الدراسات الثقافية

“صدام الحضارات”.. نظرة العم سام النمطية إلى حضارات العالم

 


أشعلت الحرب الباردة بين العالم الغربي ممثلا بالولايات المتحدة من جهة، وبين الكتلة الشرقية وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي من جهة أخرى؛ لهيب سباق التسلح بين الدول لسيادة العالم، فقد هدأت أصوات المدافع ردحا من الزمن، لكن بعد ذلك وتحديدا في بدايات تسعينيات القرن الماضي، ارتفعت أصوات المنظرين لشكل العالم الجديد بعد الحرب الباردة.


في هذا الجو المحموم بالتنافس ظهر صوت “صامويل هنتنغتون”، فملأ الدنيا وشغل الناس حين أصدر كتابه “صِدام الحضارات”، وقد كان نتيجة لمقال سابق كتبه عام 1993، ثم قام بتوسيعه على شكل كتاب في 1996.


وقد خصَت قناة الجزيرة الفضائية هذا الكتاب بحلقة من برنامجها “خارج النص”، واستضافت لمناقشته مجموعة متميزة من النقاد والمحللين.

 

  • “رؤية جديدة لما سيكون عليه العالم بعد الحرب الباردة”

يتحدث “مايكل لودرز” الخبير الألماني في شؤون الشرق الأوسط عن كتاب “صدام الحضارات” قائلا: كان بمثابة كتاب الساعة، فقد أجاب بطريقة سهلة على مسائل بالغة التعقيد، وقد تعرض الكتاب للكثير من الجدل والنقاش، وكان رؤية جديدة لما سيكون عليه العالم بعد الحرب الباردة.


أما فالح عبد الجبار مدير معهد الدراسات العراقية، فاستخلص منه أن: الحرب الباردة انتهت، والحروب المقبلة لن تكون على أساس أيديولوجي، ولكن بين الحضارات.


ويرى عبد الغني عماد خبير شؤون الحركات الإسلامية في لبنان أن الكتاب: ينطلق من أطروحة أساسية هي أن الصراعات والحروب في الماضي، انتهت لصالح نموذج جديد يقوم على الصراع على خطوط التماس بين الحضارات.

“صامويل هنتنغتون” مؤلف كتاب “صدام الحضارات” المثير للجدل


  • معلم الأجيال.. سيرة بين الجامعة والبيت الأبيض

يلقب “صامويل هنتنغتون” بمعلم الأجيال في العلوم السياسية، فهو بروفيسور في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة هارفارد، وله عدة أطروحات في السياسة كانت تدرَّس كمناهج جامعية قبل صدور الكتاب.

وهو مقرب من عالم السياسة في البيت الأبيض، وقد عمل كمخطِّط أمني في رئاسة “جيمي كارتر”، ومستشارا لنائب الرئيس جونسون، وتقلب في مناصب أخرى مهمة أكاديمية وسياسية حتى توفي عام 2008.


بُني الكتاب علىرؤية جديدة لتقسيم العالم على أساس الهوية الثقافية، وأنذر بحروب من نوع آخر، فعالَم ما بعد الحرب الباردة مكون من سبع حضارات أو ثمان لها صراعاتها الخاصة التي تنطلق من خلفياتها الثقافية.


وعن هذا التقسيم يقول جلبار الأشقر، من معهد الدراسات الأفريقية والشرقية بجامعة لندن: قسم العالم إلى عدد محدود من الحضارات مبنية على مساحات دينية هي التي تحرك هذه الحضارات، بينما تكلم عن الحضارة الغربية دون أن يسندها للمسيحية، على أساس أن أغلبها علمانية، واستخدم المسيحية لروسيا والدول الشرقية فقط.

العالم في رأي صاحب كتاب “صدام الحضارات” مكون من حضارات ثمان


  • تصنيف الحضارات بأديانها.. سطحية التقسيم الجامد

يوضح “ألكسندر دالفال” الباحث الجيوسياسي الفرق بين روسيا وأوروبا قائلا: لقد فهم “صامويل” أن أكثر ما يميز الحضارة هو الدين، ويعترف أن الغرب يختلف عن روسيا بالرغم من أنهما ينحدران من حضارة واحدة، ولكن أوروبا الغربية صار لديها مكونات أخرى تجتمع عليها غير الدين.


