نقد

إتلاف الأدباء العرب القدامى لمؤلفاتهم: بحث في الأنماط والدوافع

عانى مجموعة من الكتاب، عبر التاريخ، من رقابة السلطة التي لجأت إلى طرق مختلفة لمنع تداول أفكار بعض الكتاب وآرائهم بدعوى أنها تمثل خطرًا على العقول، وقد اتخذ ذلك المنع صورًا مختلفة من بينها إيقاف طبع الكتب، ومصادرتها، وفي بعض الأحيان كانت الرقابة تتخذ شكل حذف فقرات أو فصول من الكتاب، وكان الأمر يتطور أحياناً أخرى إلى إتلاف جميع النسخ المطبوعة من الكتاب.

يعد إحراق الإمبراطور الصيني شي هوانج تي عام 212 ق.م مجموعة من الكتب الفلسفية والمعرفية من أقدم حوادث إتلاف الكتب. وإذا كان إحراق السلطة للمؤلفات أمرًا مبررًا بدعوى أن الأفكار التي تروجها بعض الكتب تشكل خطرًا على وجود السلطة أو تهديدًا لقيمها وأيديولوجيتها، فإن الأمر الذي يثير الانتباه هو إقدام بعض المؤلفين على التخلص من كتبهم بأنفسهم دون ضغط خارجي.

من المعلوم أن الإبداع عملية شاقة تتطلب من الأديب استثمار ملكاته ومواهبه الذاتية لكن هذه المؤهلات لا تسعف دائمًا على النظم والتأليف، وعن ذلك يقول الشاعر الأموي الفرزدق: “أنا أشعر تميم (عند تميم)

وربما أتت علي ساعة ونزع ضرس أسهل علي من قول بيت”(1).

 وإذا كانت عملية الإبداع تنطوي على مثل هذا الضرب من المعاناة، فما الذي قد يدفع الأدباء إلى إتلاف أعمالهم؟ وما الأنماط التي اتخذها ذلك الإتلاف؟


  • أولا: الغسل بالماء: 

أ‌- الانتقام للذات

يعد أبو العباس النامي المصيصي (ت 922هـ) من فحول شعراء العصر العباسي، وأحد أبرز الأدباء المقربين من الأمير سيف الدولة حيث كان يحتل المنزلة الثانية بعد المتنبي(2)، وقد أتاحت له هذه المنزلة حضور مجموعة من المجالس الأدبية في البلاط العباسي، وفي إحداها، ألقيت بين يدي سيف الدولة “القافية التي أولها: إن الخليط أجد البين فانفرقا… يعني من شعر زهير بن أبي سلمى، فأبدى استحسانًا لها، فقال له النامي المصيصي أبو العباس أحمد بن محمد الدرامي: أراك كلفًا بها، أفتحب أن أمدحك بخير منها، قال: نعم، أشد الحب، فلما كان بعد أيام لقيه راكبًا على نهر حلب المسمى قويق… فترجل ووقف عليه سيف الدولة، وأخذ ينشد قصيدة في غاية الحسن أولها:

ما أنت مني ولا الطيف الذي طرقا               

                                          رد الكرى واسترد مني الأرقا

فأراد سيف الدولة كياده والعبث معه، فأعرض عنه، وأظهر استنقاصًا لشعره، فقطع الإنشاد وسط القصيدة، وغسلها، فاحتمله سيف الدولة، ولم ينكر ما كان منه”(3).

تكشف هذه الرواية أن تمزيق الشاعر قصيدته ثم غسلها جاء نتيجة إعراض الأمير عن الاستماع إلى إنشاده، وتظاهره بعدم الاهتمام بالقصيدة رغم أنها جاءت في غاية الحسن. فما سبب إعراض الأمير عن الشاعر؟

استنادًا إلى النص السابق، يتبين أن النميمي لم يفكر في نظم قصيدته إلا بعد سماع قصيدة زهير التي طرب لها الأمير، وعندما اقترح النميمي معارضة تلك القصيدة بأخرى تفوقها حسنًا، أذن له سيف الدولة بل إن الأمير كان متلهفًا لسماعها وقتئذ لكن الشاعر لم يستجب فورًا للطلب، ويبدو أن ذلك ولد في نفس الأمير إحساسًا بالإحباط وخيبة الأمل؛ لأنه لم ينل مراده في الحين،

وقد تطور ذلك الإحباط إلى شعور بالحقد والكراهية، فظل الأمير يتحين الفرصة للانتقام لنفسه سيما أنها لم تكن المرة الأولى التي تخلف فيها المصيصي عن الاستجابة الفورية لطلب سيف الدولة؛ فقد روى أبو عبدالله الحسين الكاتب أن أبا العباس النامي كان “بطيء الخاطر ترتفع له القصيدة في سبعة أشهر أو أكثر، وتحدث الحادثة عن سيف الدولة من فتح أو هدية أو قصة أو عيد أو غير ذلك، فيعمل الشعراء وينشدونه في الحال أو بعد يوم أو يومين، فإذا كان بعد ثلاثة أشهر، أو أربعة أو سبعة أو أكثر بحسب ما ترتفع إليه، جاء واستأذنه في الإنشاد، فيكايده سيف الدولة ويقول له: في أي فتح و أي قصة؟ ولا يزال به، ويريه أنه نسي تلك الحال لبعدها توبيخًا إلى أن يكاد يبكي، فيقول: نعم هاتها الآن، وربما اغتاظ لطول العهد وخروج الزمان عن الحد فلا يأذن له أصلا” (4).

تشير رواية عبد الله الحسين أن سيف الدولة كان يوبخ المصيصي، ويكايده بسبب بطء شاعريته؛ فقد كان المصيصي يستغرق مدة طويلة-مقارنة ببقية الشعراء- في نظم شعره وتنقيحه(5)، ولم يكن يعرض قصيدته إلا بعد انصرام المناسبة ونسيان الخليفة لها، وبالتالي فغياب التناسب بين القصيدة والسياق الذي ألقيت فيه كان أهم سبب لغضب الأمير وعدم استحسانه لها.

إن تكرار الموقف السابق مرات عديدة جعل الأمير يفكر في تأديب الشاعر، فاغتنم سيف الدولة حادثة إلقاء المصيصي للقصيدة بين يديه قرب نهر قويق، وأبدى عدم اهتمامه بها، وهو ما جعل الشاعر يحس بجرح في كرامته أمام الحضور خصوصًا أنه استغرق وقتًا طويلاً في تهذيبها، وقد كان بإمكانه متابعة الإنشاد حتى إذا انصرف الأمير، مزق قصيدته أو غسلها لكنه فضل إتلافها فورًا أمام أنظار الأمير، وهو فعل ينطوي على نوع من التحدي والجرأة. واللافت للانتباه أن سيف الدولة لم يبد أي اعتراض أو أسف على إتلاف القصيدة رغم حسنها، وربما أنه تظاهر بذلك حتى لا يؤول أسفه على إتلاف القصيدة بأنه ضعف أمام الشاعر.

ب‌- الطهارة من الذنوب

يزخر التراث بأخبار لأدباء تخلصوا من كتبهم غسلاً بالماء اعتقادًا منهم بأنها الوسيلة الأنسب للتطهر من المعاصي، ومن أهم أولئك الأدباء:

• ابن أبي السعود أحمد بن اسماعيل بن إبراهيم (ت 458 هـ):

 هو أحد فقهاء القاهرة وقضاتها المشهورين، وقد عرف بورعه واهتمامه بالعلوم الدينية فضلاً عن ولعه بالأدب الذي برع “فيه وساد، وطارح الشعراء، وقال الشعر الجيد والنثر البديع المفرد واشتهر اسمه، وبعد صيته في ذلك”(6).

ويبدو أن تنسك أبي السعود، في آخر أيامه، دفعه إلى الزهد في الدنيا وأمورها بما في ذلك مجالسة الرؤساء، وبلغ به زهده أن “غسل جميع ما كان عنده من نظم ونثر بحيث لم يتأخر منه إلا ما كان برز قبل”(7)، وتشير بعض الأخبار إلى أن أبا السعود لم يقصد إتلاف شعره بل جاء ذلك نتيجة سهو وخطأ؛ فقد اتفق أن ابن أبي السعود” جمع أوراق نظمه ثم أفرد منها ما لا يرتضيه ليغسله، ففاجأه بعض أصحابه فقام لتلقيه، وأمر بعض من عنده بغسل الأوراق التي عن يمين مجلسه، فاشتبه الأمر عليه بحيث غسل ما كان يجب بقاؤه، فلما عاد سقط في يده وغسل الباقي”(8) أي أن الشاعر كان يعتزم التخلص من القصائد التي لم يكن راضيًا عنها، فلما رأى أن الشخص الذي كلفه بهذه المهمة أخطأ حيث أبقى على القصائد الرديئة، وأتلف القصائد الجيدة، لم يجد أبو السعود بدًا من التخلص أيضًا من القصائد المتبقية.

• الحسين عاصم (ت 483):

 هو أحد أئمة بغداد وعلمائها، اشتهر بزهده وورعه، كان “أديبًا فاضلاً، رقيق مليح الطبع”(9). وقد ورد في بعض الأخبار أنه عندما مرض في آخر حياته غسل ديوان شعره.(10)

• أبو بكر محمد التميمي السمعاني (ت 510 هـ):

أحد أئمة خراسان، “كان فقيها شافعيًا إمامًا فاضلاً مناظرًا محدثًا، وله الإملاء الذي لم يسبق إلى مثله… وله شعر حسن إلا أنه غسله قبل موته”(11).

• محمد بن عمر بن مكي المعروف بابن وكيل (ت 716هـ):

 أحد أئمة الشافعية في زمانه، عرف بثقافته الموسوعية وبذاكرته القوية؛ فقد “حفظ المقامات الحريرية في خمسين يومًا، وديوان المتنبي في أسبوع”(12)، كان شاعرًا سريع البديهة، بارعًا في النظم حتى قيل إن “الأدب قد امتزج بلحمه ودمه”(13).

ترك ابن وكيل ديوانًا واحدًا بعنوان “طراز الدر”، وقد روى” جماعة ممن كان يعاشره في خلواته أنه كان إذا فرغ، توضأ ولبس ثيابًا نظافًا، وصلى ومرغ وجهه على التراب، وتضرع في طلب التوبة والمغفرة، وكان إذا مرض غسل ما نظمه من الشعر”(14).

ج- الشعور بالنقص

• أبو الحسن بن عنتر الحلي الأديب (ت 601 هـ):

هو أديب له مؤلفات عديدة من بينها اللَّماسة في شرح الحماسة(15). كان يحتقر الأدباء القدامى، وفي مقدمتهم أبو تمام وأبو العلاء وامرؤ القيس، وقد روى ياقوت الحموي أنه عندما حل بمدينة آمد بالعراق قصد مسجد الخضر حتى إذا دخل على الشيخ سأله قائلاً: “يا مولانا قد عجبت إذ لم تصنف مقامات تدحض بها مقامات الحريري، فقال لي: يا بني اعلم أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، عملت مقامات مرتين فلم ترضني فغسلتها، وما أعلم أن الله خلقني إلا لأظهر فضل ابن الحريري”(16).

  لم يعرض شميم الحلي مقاماته على أي قارئ ليبدي رأيه فيها، فكان بذلك القارئ الوحيد لعمله، وقد كان شعوره بالدونية سببًا في عدم احتفاظه بمسودات المقامات التي ألفها، وفضل عوض ذلك التفرغ لشرح مقامات الحريري التي عدها نموذجًا لا يمكن معارضته أو التفوق عليه.

  • ثانيًا: الحرق بالنار

 يعد أبو حيان التوحيدي (ت 414 هـ) الأديب الوحيد في التراث الذي أحرق كتبه، وصفه ياقوت الحموي “بشيخ الصوفية وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة”(17)، له مؤلفات عديدة أشهرها الهوامل والشوامل، البصائر والذخائر، الامتاع والمؤانسة.

مر أبو حيان بمجموعة من المحن في حياته؛ فقد عانى الوحدة والغربة، واشتكى من عدم تقدير الناس له، واتهمه البعض بالزندقة، وانتهى به المطاف في آخر حياته إلى إحراق كتبه لكن الغريب أنه استشهد في أحد كتبه بعبارة لأبي جعفر بن محمد يقول فيها: “حافظ على الصديق ولو في الحريق”(18).

فلماذا لم يحافظ التوحيدي على كتبه- أعز الأصدقاء- من الحرق؟

كشف التوحيدي عن الأسباب التي دفعته إلى التخلص من كتبه في رسالة وجهها إلى صديقه القاضي أبي سهل، وفي بداية تلك الرسالة نبه الكاتب مخاطبه إلى أنه استخار الله مدة طويلة قبل الإقدام على حرق كتبه، وأنه رأى، وهو نائم، إشارة إلهية تؤيد قراره المذكور(19). ولم تكن الرؤيا التي رآها التوحيدي السبب الوحيد الذي دفعه إلى إتلاف كتبه بل وجدت مبررات ذاتية، ذكرها في نفس الرسالة، وأهمها:

– أن كتبه لا تحتوي على علم دنيوي أو ديني قد ينتفع به الناس.

– أن نيته من التأليف كانت بلوغ الرياسة ونيل الحظوة والشهرة لكنه أدرك في نهاية حياته أنه أمر مرفوض من الناحية الدينية؛ لأن عمله لم يكن خالصًا لله.

– أنه كان وحيدًا بلا أهل ولا أصدقاء، ولذلك خاف أن تنتهي كتبه إلى قوم جهلاء لا يقدرون قيمتها.

– أن إتلاف الكتب ليس بدعة؛ فقد سبقه بعض العلماء والفقهاء إلى ذلك مثل أبي عمر وابن العلاء وداود الطائي.

ويمكن أن نضيف إلى الأسباب السابقة سببًا آخر أشار إليه بيير برتراند الذي يعتقد أن أي كتاب – كيفما كان مجاله – ينطوي في ذاته على نزعة للحرق، وأن هذه النزعة تنتقل – لا شعوريًا- إلى القارئ (20)، ولما كان التوحيدي أول قارئ لكتبه، فإن نفسه – ربما – قد تشربت تلك النزعة لإتلاف كتابه.

ذكر التوحيدي في الرسالة السابقة أيضًا أنماط أخرى لتخلص الأدباء والعلماء من كتبهم، فذكر التمزيق والإلقاء في البحر والدفن، واختيار التوحيدي النمط الأول لا يخلو من دلالة في الثقافة العربية الإسلامية؛ فمن المعلوم أن النار-غالبًا- ما اقترنت في القرآن الكريم بالعذاب الذي سيلقاه الكفار في الآخرة أي أن النار ذات صبغة عقابية (21) لكنها في حالة التوحيدي اكتسبت –على غرار العينة الأولى من هذه الدراسة– صبغة تطهيرية.

وهذا الدور التطهيري للنار ليس اعتقادًا خاصًا بالثقافة الإسلامية؛ فبعض الطوائف المسيحية الأندلسية تبنت الاعتقاد نفسه، وتأثرت به، فعمد أنصارها، بعد سقوط الأندلس، إلى تجميع كتب اليهود، وأحرقوها (autodafé)، لإجبارهم على اعتناق الكاثوليكية” وإلا كان نصيبهم هم أيضًا التطهير بالنار بإحراقهم أحياء في الميادين العامة، أو إضرام النار عليهم في بيوتهم”(23).

ولذلك يمكن القول إن اختلاف وسيلة التخلص من الكتب لا يعني اختلاف الهدف؛ فالإتلاف، حرقًا أو غسلاً، تعبير رمزي عن تطهر الأديب من وزر الشعر.

  • ثالثًا: التمزيق أو الخرق  

يعد عبدالرحيم البيساني المعروف بالقاضي الفاضل (ت 596 هـ) أبرز الشخصيات المقربة من السلطان صلاح الدين الأيوبي، وإلى جانب السياسة، كان القاضي الفاضل أديبًا بليغًا “انتهت إليه براعة الترسل وبلاغة الإنشاء، وله في ذلك الفن اليد البيضاء والمعاني المبتكرة والباع الاطول، لا يدرك شأوه ولا يشق غباره(24)، وقد فكر هذا الأديب في معارضة مقامات الحريري والنسج على منوالها،” فصنع ثلاث عشرة مقامة عارض كل فصل بمثله، حتى إذا جاء إلى قول الحريري في المقامة الرابعة عشرة: اعملوا يا مآل الآمال… فحبذا الموت الأحمر، فقال الفاضل: من أين يأتي الإنسان بفصل يعارض هذا؟ ثم إنه قطع ما كان عمله من مقامات ولم يظهر”(25).

كان بإمكان القاضي الفاضل، بعد شعوره بالعجز، الاحتفاظ بما كتبه لعرضه على الناس لكنه أدرك -في قرارة نفسه- أن مقاماته الثلاث عشرة لن يكتب لها النجاح في الساحة الأدبية، وأنها لن تبلغ شهرة مقامات الحريري، ولذلك فضل التخلص منها.

وقد بإمكانه –على الأقل– الاحتفاظ بمسوداتها حتى إذا أسعفته قريحته، في يوم من الأيام، أتم تأليفها لكنه قرر إتلافها؛ لأنها كانت تثير في نفسه الشعور بالدونية والعجز، وربما اعتقد أن الاحتفاظ بها سينتهي ربما، في يوم ما، بالعثور عليها، فينكشف بذلك فشله، ومن تم كان إتلاف المسودات أفضل طريقة لمحو التجربة الفاشلة.

لقد كان شعور القاضي الفاضل بالعجز والنقص مترسخًا وعميقًا في نفسه، وهو ما عكسته إحدى رسائله التي بعث بها إلى العماد الأصفهاني، والتي فيها يقول: “إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابًا في يومه إلا قال في غده لو غير هذا لكان أحسن ولو زيد هذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا لعمري من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر”(26).

  • رابعًا: طرق مجهولة

كان أحمد بن إبراهيم بن محمد بن خليل الحلبي (ت 884 هـ) فقيهًا محدثًا “سمع وكتب، وجمع مجاميع، وتولع بنظم الفنون حتى برع في الأدب”(27). من مؤلفاته كنوز الذهب في تاريخ حلب وكتاب التوضيح لمبهمات الجامع الصحيح، أما كتبه الأدبية فلم يصلنا ي منها، ويتعلق الأمر بكتاب “عروس الأفراح فيما يقال في الراح، وعقد الدرر واللآل فيما في السلسال، وستر الحال فيما قيل: في الخال، والهلال المستنير في العذار المستدير، والبدر إذا استنار فيما يقال في العذار”(28).

ولم تشر الروايات التاريخية التي وثقت الإتلاف إلى الطريقة التي تم بها، ولم تذكر أيضًا الأسباب التي دفعت صاحبها للتخلص منها لكن المرجح أن زهد الكاتب في آخر أيامه كان أحد أبرز العوامل لانصرافه عن الاشتغال بالأدب، واهتمامه بالعلوم الدينية فقط حيث أنه أدمن قراءة الصحيحين ومطالعة كتاب الشفا(29).

  • خاتمة

 كشف إتلاف الأدباء العرب القدامى لكتبهم أنه كان فعلاً تلقائيًا؛ إذ لم يتعرضوا لأي ضغط خارجي، وكان ذلك الإتلاف فعلاً رمزيًا ذا وظيفة “تطهيرية” لكنه تطهير مخالف لذلك الذي تحدث عنه أرسطو فن الشعر(31)؛ فإذا كان الأدب (الشعر التراجيدي) يساعد -حسب الفيلسوف اليوناني – على تطهير النفس من الانفعالات السلبية، ويسمح لها باسترجاع توازنها، فإن إحراق الأدباء العرب القدماء لمؤلفاتهم كانت الغاية منه هي تطهير المؤلف من الشعور بالذنب.

 لقد ظل ينظر إلى الأدب، خصوصًا الشعر، لدى فئة من النقاد والفقهاء على أنه ممارسة “لا أخلاقية” تشغل الفرد عن العلوم النفعية (الدينية) التي من شأنها ان تعود بالنفع على الإنسان في الدنيا والآخرة، ومن هنا شكل إتلاف الكتب الأدبية، بأنواعه المختلفة، تعبيرًا عن توبة المؤلف، وتبرؤه من الأدب.


  • الهوامش:

1 – ابن قتيبة الدينوري: الشعر والشعراء، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، د.ت، د.ط، ج 1، ص 81.

2 – أبو منصور عبد الملك الثعالبي النيسابوري: يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، شرح وتحقيق مفيد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، ط.1، 1403هـ – 1983م، ج 1، ص 279

3 – ابن العديم: بغية الطلب في تاريخ حلب، حققه وقدم له سهيل زكار، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، د.ت، د.ط، ج 1،

ص 1087.

4 – صلاح الدين خليل الصفدي: الوافي بالوفيات، حققه وعلق عليه أبو عبدالله جلال الأسيوطي، دار الكتب العلمية، ط 1، 2010، ج 6، ص 245.

5- يمكن تصنيف المصيصي ضمن عبيد الشعر، وهم الشعراء الذين كانوا يتعهدون قصائدهم بالمراجعة المستمرة قبل عرضها على الناس مثل زهير بن أبي سلمى والحطيئة، وكانت قصائدهم تعرف أيضا باسم الحوليات نسبة إلى الحول أي العام، ويقال إن زهير كان ينظم القصيدة في شهر ويهذبها في سنة.

6 – شمس الدين محمد عبدالرحمن السخاوي: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، دار الجيل – بيروت، ط.1، 1412هـ- 1992م، ج1، ص 232.

7 – نفسه، الصفحة نفسها.

8 – نفسه، ص 233.

9 – ابن العماد العكري الحنبلي الدمشقي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، حققه وعلق عليه محمود الأرناؤوط، دار ابن كثير، دمشق – بيروت، ط.1، 1410هـ-1989م، المجلد الخامس، ص 353.

10 – نفسه، الصفحة نفسها.

11 – عز الدين ابن الأثير الجزري: اللباب في تهذيب الأنساب، تحقيق محمد الرجب، مكتبة المثنى – بغداد، ط.1، 1425هـ 2004م ج1، ص 13.

12 – الوافي بالوفيات، مرجع سابق، ج3، ص 327.

13 – نفسه، الصفحة نفسها.

14 – نفسه، ص 336.

15 – ياقوت الحموي: معجم الأدباء (إرشاد الأريب إلى معرفة الاديب)، تحقيق إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، ط.1، 1993، ج 1، ص1696.

16 – نفسه، ص 1992.

17 – نفسه، 1924.

18 – أبو حيان التوحيدي: الصداقة والصديق، تحقيق ابراهيم الكيلاني، دار الفكر، بيروت – لبنان، ط.2، 1998، ص 68.

19 – ياقوت الحموي: معجم الأدباء، مرجع سابق، ج 5، ص 1929.

 – 20 Bertrand Pierre: L’art et La Vie ,Montréal : Liber, 2001, p. 72

21 – من الأمثلة على ذلك: سورة التوبة، الآية، 35 – سورة الحج، الآية 19 – سورة الطور، الآية 13.

22 – حسن ظاظا: اليهود في إسبانيا الإسلامية، مجلة الفيصل، ع 216، (نوفمبر – ديسمبر) 1994، ص 39.

23 – شمس الدين الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق بشار عواد معروف ومحيي هلال السرحان، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1 ،1984، ج 21،  ص 339.

24 – الصفدي صلاح الدين: نصرة الثائر على المثل السائر، تحقيق وتقديم محمد علي سلطان، دار العصماء، دمشق، ط.1، 2015، ص 60.

25 – صديق خان القنوجي: أبجد العلوم في بيان أحوال العلوم، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، د ط، 1978، ج 1، ص 71.

26 – جلال الدين السيوطي: نظم العقيان في أعيان الأعيان، حرره الدكتور فيليب حتى المكتبة العلمية، بيروت – لبنان، د.ط، 1972، ص 30.

27 – الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، مرجع سابق، ج 1، ص 198.

28 – نفسه، الصفحة نفسها.

29 – أرسطو طاليس: فن الشعر، ترجمة وتقديم وتعليق ابراهيم حماده، د ت، د ط، ص 95.

 


د. عادل أيت العسري – المغرب

 

عادل أيت العسري

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى