الدراسات الثقافية

بطاقة الفنان الشعبي

كان يُبكي أبناء الشعب من الضحك، ولما توفي جعلهم يذرفون عليه دموع الحزن.. إنه الفنان الشعبي المعروف بـ«لكريمي». يستمد لقبه هذا من قبيلة «الكريمات» بالشياظمة (إقليم الصويرة) واسمه الحقيقي محمد بلحجام.

فاجأه الموت (وهو في التاسعة والخمسين من عمره)على إثر حادثة سير يوم السبت 11 يوليو/ تموز 2020، بعد أن دهسته شاحنة صغيرة وهو على متن دراجته النارية.. أثارت وفاته موجة من الحزن والأسى، والتعاطف من لدن عشاقه ومتتبعي أنشطته في الساحة العمومية (الحلاقي)، وكتبت عنه بعض الصحف، وامتلأت وسائط التواصل الاجتماعي بالحديث عنه وعن شخصيته الفكاهية، وقدرته على خلق الفرجة، والضحك الشعبي مهما كانت الظروف والشروط التي يطبعها الفقر والبؤس.


محمد لكريمي ابن الحلقة، باعتبارها فضاء للفرجة الشعبية، سواء في الأسواق الأسبوعية، أو في ضواحي المدن الكبرى. ولكي يتمكن شخص ما من أن يمارس أداءاته الفرجوية، أيا كان نوعها، في الحلقة ينبغي أن يتوفر على قدر كبير من الذكاء والموهبة والدراية، من جهة، وعلى ذخيرة نصية واسعة من الذاكرة الشعبية المغربية، من جهة أخرى.

هذه هي صورة الفنان الشعبي الذي يدخل البهجة على القلوب، سواء بسرده الحكايات والقصص الديني الشعبي، أو برواية السير الشعبية، أو بأداء الأغاني الشعبية العتيقة، وفق قواعد الإيقاع والرقص المحلي. ومحمد لكريمي كان يجمع إلى جانب إبداع النكت والنوادر القدرة على العزف على لوتار، وأداء مقاطع من الأغاني الشعبية، وإن كان الغالب عليه سرد النكت بطريقة خاصة، تتتابع فيها النكت بدون توقف،

وبحركات جسدية تعبيرية يلعب فيها الوجه والحنك موقعا مركزيا. فيضحك الناس بحركاته إلى جانب ملفوظاته. لكريمي سليل مدرسة الفكاهيين الشعبيين، الذين تربعوا على عرش الساحة العمومية، وتركوا لهم موقعا مهما في الذاكرة الشعبية الحديثة، لذلك لا عجب في أن نجد التأثر لوفاته يلقى صدى لدى الكثيرين ممن تفرجوا على إبداعاته، وأداءاته الفنية الممزوجة بالضحك والسخرية.

إلى أواسط السبعينيات من القرن الماضي كانت الحلقة الفضاء المغربي الأساس، الذي نحج إليه لسرقة ابتسامة، أو تعلم فائدة، أو الاستمتاع بلحظة فرح. تنعقد الحلاقي عادة بعد العصر، وتستمر إلى الغروب يوميا. وكانت مناسبات رمضان وعاشوراء والأعياد الدينية والوطنية، تفسح المجال للحلاقي لتتشكل بدون تدخل من أعوان السلطة، الذين كانوا أحيانا يهجمون على الحلاقي لتفريقها.

كان جمهور الحلاقي من الحرفيين والمتقاعدين وكل الذين ينهون أشغالهم قرب العصر. وكانت النساء لا يجدن حرجا في وجود مكان لهن في هذا الفضاء الذكوري بامتياز. وكنا نحن الأطفال أول من يلتحق بالحلقة، وبنا ترسم دائرتها، بعد مطالبتنا بالجلوس.

قضيت شطرا مهما من حياتي في الحلاقي لقربها من الحي الذي ولدت فيه. فيها تعلمت أشياء كثيرة ما كان لي أن أعرفها لولا هذا الفضاء. وإلى الآن ما أزال أعيش مع فرسان الحلقة من خلال الذاكرة. هل أذكر: «زريويل» بجلابته السوداء، ورزته الصفراء، وبحته الدائمة. كانت حلقته عامرة أبدا. ونكته لا حد لها، وإلى الآن ما زلت أتذكر الكثير من النكت التي سمعتها منه.

متى يتم التعامــــل مع هــــؤلاء الفنــانين الشعبيين التعامل مع «الفنان»، وتكون له «بطاقة» تمنحه الحضور في وسائل الإعــلام، والتمتع بحقوق خاصة، باعتباره حامل تراث، والمحافظ على ذاكرة؟

وكل أقراني والمثقفين من جيلي لعبت الحلقة دورا كبيرا في تكوينهم، والتأثير في شخصياتهم، بل إن المسرح المغربي، وكل الفكاهيين العصريين إلى اليوم هم، بصورة أو بأخرى نتاج الحلقة، وإن كان الوصول إلى مستوى أبطالها، يتطلب الكثير من الصفات التي كانوا يتمتعون بها، بطريقة عفوية وصادقة.

لم يكن أي من أبطال الحلقة الذين لم يتمكنوا من تسجيل إنتاجاتهم في الأسطوانات يسمى فنانا. كان الاسم الغالب عليهم هو «الحلايقية». ولما كان الحلايقية أشكالا وألوانا، فراوي السير والقصص ليس بائع الأعشاب، أو ضاربة الفأل، أو صاحب حلقة الملاكمة، كان من يمتلك ذخيرة نصية من الغناء الشعبي، أو من المرويات الشعبية، أو من فنون الأداء اللفظي (النكت والنوادر) والحركي (التمثيل المسرحي) يستحق منا تسميته بالفنان الشعبي بامتياز.

زحف «المنعشون» العقاريون على الفضاءات العمومية الشعبية ليحولوها إلى سكن «اقتصادي»، بدل التفكير في إعطاء الساحة العمومية بعدا جديدا لممارسة الفرجة الشعبية، لكن وسائط التواصل الاجتماعي لعبت دورا كبيرا في استمرار تلك الفرجة عبر توثيقها وتعميمها بكيفية مغايرة.
الفنان الشعبي الذي ارتبط بالحلقة يحمل تراثا شعبيا، ويمتلك طريقة وتاريخا يتصل بالذاكرة الشعبية الجماعية.

إنه يزاول مهنة كرّس لها حياته، ويعرفه الناس من خلال هذا العمل الذي يقتات منه. إن الفنان الشعبي لا يعيش، كما يقول ويكرر دائما، إلا «مع الأجواد» الذين لا يبخلون عليه بالعطاء والحب. لا يكفيه ما يعطونه إلا ليواصل حياته. لكن كل رأسماله حب الناس له. هكذا كان لكريمي، وكل الفنانين الشعبيين المغاربة الذين تحتفي بهم الذاكرة الشعبية، عندما أدخل لكريمي إلى المستشفى لم يتكلف بمصاريفه إلا «الأجواد»، وهم من الشعب.

متى يتم التعامــــل مع هــــؤلاء الفنــانين الشعبيين التعامل مع «الفنان»، وتكون له «بطاقة» تمنحه الحضور في وسائل الإعــلام، والتمتع بحقوق خاصة، باعتباره حامل تراث، والمحافظ على ذاكرة؟

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى

You cannot copy content of this page