وعن هذه الأقسام يقول جوليان هارغرفز، الباحث في شؤون المجتمعات الإسلامية، كامبردج: “قسَّم “هنتنغتون” العالم إلى ثماني حضارات: الصين واليابان والغرب (أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية) والعالم الإسلامي وأفريقيا وأمريكا اللاتينية والأرثوذوكس (روسيا) والهندوس (الهند وجنوب شرق آسيا)،

وهي فكرة أثارت الخلاف منذ صدور الكتاب، وتحديدا عندما استخدم مصطلحات الغرب والعالم الإسلامي، وهي نظرية سطحية مبسطة اختزلت الكثير من التعقيدات التي ينبني عليها العالم الحقيقي.

ولا تروق هذه الفكرة للدكتور برهان غليون أستاذ العلوم السياسية في السوربون، إذ يقول: الحدود المائعة بين الحضارات تمنعنا من وضع تعريف دقيق للحضارة، فالتحول الثقافي في العالم ذو ديناميكية أعقد بكثير من التصور الستاتيكي (الثابت) الذي رسمه “هنتنغتون” بسطحية ساذجة في كتابه.

ويؤيده “ألان جراش”، وهو صحفي فرنسي بقوله: “كأنه يريد أن يصور لنا أن الحضارة مغلقة على نفسها، والواقع أنه لا توجد حضارة مغلقة، بل نحن الآن في عصر العولمة، والعالم أصبح خليطا”. فالروح الاستعمارية موجودة في الكتاب بشكل جلي، وينادي بالتقوقع على الذات، “ومنع الحضارات الأخرى من أن تؤذينا”.

يختلف الغرب عن روسيا بالرغم من أنهما ينحدران من حضارة واحدة، لأن لدى أوروبا مكونات أخرى تجتمع عليها غير الدين


  • هيمنة الرجل الأبيض.. عودة إلى موروثات العصر الاستعماري

يعاب على المؤلف أنه رأى فكرة الصراع فقط بين هذه الحضارات، في نوع من التعميم والاعتباطية في تقسيم الحضارات، ولا يعتمد على معايير علمية معتبرة في تقسيمها، كما أنه لم يشر إلى أنه يمكن أن يكون هنالك شيء من التلاقي والتعاون بينها.

مع أن هنالك الكثير من أبناء الحضارات المختلفة على حد قوله يعيشون على بقعة واحدة، ويحاولون بناء مجتمعهم، كل حسب وجهة نظره، دون حاجة إلى صراع.

وبعد هذا التقسيم يصب اهتمامه على الحضارة الغربية فقط، وأن أمريكا هي حامية هذه الحضارة، ويجب أن تتعاضد كل المجتمعات الغربية لحماية هذه الحضارة، لئلا تتعرض لهجوم من الحضارات الأخرى. ويرى أن الحضارة الغربية مركز الكون وأم الحضارات، ويذكرنا بنظرية هيمنة الرجل الأبيض في القرن التاسع عشر وأوائل العشرين.

ويدافع “ألكسندر دالفال” عن “هنتنغتون” بقوله: الاستنتاج باستعلاء الحضارة الغربية والرجل الأبيض خاطئ، ويجب أن نقرأ الكتاب كما يلي: على أمريكا الدفاع عن مكتسبات الغرب والديانة الأنجلوسكسونية، مع مطالبة بالتوقف عن التعالي ضد الثقافات والدول الأخرى. أي أنه يقصره على بلاده، دون التأثير على الآخر، وكلٌ يدافع عن نفسه.

ويعتذر له “هارغريفز” بقوله: كثيرون انتقدوه ووصفوه بالغطرسة، ولكن قراءة متأنية للكتاب توضح أن المؤلف يخشى على الحضارة الغربية من الاضمحلال، وهو أمر لا بدّ كائن برأيه، ويريد فقط تحصين ثقافته من الزوال.

مفكرون يعزون أسباب الإرهاب ضد الغرب بسبب تأمينه لحقول النفط وزرع الكيان الصهيوني في قلب العالم الإسلامي


  • هاجس العنف الإسلامي.. ظلال جرائم الغرب في المشرق

اتخذ الكتاب العنف حجة على عدم ديموقراطية الإسلام، واعتبر الحروب التي خاضها المسلمون عبر التاريخ عنفا غير مبرر، ويتهم المسلمين بأنهم الأكثر تورطا في العنف، بل ويصف العنف الإسلامي بأنه عنف جماعي نابع من الإسلام نفسه، وليس فقط من المسلمين.

وأن المسلمين لديهم ولع خاص بالعنف والقتال، واستخرج نسبا مزيفة تشير إلى أن أكثر ضحايا العنف في القرن العشرين كانوا بسبب المسلمين.

أما النقاد الغربيون فيرون أن “صامويل هننغتون” لا يتهم المسلمين في دولهم، فلهم الحق في اعتناق شريعتهم كما يشاؤون، ولكنه مشفق على الدول الغربية التي فيها وجود كبير للمسلمين، أو تلك الدول المتحولة مثل تركيا، كما أنهم يعيبون عليه وضع مئات الملايين من المسلمين في قالب واحد، فهذا مستحيل الحدوث والتصور.

ويدافع كثير من الغربيين عن المسلمين، ويدعون إلى دراسة مشكلة التطرف عند بعض الجماعات الضيقة، ويحاولون إيجاد الأسباب لهذا التطرف، ويجد المعتدلون منهم أن كثيرا من الأسباب الموضوعية جاءت من الغرب نفسه، مثل تأمين حقول النفط، وزرع الكيان الصهيوني في قلب العالم الإسلامي، وغزو العراق.

يقول “هارولد مولر” أستاذ العلاقات الدولية في فرانكفورت: يتحدث المؤلف عن حضارة الإسلام بأنها ذات حدود دموية، وهذا كلام فارغ، فإذا نظرت إلى جلب الحروب والإرهاب خلال القرون الخمسة الماضية فستجد أن المحرك الرئيسي لشلال الدماء هو الغرب. انظر إلى الاستعمار والحربين الأولى والثانية، كل ذلك صناعة غربية بامتياز.

كتاب صدام الحضارات لا يعد العنصر الاقتصادي الشرقي عاملا حاسما في هذا الصدام رغم أنه في رأي البعض أساسي


  • نفط الشرق الأوسط المشتعل.. نظرة اقتصادية سطحية

يغض الكاتب الطرف عن العامل الاقتصادي وأثره في تحريك العنف والقلاقل، فالعالم الإسلامي الممتد على رقعة الشرق الأوسط غالبا هو سوق مرغوب واحتاطي نفط مرقوب.

ومن السطحية وضيق الأفق أن تغفل هذا العامل، وتركز على التميز الذاتي في الحضارة الغربية، وأنها بعد تفتت الاتحاد السوفياتي هي المؤهلة الوحيدة لوراثة العالم والتأثير في كل ألوان حضاراته.

وعلاقة العالم الغربي مع نفط العالم العربي وتجارة الصين والأيدي العاملة من الهند وجنوب شرق آسيا، تدحض نظرية “هنتنغتون” في العلاقة الجامدة والخطوط الصلدة بين الحضارات، حتى أن معظم الحروب التي نشأت في الشرق الأوسط سببها النفط.

ويعترف “دالفال” أن: رؤية الكاتب اجتماعية دينية، ولا يركز على الحيثيات الاقتصادية، وهذه نقطة ضعف جلية في أبحاث “هنتنغتون”، فهو يركز على الصبغة الإيديولوجية أو الدينية والثقافية للمجتمعات، ويتغافل عن المحرك الاقتصادي واحتياجات الطاقة. ولكنه لا يستطيع أن يهرب من هذا الواقع كثيرا عندما يتحدث عن منطقة الشرق الأوسط، فالنفط حاضر بقوة في هذه الجغرافيا.

“صدام الحضارات” كتاب لمؤلف أمريكي يرى بأن الحضارة الغربية وخاصة أمريكا يجب أن تبقى مستعلية على بقية الشعوب


  • تحقق النبوءة.. جدل حول توقيت الكتاب المريب

يبقى السؤال الذي يفرض نفسه: هل كان الكتاب بحثا أكاديميا أم عملا استخباراتيا؟

تنامى الجدل عالميا حول هذه النقطة، خصوصا أن الكاتب مقرب إلى دوائر صنع القرار في البيت الأبيض، ولماذا ثارت على إثر صدوره الحروب في مناطق كثيرة من العالم؟ هل هو نبوءة حداثية؟ ومع أن عصر النبوات والمعجزات قد انتهى، فإن كثيرا من النقاد ينظر بريبة إلى توقيت صدور الكتاب.

عندما ننظر إلى العالم من زاوية سطحية، يمكن أن نقول إن نبوءات هنتنغتون قد تحققت لأن العالم اليوم ينهار، ولكن ألا يستحق المستقبل أن ننظر إليه بإيجابية؟ وهل هذا الانهيار ناجم عن صراع حضارات، أم أن الدول تتشقق من داخلها؟

الحروب داخلية وليست على خطوط التماس بين الحضارات، بل إن أكثر المتضررين مما يسمى بالإرهاب الإسلامي هم المسلمون أنفسهم.

الضمان الأخير لعدم قيام حرب عالمية ثالثة، هو نظام عالمي قائم على تعدد الحضارات. إذن دعونا نعيش معا في هذا العالم، دون تقسيمه إلى خير وشر أو أبيض وأخضر.


خاص للجزيرة الوثائقية

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى