خطاب الهوية :حفريات في التشكيلة الفكرية
تدوين السيرة الذاتية والاسترسال في استعادة المراحل التي اختبرها المرءُ على مدار حياته محاولةُ لفتح قنوات التواصل مع أزمنةٍ شكلت بمفاعيلها الاجتماعية والسياسية والحضارية مواصفات شخصية للفرد المقيم في عصره.
وقد يكون الدافعُ للعودة إلى الماضي وفتح أدراجه هو مايعيشهُ الإنسانُ من انعطافة على مستوى الزمن البايلوجي، وبالتالي قد يداهمهُ الشعور بالاغتراب عن واقعه، ويدركُ حقيقة محدودية فرصته الوجودية أكثر وربما يكونُ التحولُ من بيئة إلى أخرى يضعُ المراقبَ أمام إشكاليات تثيرُ جملة من الأسئلة بشأنِ حيثيات التكوين، والنشأةِ.
يستمدُ الخطابُ خصوصيته في المرويات السيرية ليس من تعجين مادته وتضفيرها بماهو المشتركُ بين الروايات المتعددة بل بالحفر في طبقات الذات والاستبطان لهواجسها المزمنة، ورصد للأطوار التي شهدها الفكرُ خلال عراكه مع الوقائع المختلفة يعلن النصُ عن تفرده.
لعلَّ البعد الفكري في السيرة يتمثلُ بالوضوح لهذا المنحى المتفرد في صياغة المحتوى.ومايهمُ المتابعُ لمسيرته الفكرية هو الإبانة عن تطوافه بين المآدب المعرفية وماجربهُ من التماهي والانفصال في علاقته مع المفاهيم والمنحوتات المعبرة عن الأهواء المتفرقة قبل أن يقعَ العقلُ على ما يستجمعُ به الأهواء.
يقولُ شكري مبخوت في كتابه “أحفاد سارق النار”أنَّ السيرة الفكرية هي فعلاً سيرة ذاتية غير أنَّ النوع الأول يقومُ على المعطيات الفكرية يمكنُ وصفها بالموضوعية ومعنى ذلك أنَّ السيرة الفكرية لايكونُ خطها إلا انتقائياً فيما تتحركُ السيرة غير الفكرية باتجاهات مُتشعبة.
لذلك يختارُ المفكر اللبناني علي حرب عبارة مركبة “خطاب الهوية” عنوانا لمرويته مضيفا إلى العتبة الأولى مايؤكدُ الاشتغال على طبقات فكرية والتأمل في مكوناتها الموروثة والمُكتسبة.
- لحظة حاسمة
تكرُ حبة الذكريات في الذهن مع الادراك بوجود اللحظة المفصلية في الحياة ومن المعلوم أن الانتقال من بيئة إلى آخرى هو المحركُ للتأمل في المسارات والمُنعرجات التي تنهضُ عليها المادة السيرية.
إذ يشيرُ علي حرب إلى حيثيات الواقع الذي بادر فيه بكتابة سيرته الفكرية “قد شرعتُ في كتابتها على وقع المعارك التي أكرهتني على مغادرة بيروت إلى مدينة لارنكا في قبرص 1984” مُضيفاً أنَّ ما سطرهُ لم يكن صادراً عن تخطيط مسبق.
وهذا يعني أنَّ الذاكرة تتداعى صورها طليقةً. وما تنفكُ الأسئلة الناتجة عن المقارنة بين وسطين تأخذُ بتلابيب المغترب. أكثر من ذلك يحددُ صاحب “الحقيقة والتأويل” الغرضَ من مشروع الكتابة السيرية فبرأيه أنَّ مايرويه المرءُ من خلال المجازات اللغوية والكيانات اللفظية يفتحُ إمكانية التحول والإضافة إلى رصيده الفكري والوجداني كما أنَّ الخطاب الذي يتمُ انشاؤهُ حول المعطيات الوجودية يصبحُ واقعة تتركُ أثرها في مجرى الواقع.
ويصرفُ علي حرب عملةَ ماركيز اللفظية “عشت لأروي” صاكاً منها ما أبانَّ عن الرغبة من الإبدال بين المفردتين من حيث الوظيفة والغاية “نروي لنعيشَ” ولاتنتهي كلمة المقدمة دون أن تستشفَ عن أهمية الافتراض الذي يطرحه علي حرب إذ لو تيقضَّت له الفرصةُ لاستئناف الكتابة عن حياته من جديد لاختلفت الآليات وزادَ عنده الحسُ التفكيكي.
يفتتحُ القسم الأول من وحدات السيرة بعبارة ماكرة “الفرار من الذات” هل نفهمُ من الكلام أنَّ المؤلفُ يريدُ إلغاء ماشكلَ مقومات تكوينه الأولى ؟هل تعدُ بيئة المُغترب بفتح صفحة جديدة للحياة؟ إلى أي مدى تدفعُ القطيعة على المستوى المكاني إلى حدوث مايوازها في الفكر والرؤية؟ بالطبع أنَّ الاستمرار في القراءة هو مايضعك بوجه ماتبدل وتغير في صورة الذات.
يتسترُ المؤلفُ وراء ضمير الغائب وذلك ما يفصلُ بين الذات الكاتبة والمادة المسرودة كأنَّ من يروي ليس الشخص المتحدث عنه وباطن الأمر أنهما شخص واحد ذو وظيفتين على حد تعبير “شكري المبخوت” يلتفتُ الرواي من البداية إلى احتدام الصراع على تراب بلد الهارب بين الأطراف المتعددة ملمحاً إلى عدم اندماج المروي عنه مع الأوساط المالكة لبطاقات القوة.
عليه يسترسلُ السردُ ويتم الإعلان عن جانب آخر من شخصية المهاجر وهو القدرة على قراءة الإشارات لذلك ما أن يستفتي قلبه عن أوضاع بلده مستقرئأً التطورات حتى يتخذ قرار الهجرة ولايقتنع بالرأي الذاهب نحو التفاؤل بالآتي غير أنَّ الذاكرة لاتتبعُ الجسد في مفارقته للمكان.
يقولُ المؤلفُ ” أنَّ التذكر أشدُّ الأفعال التصاقاً بالذات وأدلها على حقيقة الوعي” والحال هذه فمن الطبيعي أن تحاصره أطياف مدينته “بيروت” في الغربة.والسؤال يحومُ حول مدى الأحقية بهجر الأصدقاء والصحف ومرابع الصبا.
ولاتفوت الراوي الإشارةُ إلى ماخلفته التدخلات من التشرذم في بيروت،لكن ما استتاب الوضع لأعتى القوة ولأعظم الدول في تلك المدينة المتفردة بتكوينها الجغرافي وتركيبتها السكانية المتعددة وهويتها الثقافية المرنة.
فبيروت ليست مجرد بقعة جغرافية بل هي قيمة حضارية تميزت بانفتاح قلَّ نظيره قبل الحرب فكانت نقطة وصل بين عوالم وقارات ومجالاً لتفاعل الثقافات مايقولهُ علي حرب عن مدينته الأثيرة يذكر بكلام غادة السمان التي رأت بأنَّ مايوجد في بيروت لاتسعه قارةُ.
ومايلفت نظر المغترب هو الهوة الفاصلة بين المعتقد والسلوك لدى أبناء ملته.فالصيامُ على سبيل المثال لايكون ترويضاً للنفس الأمارة بالسوء بل يؤجج الجشع أكثر بحيث يكون قانون السوق يعلو على أحكام الشرع.
تسودُ في بلده قيم الإيثار والنخوة غير أنَّ ذلك لم يؤدِ إلى التغلب على الكراهية والحسد فيما في مقام الهجرة بدت له روابط الاجتماعية متفككة غير أنَّ الإنسان لايكنُ مشاعر الضغينة لنظيره.
وكان الواقع المنفتح في مقام الغربة قد حدا به لمحاولة استجلاء خطاب الجنس في الشريعة.إذن كانت الغربة مساحة للمراجعة واعادة تقييم القيم بالنسبة ل”علي حرب“.
- مستندات التفوق
فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يجبُ عليه أن يتفوق على نفسه برأي “نيتشه” لكن هل يمكنُ له فعلا أن يراقب نفسه ويحددُ مستندات تفوقه ؟ ربما أنَّ هذه العملية دونها التحديات الجسيمة وتأتي المصاراحة مع النفس في المقدمة.
وإذا طلبت من أي شخص أن يتسعيد تفاصيل يوم يعتبره نموذجياً في حياته تراه يتعثرُ في تحديد صورة واضحة لمكوناته يومه.
مايزيدُ من أهمية السيرة الفكرية ل”علي حرب” هو تمكن الأخير من سبر اغوار شخصيته وتشخيص الأوروام الفكرية والعقائدية المتفشية في الأذهان كما أنَّه قد تعمقَ في ماينساقُ وراءَه الجمهورُ من الأصنامِ والرموز، والمفاهيم الاصطفائية.
يطالُ نقدُ المؤلف تمظهرات الحضارة الحديثة والإنسان المُعاصر فبنظره لم يعد الغرضُ من الانتاج المنفعة والراحة ،ولاهو يبني تعبيراً عن جمالي أو ميل غرائبي إنما الهدف من الانتاج هو مراكمة الثورة والتكاثر ويلمحُ علي حرب في مفاصل نصه السيري إلى نشأته في بيئة مطبوعة بالتدين لكنه يختارُ الفلسفة حقلاً لاختصاصه.
ويفلحُ من خلال آليات التفلسف من تفكيك سلسلة إكراهات دينية إلى أنْ يرى في المسلك الصوفي نهجاً أمثل للحياة طبعاً قد اتخذ علي حرب طريق التصوف ليس بنسخة تقليدية بل بوصفه مجاهدة للنفس تسوية لنتوءات السلوك والأهواء.
كه يلان محمد – العراق.