وجهة نظر الخيال المادي،لأن الهواء مادة فقيرة.لكن في المقابل،سنحظى مع الهواء بامتياز كبير فيما يخص الخيال الديناميكي.

فعلا،مع الهواء،تتصدر الحركة العنصر.في حين لا وجود للعنصر سوى بوجود الحركة.تمكننا النفسية الهوائية من تحقيق مراحل التسامي.                   

لكي نستوعب جيدا تباينات هذا التسامي الفَعَّال لاسيما الفارق الجذري بين التسامي الحركي المجرد ثم التسامي الديناميكي حقا،يلزمنا إدراك بأن الحركة التي نلاحظها  من خلال النظرة ليست ديناميكية.بحيث تظل الحركة المرئية محض حركة مجردة.تتعقب النظرة الحركة بإفراط حتى تعلمنا كيفية أن نعيشها تماما،وباطنيا.

توجِّهنا رهانات الخيال النظري،وكذا الحدوس التي تتمِّم الصور المرئية،عكس التماهي الضروري.وحده الاستئناس بمادة يمكنه تحديد مشاركة فعالة حقا،نسميها طواعية استقراء،إذا لم يتناول المفهوم سلفا التحليل النفسي للاستدلال.

تتاح لنا إذن مع حياة الصور،إمكانية اختبار إرادة قيادية.فقط مع هذا الإثارة المادية والديناميكية،وكذا”استنتاج”نتيجة علاقة حميمة بالواقع،يبرز وجودنا الخاص.نستوحي ذلك، عندما نرسي بيننا والأشياء تطابقا ماديا.

مما يستدعي الولوج صوب المنطقة التي سماها حقا راوول أوباك ب ”الفضاء- النقيض”(6) :”تضاهي تلك الغائية  الفعلية لوسائط تقتضيها الضرورة الإجبارية للحاجات المباشرة،غائية أخرى شعرية يضمرها الجسد بقوة.ينبغي الاقتناع بأن موضوعا يمكنه تباعا تغيير دلالته و كيانه،حسب استلهام تلك الشعلة الشعرية، ثم استنزافها أو ادخارها”.بتسليطه الضوء على التعاكس بين الذات والموضوع،أوضح لنا راوول أوباك ”قَفَا الوجه”ضمن صفحات العمل المعنون ب :تمرين النقاء.

يبدو،بأنه اكتشف ثانية،نتيجة ذلك،تطابقا بين الفضاء ذي الأبعاد الثلاثة  وهذا الفضاء الحميمي الذي سماه حقا جوي بوسكي : “فضاء بلا بعد”.

حين التمكن من تطبيق علم نفس الهواء اللانهائي،سنفهم بشكل أفضل كيفية انمحاء الأبعاد مع الهواء ونلامس بالتالي مادة بلا بعد، تقدم لنا انطباعا بخصوص تسامٍ حميمي مطلق. 

تتجلى أمامنا إذن قيمة تماثل نوعي،المكسب المتأتي لنا عند انغماسنا بين طيات مادة خاصة بدل التشتُّت عبر أرجاء فضاء متباين.نلتمس في الآن ذاته، من الأشياء، وجل المواد المختلفة،وكذا”العناصر”، زخم تحققها النوعي ثم مقدرتها الدقيقة على الصيرورة. وسنلتمس من الظواهر نصائح للتغيير،وكذا دروسا حول الحركة الجوهرية، باختصار فيزياء مسهبة حول الخيال الديناميكي.

بشكل خاص،تقدم لنا الظواهر الهوائية دروسا عامة جدا في غاية الأهمية حول الصعود، الارتقاء،وكذا التسامي.يلزم وضعها،ضمن المبادئ الأساسية لعلم نفس ننعته تلقائيا بعلم نفس الارتفاع.إذا امتلكت الدعوة إلى السفر الهوائي،مثلما يجدر بها،معنى الصعود،فسترتبط دائما بانطباع مفاده إحساس يشعر صاحبه بارتقاء خفيف. 

سنتبيَّن إذن وجود حركة صور بالتناسب مع استئناس الخيال الديناميكي بالظواهر الهوائية،حينها ندرك تخفيفا للوزن،وانشراحا،ورشاقة.هكذا،تصبح حياة الارتفاع حقيقة حميمة.تجلي وجهة عموديَّة فعلية،في قلب الظواهر النفسية.

إنها ليست مجازا بلا معنى؛بل مبدأ ترتيب،قاعدة تدرُّج،وسلَّم نختبر على امتداده درجات حساسية خاصة.أخيرا،تمتلك حياة الروح،وكذا مختلف العواطف الرقيقة والمتحفظة،والطموحات،والمخاوف،والقوى الأخلاقية التي تستدعي مستقبلا، تفاضلا عموديا حسب تصور الرياضيات للمفهوم. 

أكد برجسون في كتابه الفكر والمتحرِّك (ص 37)،بأن فكرة التفاضل عند ليبنيز أو بالأحرى فكرة نيوتون عن التدفق،مصدرها حدس فلسفي بخصوص التحول والحركة.نعتقد في إمكانية أن نحدد بامتياز تفاضل التقييم البشري،وبوسع الجناح العمودي المتجلي للغاية مساعدتنا على تحديد التطور النفسي الإنساني. 

لكي ندرك حقا المشاعر المرهفة ضمن صيرورتها،ينصب بحسبنا أول استقصاء نحو تحديد مقياس تخفيفها لوزننا،أو على العكس من ذلك،وفق أيّ مقياس تجعله ثقيلا.إنَّ تفاضلها العمودي الايجابي أو السلبي،يصمم بشكل أفضل فعاليتها، ومصيرها النفسي.بالتالي، نصيغ هذا المبدأ الأول للخيال المتعالي :من بين كل المجازات،تعتبر بديهية جدا مجازات الارتفاع، الارتقاء، العمق، الانحدار، السقوط.بحيث لاشيء يفسرها،بينما تفسر كل شيء.

ببساطة شديدة: حينما نتوخى حقا  أن نحياها،نحس بها،وخاصة مقارنتها،يتضح لنا بأنها تنطوي على سمة جوهرية،ثم هي أكثر طبيعية قياسا لغيرها.إنها أكثر إثارة حين مقارنتها مع باقي المجازات المرئية،وكذا أيّ صورة أخرى لافتة. مع ذلك،لاتلقى تشجيعا من طرف اللغة.فالأخيرة،تروِّضها الأشكال،ولاتدرك كيفية جعلها شيِّقة صور الارتفاع الديناميكية.مع أنها،تتميز بقوة نوعية :صور تحكم جدلية الحماسة والحزن.

التقييم العمودي أساسي جدا وصادق للغاية،تفوُّقه غير قابل للنقاش بحيث لايمكن للفكر أن يحيد عن ذلك بمجرد اكتشافه له وفق معناه المباشر والفوري.يستحيل الاستغناء عن المحور العمودي للتعبير عن القيم الأخلاقية.عندما نفهم بشكل أفضل أهمية فيزياء الشعر والأخلاق،سنلامس لحظتها  القناعة التالية :يعتبر كل تقييم عمودية. 

طبيعيا،هناك سفر نحو الأسفل؛بحيث يمثل السقوط،وقد تخلَّل كل مجاز أخلاقي،حقيقة نفسية على امتداد الساعات.تناولنا هذا السقوط النفسي كما لو أنه قسم يتعلق بالفيزياء الشعرية والأخلاقية.باستمرار،يتغير الجدول النفسي.تعكس الحيوية العامة- هذا المعطى الديناميكي المباشر جدا بالنسبة لكل وعي- جدولا بكيفية فورية.

حين ارتفاع منسوب الحيوية،تنتصب توّا قامة الإنسان.يصبح الوثوب الحيوي،إبان السفر نحو الأعالي وثوبا للأنسنة؛بمعنى ثان،خلال مهمته للتسامي الاستدلالي، تتشكَّل داخلنا دروب السمو.

يخبرنا رامون غوميز دي لاسيرنا،بأن كل شيء يمثل داخل الإنسان دربا.ويلزمنا إضافة:يستدعي كل درب صعودا.الديناميكية الإيجابية للعمودية واضحة تماما بحيث يمكننا الإقرار بهذه الحكمة :من لايصعد يسقط. الإنسان كإنسان لايمكنه أن يحيا أفقيا.تمثل استراحته وكذا نومه في أغلب الأحيان،سقوطا.نادرا من ينامون خلال صعودهم.هؤلاء ينامون هوائيا، نوم بيرسي شيلي،بين طيات ثمالة القصيدة.

ستوضح لنا بسهولة النظرية المادية،مثلما طورتها الفلسفة البرجسونية،تلك الحكمة المتعلقة بأولوية التعالي.أيضا،بهذا الخصوص،قدم السيد إدوارد لي روي،مساهمات عديدة فيما يخص نظرية المادة لدى برجسون.لقد أوضح بأن العادة مثلت قصورا ذاتيا للصيرورة النفسية.

من وجهة نظرنا الخاصة جدا،تجسِّد العادة نقيضا دقيقا للخيال المبدع.فالصورة المألوفة تكبح القوى المتخيلة.تلك الصور التي ندرسها في الكتب،ثم يرعاها الأساتذة وينصب عليها اهتمامهم النقدي،تحاصر الخيال.تعتبر الصورة المختَزَلة إلى شكلها مفهوما شعريا؛ ترتبط خارجيا مع صور أخرى،كما الشأن بالنسبة إلى مفهومين.غالبا،تفتقد هذه الاستمرارية على مستوى الصور،التي يهتم بها كثيرا أستاذ البلاغة،استمرارية أخرى أعمق بوسعها وحدها بلورة الخيال المادي وكذا الديناميكي. 

لم نخطئ إذن،حسب اعتقادنا،عندما حَدَّدنا العناصر الأربعة كهرمونات للخيال. تفعِّل مجموعات صور و تساعد على التمثل الباطني للواقع المتبعثر ضمن أشكاله.تتم من خلالها التآلفات الكبرى التي تمنح المتخيَّل سمات منتظمة شيئا ما.تحديدا،الهواء المتخيَّل بمثابة الهرمون الذي يسمو بنا نفسيا. 

إذن،سنبذل قصارى جهدنا،عبر صفحات هذه الدراسة حول التحليل النفسي المتعالي،كي نقيس الصور حسب صعودها الممكن.سنحاول وَصْل الكلمات ذاتها،بالحد الأدني من الارتقاء  الذي تثيره،مع الاقتناع تماما،بأنه إذا عاش الإنسان صدقا صوره وكلماته،ستتأتى له جراء ذلك فائدة أنطولوجية خاصة.

يبدو لنا في الواقع،بأن الخيال الذي يتحقق زمانيا نتيجة الفعل،يعتبر بامتياز مَلَكة للأنسنة.عموما،يمثل اختبار صور استثنائية،  المهمة الوحيدة التي تناسب قوانا.أيضا،سيكون دائما بناء على المظهر التفاضلي،وليس  التكاملي،تقديمنا لأبحاث ذات تحديد عمودي.بمعنى ثان،نقف بدراساتنا عند شذرات مقتضبة جدا عن المنحى العمودي.

لانتوخى قط اختبار السعادة المطلقة المتأتية من تسامٍ كامل ينتقل بنا نحو عالم جديد.بل،تتطلع منهجيتنا كي تقارب ضمن خاصيتها النوعية السمة الحيوية لتطلعات خفيفة، لايمكنها أن تضلِّل مادامت خفيفة،تتداخل مع كلمات تمتلك داخلنا حدوثا فوريا،كلمات تواقة، تجعلنا نكتشف بغتة فكرة جديدة،استعادت فتوتها،فكرة حية،تغدو بالنسبة إلينا مثل صنيع جديد.ألا تمثل اللفظة أول غبطة؟ينطوي الكلام على طاقة حيوية عندما يأمل.في المقابل، سيعيش اضطرابا إذا انتابه الفزع.

هنا،وليس بعيدا،بالقرب جدا من كلمة شعرية،وكذا كلمة تتخيل،يلزمنا العثور على تفاضل للارتقاء النفسي. 

إذا بدا علينا أحيانا أننا ننزوي إلى صور مفرطة في اللامادية،فسنطلب من القارئ منحنا ثقته.صور الهواء في طريقها وجهة كونها صورا تجرَّدت عن المظهر المادي.لذلك، تكتنفنا غالبا صعوبة،إيجاد المقياس الصائب،بهدف تحديد صور الهواء :صورة مفرطة في المادة أو فقط قليلا منها،هكذا تبقى جامدة أو  تغدو عابرة،وجهان مختلفان يجعلان منها عديمة الفائدة.

أيضا،تتدخل عوامل شخصية  فتؤدي إلى ميل الميزان نحو هذه الجهة أو تلك.لكن الأساسي بالنسبة إلينا،تبيان التدخل الضروري لعنصر وزني بخصوص قضية الخيال الديناميكي.نتوخى إظهار ضرورة قياس مختلف الكلمات، بالمعنى الخاص للمفهوم،من خلال وزن النفسية التي تحرِّضها الكلمات. يستحيل،أن ننجز بهذا الخصوص تحليلا نفسيا مفصَّلا دون نوع من الإسهاب.حينما نرصد مختلف سمات ذلك،يمكننا حينئذ وضع تصميم ثانٍ على ضوء الحقيقة الواقعية.   

تعود إلى علم النفس الميتافيزيقي مهمة توطيده بالنسبة للخيال الديناميكي مُضخِّما حقيقيا للنفسية المتسامية.إذن، وبكيفية  دقيقة جدا،فالخيال الديناميكي بمثابة مُضخِّم نفسي. 

نريد فعلا الاعتقاد بأننا أشرنا إلى مسألة الوعي بصعوبات موضوعنا.لقد تساءلنا غالبا،بخصوص مدى”إمساكنا بالموضوع”.هل يشكِّل موضوعا،تلك الدراسة التي تهتم بصور عابرة؟مادامت صور الخيال الهوائي،تتبخَّر أو تتبلور.بالتالي،يلزمنا دائما تناولها بين قطبي هذه الازدواجية الديناميكية.لذلك،ينبغي لنا تبيان الإخفاق الثنائي لمنهجيتنا :

يتحتم على القارئ مساعدتنا،من خلال تأمله :بكيفية ذاتية،حتى يحصل،في غضون المدة القصيرة للحلم والفكر،الصورة والكلام،على التجربة الديناميكية للكلمة التي تعكس في الآن ذاته حلما وفكرا. 

تمثل فورا كلمتا جناح وسحابة،دليلا على الثنائية الوجدانية بين الواقعي والمتخيَّل. يفعل القارئ مباشرة ما يريده :نظرة أم رؤيا،حقيقة جلية للعيان أو حركة يستحضرها الحلم.لذلك،نلتمس من القارئ،أن يعيش هذه الجدلية،ثم حالاتها المتعاقبة،لكن أيضا الجمع بينها وفق تناقض وجداني يتيح لنا إمكانية فهم الحقيقة كقوة للحلم وبأن الحلم حقيقة.

للأسف !هي لحظة مقتضبة.بحيث يلزم الاعتراف بكوننا نرى سريعا أو نحلم بشكل أسرع.لذلك، نجسِّد مِرآة للأشكال،أو مجرد عبد أخرس نحو مادة جامدة. 

هذه الإرادة المنهجية بخصوص استدراج قضيتنا كي تكتسي قوام تسامٍ استطراديّ  يرتبط بالتفاصيل،منتقلا باستمرار بين الانطباع والتعبير،تحظر علينا مقاربة قضايا الانتشاء الديني.بالتأكيد،هي قضايا تنهض على تحليل نفسي متكامل للتعالي. لكن زيادة،على افتقادنا لكفاءة مقاربتها،فإنها لا تتناسب سوى مع تجارب نادرة جدا فيما يتعلق بطرح القضية العامة للإلهام الشعري(7).

أكثر من ذلك،لاتمتد أبحاثنا نحو التاريخ الطويل لعلم الظواهر الروحية التي لعبت على امتداد العهود،دورا كبيرا جدا.يلزمنا تجاهل تلك الوثائق،مادمنا نتوخى القيام بدور عالم نفس وليس مؤرخ. بناء عليه،لن تستلهم صفحات عملنا الحالي، وكذا باقي أبحاثنا الأخرى حول الخيال، سواء من الأسطورة وكذلك علم الشياطين،إلا مابدت فعاليته دائما بالنسبة لروح شاعر،ثم مايحفِّز باستمرار فكر حالم يعيش بعيدا عن الكتب،أمينا حيال الرؤى اللانهائية للعناصر الطبيعية. 

مقابل كل هذه التحديدات الصارمة لموضوعنا،نلتمس من قارئنا السماح كي نهتدي به ثانية دون توقف وجهة السمة الوحيدة التي نرغب في فحصها بين طيات الصور الهوائية : حركتها، من خلال إحالة هذه الحركة الخارجية،على الحركة التي تثيرها الصور الهوائية في كينونتنا.بمعاني أخرى،الصور من وجهة نظرنا،حقائق نفسية.تكمن الصورة داخلنا،ابتداء من ولادتها وكذا اندفاعها،كمجال لفعل تخيَّل وليست ذيلا له.هكذا،يتم تخيّل العالم في خضم التأمل الشارد الإنساني. 

ونقدم الآن عرضا سريعا لطبيعة مخططنا. 

بعد هذه المقدمة المفرطة فلسفيا والمجردة،سنعرِّج بكيفية سريعة جدا في الفصل الأول،على مثال ملموس وبارز عن الحُلُمية الديناميكية.سندرس بين صفحاته فعلا،حلم التحليق. يظهر معه ربما أننا سنبدأ بتجربة خاصة جدا ونادرة للغاية.

لكن،ستنصب مهمتنا تحديدا،حول إظهار تواتر هذه التجربة أكثر مما نعتقد،وبأنها تترك على الأقل لدى بعض النفسيات،آثارا عميقة،بين طيات فكر عتيق.بل سنوضح،بأنها آثار تشرح مصير بعض الشعريات.مثلا،تنكشف خيوط صور طويلة جدا،من خلال تكاثرها المضبوط والمنتظم،حينما سنكتشف حلم التحليق الذي يمنحها اندفاعها الأول. 

بشكل خاص،صور أخِذَت من أعمال متنوعة جدا لشيلي، بلزاك ، ريلكه،سنوضح معها بأنَّ تحليلا نفسيا ملموسا لحلم التحليق الليلي، يتيح إمكانية تبيان الملموس وكذا العام ضمن قصائد غالبا غامضة وعابرة. 

إذن، انطلاقة قوية في إطار علم نفس طبيعي غير مستند على أيِّ بناء قبلي،منحتنا إمكانية دراسة شعرية الأجنحة،في الفصل الثاني.سنعاين، اشتغال صورة تتمتع بالحظوة بالنسبة للخيال الهوائي.

تفضي بنا ملاحظاتنا السابقة، نحو وسيلة تتأتى لنا بفضل الخيال الديناميكي قصد التمييز بين الصور المصطنعة وكذا الصور الطبيعية حقا،ثم بين شعراء يقفون فقط عند حدود إعادة استنساخ ماسبق،وكذا شعراء آخرين  يحفِّزون فعلا قوى الخيال المبدعة. 


في خضم فقرات عرضنا،سنقدم بما يكفي أمثلة عديدة عن التحليل النفسي للتعالي الايجابي كي نتمكن أيضا من تحديد نفسي،تبعا لشكلها السلبي،مختلف مجازات السقوط المعنوي.معطيات،اشتغل عليها الفصل الثالث،مما اقتضى حينها جوابا بخصوص  اعتراضات عدة تنزع نحو إلزامنا كي نعتبر تجربة السقوط المتخيَّل مثل معطى أولي للخيال الديناميكي. 


جوابنا بسيط للغاية.نطرحه في هذا السياق لأنه يضيء أطروحاتنا العامة :

فقط بالنسبة لخيال أرضي،يقود السقوط المتخيَّل نحو مجازات أساسية.

السقوط العميق، بين ثنايا الحفر المظلمة،ووسط هاوية،يعتبر تقريبا بكيفية حتمية سقطات متخيَّلة في علاقة مع خيال المياه، أو خاصة خيال أرض دامسة. كي نصنف كل مقاماتها،يلزمنا تأمل مختلف تجليات أحزان أرضِيٍّ بصدد المقاومة، إبان لياليه المأساوية، ضد  ذلك الانهيار الذي لايتوقف عن تعميق فجوة حفرته، وقد وُظِّفت في سبيل ذلك المِجرفة والفأس، ثم الأيادي والأسنان على امتداد هذا المنجم المتخيَّل حيث معاناة كثير من البشر تحت سطوة كوابيس جحيمية. انحدارات كهاته صوب جهنم،لايمكن وصفها من وجهة نظر الخيال الشعري،إلا إذا امتلكنا القوة كي نقارب ذات يوم،انطلاقا من الزاوية النفسية الخيال الأرضي المادي، الصعب والمتعدد. 

في الكتاب الحالي،الذي كرَّسناه فقط للخيال المادي والديناميكي المتعلق بالمائع  الهوائي،لن نصادف قط خيال السقوط سوى كصعود عكسي.بناء على هذا التصور غير المباشر– التثقيفي جدا من ناحية أخرى- نبلور حيثيات الدراسة الجزئية التي تتلاءم مع موضوعنا الحالي. 

ما إن ندرس السقوط النفسي في صيغته الديناميكية المبسَّطَة،سيكون أمامنا جل مايلزم بهدف فحص الرهانات الجدلية بين الدوخة وكذا الحظوة.سنقيس أهمية شجاعة الموقف وكذا القامة،شجاعة أن تعيش ضد الجاذبية،فتحيا”عموديا”. 

نُثْني على معنى البعد الصحي لانتصاب القامة، والارتقاء،وكذا الهامة المرتفعة. 

لقد وَجَدَت سلفا،هذه الوقاية،والعلاج بالمنحى العمودي وكذا المرتفعات المتخيلة، محلِّلها النفسي وكذا طبيبها المتمرس،عندما حاول روبير ديسويل،عبر نصوص أعمال غير معروفة بالكيفية المتوخاة،تعضيد داخل نفسيات عُصَابية،ردود أفعال تحكمها شروط، تنصهر بين طياتها قيم الارتقاء :الارتفاع، النور، السلام.  

بين دفتي فصل خاص،قمنا بواجب إثارة الانتباه وتسليط الضوء على مشروع روبير ديسويل،الذي كان بالنسبة إلينا،خلال عدة أقسام من هذا البحث،مساعدا لاغنى عنه.لن نتردد كذلك،من جهة ثانية،في هذا الفصل مثلما الشأن مع باقي الفصول،كي نتذرع بملاحظات نفسية قصد تطوير أطروحاتنا الخاصة حول ميتافيزيقا الخيال،الميتافيزيقا التي تظل في المجمل هدفنا المعلن. 

مثلما فعلنا مع نار هوفمان،وكذا الماء مع إدغار بو وسوينبرن،نعتقد بأن اهتمامنا فيما يتعلق بالهواء،قادنا نحو تناول أكبر مفكر وأكبر شاعر باعتباره نموذجا أساسيا بهذا الخصوص.هكذا،بدت لنا إمكانية استحضار نيتشه كرمز لعقدة التعالي.

لقد وضعنا هدفا يتمثل في جعل الفصل الخامس بوتقة  تحوي،مختلف الرموز الملتئمة طبيعيا- بحتمية محض رمزية- صوب ديناميكية الارتفاع.سنرى ثانية بأيِّ سهولة،ووفق أيِّ انسياب طبيعي،يجمع العبقري بين الفكر والخيال؛ثم كيف ينتج الخيال الفكر عند العبقري،بعيدا على أن يكون الفكر مجرد بحث عن بهرجة داخل مستودع للصور. حين العودة إلى إهليلج لوبيك ميلوز المدهش،نقول عن نيتشه :”وقد تسامى،سينتصر”.يساعدنا على التجاوز،نظرا لانقياده  بوفاء مدهش لخيال الارتفاع الديناميكي. 

حينما سنفهم،وفق مداه الكبير جدا،ثم تبعا لأقصى حمولته،المعنى الديناميكي لدعوة صوب وجهة سفر خيال هوائي،بوسعنا حينها توخي تحديد الموجِّهات المتخيَّلة التي يمكننا ربطها بمختلف الموضوعات والظواهر الهوائية.سنظهر،فيما بعد،عبر فقرات فصول مقتضبة، المنحى الهوائي بالنسبة لصور شعرية جيدة كما الشأن مع صور السماء الزرقاء،كوكبة النجوم،السحب،وكذا مجرة درب التبَّانة . 

بعد ذلك،خصصنا فصلا ل الشجرة الهوائية كي نظهر فعلا بأن كائنا أرضيا قد يحلم إذا اقتفى مبادئ المشاركة الهوائية. 

مثلما فعلنا في كتابنا الماء والهواء،حينما أبرزنا تيمات الماء العنيف،سنطرح على نفس المنوال بعض الوثائق حول الهواء العنيف،وكذا الرياح الهائجة.لكن لدهشتنا الكبيرة،لم نجد وثائق شعرية في غاية الوفرة والتعدد،رغم قراءات غزيرة ومتنوعة.يبدو بأن شعرية للعاصفة،وهي أساسا،شعرية للغضب،تلتمس أشكالا أكثر حيوانية من السحب التي يسوقها الإعصار. سيبقى العنف إذن خاصية ترتبط بكيفية سيئة بنفسية هوائية.تصبو الديناميكية الهوائية، وفق استعداد أكبر كي تصبح ديناميكية للنَّفَسِ العذب.

مادمنا أخذنا تقريبا جل وثائقنا من الشعراء،فقد توخينا العودة،بين صفحات الفصل الأخير،إلى إشكالية الإلهام الشعري.لذلك،وضعنا جانبا مختلف قضايا النَّفَسِ الواقعي،وكل علم نفس للتَّنَفُّس الجديرة طبيعيا بأيِّ تحليل النفسي للهواء تأملها.بالتالي،بقينا إذن ضمن مضمار الخيال.حتى مايخص جانب النبر،لم نحاول الكلام إبان سياقنا ذاك عن الصيغة العلمية.ضمن هذا المجال الدقيق،أظهرت بشكل واضح جدا،الأبحاث الثاقبة لبيوس سيرفيان،علاقات التغيرات بين النَّفَس والأسلوب.

نعتقد إذن في إمكانية بقاء تموقعنا عند ممكنات وجهة نظر مجازية بشكل قوي،وعبر صفحات معنونة ب : الخطابة البكماء.حاولنا،إبراز الحيوية التي يحصل عليها الكائن حين امتثاله جسدا وروحا إلى هيمنة الخيال الهوائي. 

بعد عرض أفكار مجهودات مختلفة،وجب الإفضاء إلى خلاصة،واتجهنا بهذا الصدد نحو ضرورة كتابة فصلين وليس مجرد فصل واحد.

يختزل الأول وجهات نظرنا،المنطوية عليها مجمل صفحات هذه الدراسة،فيما يتعلق بالخاصية النوعية حقا للصورة الأدبية.أقصد وضع الخيال عند مقام نشاط طبيعي يتطابق مع فعل مباشر للخيال حول اللغة.  

بينما استعاد من جديد الفصل الذي  تضمن الخلاصة الثانية،تصورات فلسفية لم نتمكن من إعطائها استمرارية كافية على امتداد الدراسة.خلاصة توخت إعطاء الصور الأدبية موقعها الصحيح كمصدر للحدس الفلسفي،ثم حاولنا كذلك إظهار بأن فلسفة للحركة بوسعها تحقيق مكسب إذا اتخذت لها مكانا في مدرسة الشعراء.


  • هوامش :

مصدر المقالة : 

Gaston Bachelard : l’ air et les songes ;1943.PP :7-27.                                                            

(1)ويليام بليك : كتاب النبوءة الثاني، ترجمة بيرجي،ص143 .

(2)بنيامين فوندان : دراسة إيستيتيقية زائفة،ص 90 .

(3)راينر ماريا ريلكه : دفاتر مالتي لوريدس بريجي. ترجمة بيتز. ص 25

(4)ريلكه نفسه، ص 74

(5)فيرناند شابوتيي : التوأمان كاستور وبوليكس في خدمة الإله. باسيم .

(6)راوول أوباك : الفضاء- النقيض.رسائل،1942،دفتر رقم 1 .

(7)سنصادف عرضا متكاملا جدا للقضية،مع بيبليوغرافيا وافرة،بين صفحات كتاب أوليفيي لوروي،المعنون ب: ”التحليق”،مساهمة تاريخية ونقدية في دراسة الخارق، مارس1928 .

سعيد بوخليط

سعيد بوخليط : كاتب ومترجم وباحث من المغرب، حاصل على شهادة الدكتوراه في النقد الحديث، يشغل حالياً مهنة مدرس للغة العربية في سلك التعليم الثانوي التأهيلي. أصدر العديد من الكتب ترجمةً وبحثاً وتأليفاً؛ ومعظمها يدور حول أعمال الفيلسوف الفرنسي (غاستون باشلار).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى