الكتاب: “(محمد الأوروبي): تاريخ التمثيلات الغربيّة للنبي ”
المؤلف: جون تولان
الناشر: ألبان ميشال
تاريخ النشر: 26 سبتمبر 2018
اللغة: الفرنسية
عدد الصفحات: 448 صفحة
الرقم المعياري الدولي للكتاب:
ISBN-13: 978 -2226326966
- تقديم:
منذ قرون وصورة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الكتابات الغربية تثير الكثير من الجدل حيث تتناولت معظم الكتب الغربية سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) من خلال المراجع الغربية من دون تمحيص أو تدقيق، ودون أحكامها في الكتابات العربية الكلاسيكية، فكان من نتائج ذلك أن قدمت تلك الكتب للقراء الغربيين صورة نبي الإسلام على نحو مشوش ومشوه.
وهذا ما يبينه الباحث “جون” تولانJohn V. Tolan ، الفرنسيّ من أصل أميركيّ المتخصص في تاريخ القرون الوسطى، في مؤلَّفه الضخم الذي صدر حديثًا في باريس (عن منشورات ألبان ميشال) بعنوان: “محمّد الأوروبيّ: تاريخ التمثيلات الغربيّة للنبيّ Mahomet l’Européen. Histoire des représentations du Prophète en Occident (Albin Michel, 450 p.
يعد “جون تولان” مدير برنامج Relmin، وهو مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي، ومن مجلس البحوث الأوروبي مع عدد من التحديات والقضايا المقترحة، مثل دراسة “الوضع القانوني للأقليات الدينية في منطقة البحر الأبيض المتوسط (القرنان الخامس والخامس عشر)”. ا
لغرض من مشروع Relmin هذا هو إرشاد الباحثين الشباب وطلاب الدكتوراه، إلى التغلب على الحواجز بين التخصصات والتقاليد العلمية المذهبية، لإثراء المناقشات الاجتماعية بمعرفة التاريخ الطويل للتعايش الديني(1).
- صور وتمثيلات “ماهوميت” من قبل الغربيين:
يقول المؤلف “جون تولان” إن كتابه لا يدور حول محمد نبي الإسلام، بل عن “ماهوميت”، أي الشخصية التي تخيلها ورسمها كتاب أوروبيون غير مسلمين بين القرنين الثاني عشر والحادي والعشرين. ويميز تولان في كتابه بين اسم “محمد” الذي يستخدمه لتناول النبي في المصادر التاريخية والتقاليد الإسلامية، وبين مختلف طرق الهجاء المشوش لاسمه الموجود في اللغات الأوروبية، مثل “ماهوميت” والتي كانت تتحول من صفحة إلى أخرى: (Mahomet) ،(Machomet) ،(Mathome) ،(Mafometus) (Mouamed) ،(Mahoma).
موضوع هذه الصورة البانورامية هو “ماهوميت”، وليس محمدًا، ويبدو الفارق دقيقًا. في الحقيقة، هناك طريقتان لتسمية النبي الذي يميز بها “جون تلان” الشخصية التاريخية عن الشخصية التي يراد محاصرتها، والتي يتم تشويهها في كثير من الأحيان، ولكنها كانت تتوخى في بعض الأحيان على نحو إيجابي من قِبَل الأوروبيين. وهي ثاني هذه الشخصيات. أما فيما يتصل بتحديد هوية هذا الغرب، فمن الواضح أنها أوروبا غير مسلمة (على الأقل حتى القرن العشرين). (2)
ورغم أن الكاتب خصص عمله لصور النبي في الثقافة والأدبيات الغربية، فإنه يحاول أيضًا -فيما يبدو خروجًا عن موضوع الكتاب- أن يتناول صورة النبي في المصادر الإسلامية والسيرة، ودخل في كتابه في نقاش حول سيرة النبي في القرآن والسنة النبوية والمرويات.
ويشدد الكاتب على أنه يتناول الصور الأوروبية عن نبي الإسلام وليس التصورات المسيحية، معتبرًا أن الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية الأوروبية هما فرعان فقط للدين المسيحي الذي يضم أيضًا الطوائف السريانية والقبطية واليونانية والأرمنية والإثيوبية وغيرها، مشيرًا إلى أن الكنائس “الشرقية” لها تاريخ غني من التواصل الطويل والوثيق مع الإسلام وعلومه، ولم يتعرض في كتابه لهذه التصورات التي وصفها بالرائعة كونها خارج نطاق دراسته، على الرغم من أنه أشار لكون أعمال المسيحيين الذين يكتبون باللغتين اليونانية والعربية مؤثرة في أوروبا الغربية.
كما أن العديد من الأوروبيين الذين تناول المؤلف كتاباتهم لم يعرّفوا أو يقدموا أنفسهم كمسيحيين، ومنهم يهود أو ملحدون.(3)
يدرس الفصل الأول تمثيلات محمد كمعبود، وهو موضوع مفترض لا يمكن إلا أن تكون علاقة له بطقوس الوثنية أو حتى عبادة القديسين لدى المسيحيين: وكانت هذه العروض مهيمنة في وقائع الحروب الصليبية أو القصيدة الملحمية، قد استمرت حتى في احتفالات فالنسيا fiestas valenciennes في القرن العشرين.
يقدم لنا “جون تولان” قراءة مختلفة عن “ماهوميت”، والتي ينظر إليها من خلال تاريخ من تمثيلات النبي في الغرب، وهو تفكير مرده خبرة طويلة كباحث. يبدأ “جون تولان” بالتذكير بحلقة مبنية على أساس تأريخ القرن الخامس عشر، وهو “نبي مزيف”، لتوضيح إدانة النبي الزائف، من أجل تبرير اخضاع المسلمين في إسبانيا لمسيحي قشتالة.
فقد عمد حاكم مدينة “خاين” Jaén إلى محاكاة معركة سنة (1462)، حيث طلب من مائتي مقاتل أن ينقسموا إلى مجموعتين، إحداهما تموه نفسها على أنهم عرب بالزي الرسمي و لحية مستعارة. استنادًا إلى دافع زائف كتبه القائد الأعلى للقوات الملكية “دون ميغيل لوكاس دي إيرانزو” don Miguel Lucas de Iranzo الذي يقول على لسان الممثل المزيف لملك المغرب،
والذي يقود جيش “العرب” أن المعركة يجب أن تخاض لأن سكان مملكة غرناطة اشتكوا من عدم حماية النبي محمد. لذا فإن الممثل المزيف لملك المغرب “جاء ليتوافق مع الشريعة المسيحية ويقترح مواجهة بين الفرسان المغاربة والمسيحيين”. استغرقت المعركة ثلاث ساعات من المبارزة مما أدى إلى نتيجة يمكن التنبؤ بها وهي هزيمة الجيوش المغاربية والفارس الذي يجسد ملك المغرب يقول:
“لقد ربحتم، لأن إلهكم ساعدكم على الفوز، لذا فإنني ومن معي من العرب نرتد ونتنصل من نبينا محمد وكتب الشرائع التي أحضرتها معي …”.
وهكذا “شوه فقهاء القانون والتأريخ نبي الإسلام ليضفوا الشرعية على غزو الأراضي الإسلامية وإذعان الرعايا المسلمين إلى سلطة الملوك المسيحيين”. (4)
- صورة ديلاكروا:
يقدم المؤرخ مثالاً آخر على تمثيل الغربيين في “ماهوميت” برسم يوجين ديلاكروا، “ماهوميت وملكه” رسم من اللون المائي من القرن التاسع عشر (محفوظ في متحف اللوفر، باريس) وهي دراسة لسقف مكتبة قصر بوربون، مقر الجمعية الوطنية في باريس و palais-Bourbon, siège de l’Assemblée nationale à Paris لكن المشروع لم يتم الاحتفاظ به.
يلاحظ في هذا الرسم، محمد يجلس على درجة سلم، يرتكز مرفقه على قاعدة عمود، في وضع يبعث على النوم أو التأمل. بالنسبة لـ”جون تولان” الصورة غامضة لأنه من الصعب العثور على أفضل تفسير ولكن الصورة التي أخذت لـ”ماهوميت” تبدو هادئة وليست عدوانية. (5)
من هذين المثالين، يظهر المؤرخ أن شخصية “ماهوميت” للغربيين هي قبل كل شيء موضع سحر أو إعجاب، وأنها تحتل مكانًا أساسيًا في الخيال الأوروبي. “لقد ولّد بدوره الخوف أو النفور أو الانبهار أو الإعجاب، ولكن نادرا ما ولد اللا مبالاة”.
صور وتمثيل “ماهوميت” في العصور الوسطى من قبل الغربيين: بين الوثنية والهرطقة
في الفصل الثاني يحلل “جون تولان” صورة أولى من أغنية أنطاكية la chanson d’Antioche في نهاية القرن الثالث عشر، والتي تروي الاستيلاء على المدينة خلال الحملة الصليبية الأولى، التي تم الاحتفاظ بها في المكتبة الوطنية الفرنسية BNF في باريس، ويظهر “سانسادوان” Sansadoine وهو جنرال عربي مهزوم، يهم بقتل معبوده “ماهوميت”. تظهر الصورة العرب مأخوذين بعبادة “ماهوميت”، الرسم تم إدراجه في الحرف الأول من ماهوميت M.
يمكن أن نرى على يسار الرسم ملوكًا عربًا، وعلى يمينه “ماهوميت” ممثلا في شكل تمثال هاجمه فارس. هذا التمثيل هو استحضار الخيال في العالم اللاتيني لانتصار الصليبيين على دين العرب مع رمزية تدمير الأصنام. في الجزء الأيسر من الرسم، يُصور الملوك المسلمون كملوك مسيحيين ذوي رؤوس متوجة، وأيدي مشدودة نحو “ماهوميت” وقد صور عاريًا وعلى شكل تمثال ولكنه متلف.
يفترض “جون تولان” عملا طوعيا من قبل قارئ معاصر لأغنية أنطاكية أو في وقت لاحق. هنا يتم تحدي “ماهوميت” وهزيمته.
من خلال هذا المثال، يبين المؤرخ كيف يُنظر إلى الإسلام على أنه عبادة أوثان ويمثل “ماهوميت” كواحد من الآلهة الرئيسة للمسلمين. هذه الصورة لـ”ماهوميت” هي سمة من سمات العديد من الوقائع التي تحكي قصة الاستيلاء على القدس من خلال تصوير العدو على أنه وثني، صورة شبيهة بطقوس الوثنيين في اليونان القديمة وروما، لكن من المفارقات أن هذه الصور تشبه أيضا عبادة القديسين المسيحيين.. يقول “تولان” في كتابه: “إن عري المعبود يذكر بوضوح التماثيل الوثنية للعصور القديمة اليونانية الرومانية. ويمكن أيضًا أن تستخدم لتمييز هذا المعبود عن تماثيل القديسين الذين قد احتلت نفس المكان في مشهد من الإخلاص المسيحي”.(6)
بعد هذه الإضاءة الأولى من التمثيل المشوه عمدا في القرون الوسطى، يقدم لنا المؤرخ رؤية أخرى للاتين، عن “ماهوميت” المشعوذ الدجال، من خلال تمثيل آخر للنبي، صورة لمحمد يعظ وعلى كتفه حمامة وتستكمل في بعض الأحيان بثور يحمل القرآن على قرونه؛ موضوع إيكونوغرافي على مدى عدة قرون من خلال قصة أصلية نسخها “لوران دي بريميرفيه” Laurent de Premierfait عام 1409، وهو عالم إنسانيات يعيش في بلاط الملك شارل السادس ملك فرنسا، الذي تعهد بترجمة عمل جان بوكاتش 1355 – 1373 Jean Boccace. إنه يحكي حياة “ماهوميت”.
ولد “ماهوميت” في مكة المكرمة، وأصبح تاجرًا، تزوج من خديجة، وقدم نفسه على أنه المسيح الجديد وطارت شهرته. أضاف مؤلف هذه السيرة الذاتية التي كتبت في القرن الخامس عشر تتمة بعد قراءة في فصل من “مرآة التأريخ”« Miroir historial », ، ترجمة فرنسية من القرون الوسطى من وقائع موسوعية كتبها باللاتينية فنسنت دي بوفيه Vincent de Beauvais في القرن الثالث عشر”(7)، قصة لتشويه سمعة النبي.
فقد روى “لوران دي بريميرفيه” أنه بعد أن نصب نفسه نبيًا، كان “ماهوميت” قد درب حمامة على التقاط حبات القمح من أذنه، وأوضح للحشد المتفاجئ من الحمامة وهي تحط على كتفه وتدخل منقارها في أذنه فكان يشرح لهم أن الروح القدس هو من كان يأتي للتحدث معه.
هذه الرواية تتوافق مع تقليد أدبي وإيقوني حافظ عليه المؤلفون اللاتينيون من القرن الثاني عشر لتشويه سمعة “ماهوميت” من خلال تقديمه كنبي زائف كان يخدع “الساراسانين” باستخدام الحيلة.
إذن في الفصل الثاني تناول الكاتب صور العديد من مؤلفي العصور الوسطى لـ”ماهوميت” على أنه مؤسس -إنساني تمامًا- لنسخة جديدة منحرفة عن المسيحية، أو بدعة، ونجح من خلال الوعظ والخدع السحرية والمعجزات الخاطئة في خداع العرب الساذجين وأقنعهم بكونه نبيًا ليصبح قائدًا لهم.
وبما أن المسلمين استولوا على معظم الإمبراطورية الرومانية المسيحية، وأثروا أراضيها وعمروها، وهزموا باستمرار الجيوش الصليبية، فقد سعى هؤلاء الكتاب والمؤلفون إلى إرضاء قرائهم بأن المسيحيين كانوا على الرغم من ذلك مفضَلين من قبل الله تعالى، معتبرين أن “ماهوميت” لم يقدم شيئًا أكثر من صورة كاريكاتورية فظة ومشوهة للدين الحقيقي.
يمكن العثور على نفس الموضوع، أي النبي الكاذب في أمثلة إيقونوغرافية أخرى حتى القرن السادس عشر مع مثال “ماهوميت” وقد صور بلباس تركي لتشويه سمعته، أو في ترجمة للقرآن إلى الألمانية. نجد نفس عناصر التصوير حيث الحمامة والثور، وكذا السيف للدلالة على أنه نبي كاذب.
صورة أخرى للمؤلف سبق ذكرها، للأخوين جون إسرائيل دي بري John Israël de Bry وجان ثيودور دي بري Jean Théodore de Bry في 1597 Acta Mechmeti I. Saracenorum principis يستحضر تمثيلاً غريبًا وغير متوقع لحجاج تعبدوني أمام نعش “ماهوميت” العائم، مشهد خيالي للتنديد بالنبي الزائف.
- صورة النبي المزيف في تابوت عائم:
هذا التمثيل من بين العديد من التمثيلات الأخرى حول هذا الموضوع أي نعش “ماهوميت” العائم مبني من سلسلة من الأساطير التي يعود تاريخها إلى القرن الثاني عشر، والتي كان “لوران دي بريميرفي” من أوائل من حكاها، حيث أصبحت كلاسيكية من إيقونوغرافية خرائط العالم. في الأطلس الكاتالوني حوالي عام (1375)، نكتشف عربيًا بعمامة، راكعًا أمام بلدة مكة، وفي وسطها يطفو تابوت. في الأعلى توضح الأسطورة أن المسلمين ذاهبون إلى مكة Mécha، لزيارة قبر نبيهم. (8)
وسيكون الفصل الثالث ذا أهمية خاصة لقراء هذا الخليط، حيث أنه من “بيدرو باسكوال”Pedro Pascua إلى الموريسكين، مرورًا بـ”خوان دي سيغوفيا” Juan de Segovia و”خوان أندريس” Juan Andrés، يوجه الكاتب نظرنا إلى هذا المكان المميز باتصاله بالإسلام، وهو إسبانيا: ففي شبه الجزيرة تتشكل بشكل خاص صورة نبي مزيف ثائر ضد السلطة الشرعية. (9)
ورغم توقع أن يكون نهج الدارسين والمؤلفين الإسبان أكثر دقة، إذ كان الإسلام حاضرًا فيهم منذ وصول جيش طارق بن زياد في عام (711) للميلاد إلى طرد الموريسكيين في القرن السابع عشر، لكن في الواقع فقد درس علماء مسيحيون إسبان مثل أسقف طليطلة “رودريغو خيمينيز دي رادا” Rodrigo Jiménez de Rada المصادر الإسلامية في القرن الثالث عشر فقط، لتعزيز صورة نبي الإسلام كنبي “كاذب” و”متمرد” ضد سلطة سياسية شرعية. (10)
وفي القرن الخامس عشر استخدم العديد من المؤلفين الإسبان والأوروبيين الآخرين صورة النبي المشوهة هذه للدفاع عن حملات صليبية جديدة ضد المسلمين، في غرناطة وضد الإمبراطورية العثمانية، وبعد غزو غرناطة عام (1492)، كان هناك ضغط متزايد على المسلمين للتحول إلى المسيحية قسرا، واستخدم الكاثوليك نصوصًا ملفقة لحث الموريسكيين على تغيير دينهم. (11)
صور وتمثيل محمد من قبل الغربيين منذ القرن السادس عشر: بين المشرع والمصلح
خلال القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر، كانت صورة محمد تستخدم في بعض الأحيان لخدمة قضية خاصة خلال النزاعات الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت. يقدم “جون تولان” مثالاً دعائيًا يستخدم فيه محمد كوسيط لدعم الحجج في النزاعات المسيحية. الأمر يتعلق بتقويم نشر في باريس سنة (1667)، صورة تظهر “ماهوميت المحتال” في الجحيم جنبا إلى جنب مع “المضلل كالفن”. (12)
يفك المؤرخ القروسطى رموز الصورة، “نلاحظ على يمين الصورة، زنديق بروتستاني يشد لحية “كالفن” ويضع واحدًا من كتبه المفتوحة تحت أنفه، في حين أن آخر، في الخلف، على وشك أن يضربه بعصا.” (13) “على اليسار يدوس باشا بودا، الوالي العثماني لبودابست الحالية، القرآن ويهدد النبي الكاذب بسيفه، بينما في الوسط، يلاحظ شيطان ضاحك يراقب المشهد”(14). بالنسبة لـ”جون طولان”، يمكن تفسير هذا التمثيل على أنه دلالة للتنديد بشكل أفضل بالمسيحيين المنحرفين، هنا استخدم “الكالفينيون” “ماهوميت” كذريعة وليس كموضوع للرفض.
الاستخدام الديني والسياسي لـ”ماهوميت” نراه في القرن السابع عشر أيضا، كما في كتاب “الإنجيل العاري”The Naked Gospel.، المنشور عام (1691)، لآرثر بوريArthur Bury، الذي ينكر مفهوم التثليث ويدعو إلى الوحدانيّة،
ويرى أنّ أفكار “ماهوميت” أكثر قربا من المسيحية التي أفسدتها الكنيسة بمفهوم التثليث؛ إذ يفقد حينها “ماهوميت” صفته كنبي مُدع، ويصبح نبيا يدعو إلى العودة إلى الأصول والإصلاح الديني، المتمثل بالتمسك بدين إبراهيم لإعادة الإيمان بالإله الواحد، وهذا يتطابق مع ادّعاء المسلمين، بحسب الكتّاب، الذين يقولون إنهم أيضا من أتباع إبراهيم ويؤمنون بإلهه.
- شاهدٌ على براءة مريم:
يظهر حاجز خلفي لكنيسة رسمه “ميشيل لوبوسينيولي” Michele Luposignoli عام (1727)، والذي استعاد نموذج “نيكولا براليتش” Nikola Bralič)1518)، العذراء في فصل دراسي، محاطة بالعديد من أطباء الكنيسة يحملون مخطوطات تمثل كتاباتهم لصالح هذه العقيدة. ونرى، في أسفل اليمين، محمد، يحمل مطوية مع النص: “ما من بني آدم مولود إلا يمسّه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخًا من مس الشيطان، غير مريم وابنها..” (15).
لإثبات أنّ المسلمين لا يؤمنون بالخطيئة الأولى، ويبرئون مريم والنبي عيسى، عليه السلام، واستمر هذا التوظيف الدينيّ حتى منتصف القرن الثامن عشر، كما في بعض التمثيلات الأيقونيّة التي يظهر ضمنها “ماوهميت” حاملاً نسخة من الحديث السابق. ليصبح “ماهوميت” شخصية إيجابية، تستحق الظهور على صورة للعذراء مخصصة لكنيسة العبادة الكاثوليكية.
في هذا الصراع بين المسيحيين والقلق في مواجهة الفتوحات العثمانية، اهتم عدد من المفكرين الأوروبيين بالقرآن. ففي عام (1513)، نشر “ثيودور بيبيل آندر” Theodore Bibliander أول كتاب قرآني مطبوع وهو الترجمة اللاتينية من القرن الثاني عشر لـ”روبرت كيتون” Robert Ketton، يرافقه مجموعة من النصوص حول الإسلام، بما في ذلك مقدمة لمارتن لوثر الذي أوضح أنه ليس هناك طريقة أفضل لمحاربة الترك من فضح “أكاذيب وخرافات ماهوميت”.(16)
مع انتصاف القرن الثامن عشر، تغيرت النظرة إلى نبي الإسلام؛ إذ انتقد فولتير آراءه السابقة، وذلك في مقالة عن أخلاق وروح الأمم، المنشورة عام (1756)، وكتب عن نبي الإسلام بوصفه محرر العرب من الفرس والرومان، وذكر كيف كان يتيما، ومع ذلك آمن به العرب، واتبعوه بوصفه آخر الأنبياء، ومُلغي عادة الأصنام، وداعيًا إلى التسامح والحب ونشر المعرفة، الأمر ذاته مع كتاب “زرادشت، كونفوشيوس ومحمد” لـ”إمانويل باوستورتي” Emmanuel Pastoret، المنشور عام (1787)، الذي يروي سيرة ثلاثة عظماء من الشرق وأثرهم في التاريخ العالميّ.
يستحضر “جون تولان” جدلاً أوروبيًا كبيرًا آخر، والذي دار في القرن الثامن عشر، بين الفلاسفة والموحدين من جهة والرهبان من جهة أخرى، حيث استخدم تمثيل النبي في هجمات الفلاسفة على الدين (وعلى وجه الخصوص ضد الكنيسة الكاثوليكية. (فالنظرة إلى الإسلام ونبيه تتغير حينما يتعلق الأمر بانتقاد الكنيسة بشكل أفضل).
كتب “هنري” كونت “بولانفيلييه”، حياة محمد Mahomed نُشر عام (1730) بعد وفاته بالنسبة له “محمد Muhammad رسول ملهم، أرسله الله ليربك المسيحيين الشرقيين المشاكسين، ولتحرير الشرق من نير الاستبداد الروماني والفارسي، ونشر معرفة توحيد الله من الهند إلى إسبانيا.
يقول “بولانفيلييه” اعتمد محمد Mahomed، أفضل ما في المسيحية، رافضًا فقط انتهاكاتها: عبادة الآثار والرموز، وقوة الكهنة والرهبان الجهلة. احتج “بولانفيلييه” على المؤلفين المسيحيين الذين أهانوا الرسول، في كراهيتهم للدين المنافس”. قدم “ماهوميت” كنموذج للملوك المستنيرين في القرن الثامن عشر. في أوروبا.
فالبلهاء، بالنسبة لـ”بولانفيلييه”، ليسوا المسلمين، لكنهم المسيحيون الذين يرفضون الاعتراف بأن محمدًا قد أوحى له الله. لقد تم تقديم هذا النص أحيانًا كشاهد حي على روح التسامح التي تحرك عصر التنوير. لكن هذه الصورة الجذابة لمحمد بالنسبة لـ”جون تولان” ربما تكون قبل كل شيء انتقادات ضمنية للكنيسة الكاثوليكية، فمحمدها هو موحد مستنير يحارب الخرافات وإساءة استخدام السلطة من قبل رجال الدين.
محمد مفيد في هذا الجدل مرة أخرى كمعيار على مستوى مقارن: العرض الإيجابي بصراحة للنبي تسمح لـ”بولينفيلييه” بتأكيد الحالة البائسة للكنيسة.
يذكر “جون تولان” أننا نجد في عصر التنوير أيضا استراتيجية معاكسة، مهاجمة محمد Muhammad كصورة للتعصب. إنه خيار “فولتير” Voltaire في مسرحيته “ماهوميت” أو التعصب Mahomet ou le Fanatisme 1742. فـ”ماهوميت” مخادع يستخدم الدسائس والأكاذيب والقتل للحصول على ما يريد، أي السلطة، والفتاة التي وقع في حبها، ولقب النبي.
ولكن من خلال صورة النبي المتعصب والمتلاعب فإن الكنيسة الكاثوليكية هي المستهدفة على وجه الخصوص. قام “فولتير” بمراجعة حكمه على “ماهومت” الذي اعتبره متعصبًا بعد قراءة بولانفيلييه.
ولكن الدين الإسلامي يظل أداة تستخدم لأغراض الحوار الداخلي، كما لا يزال الفصل الخامس يشهد، الذي يقودنا إلى إنجلترا: حيث يتحول “ماهوميت” إلى ثوري جمهوري، مجلّ لدى البعض وليس لدى البعض الآخر. ومع “ستوب” Stubbe أو “تولاند” Toland، اللذين هاجما النخب الدينية وأبرزا سياسته القائمة على التسامح الديني، تتجلى بوضوح صورة إيجابية للنبي.
نفس الظاهرة في فرنسا عصر التنوير، حيث يتوقف الفصل السادس المحتال الذي حقر من طرف هؤلاء وهو لدى أولئك مصلح أخطر بالانتهاكات الدينية، ويشهد مثال “فولتير” على أنه يمكن أن يجعل لماهوميت صورتين مختلفتين مع تقدم الوقت. (17)
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ظهرت صورة جديدة لـ”ماهوميت”، وهي صورة المشرع. تم قدم “ماهوميت” على أنه نظير موسى، الشخص الذي جلب القوانين إلى شعبه.
في الولايات المتحدة، هناك طنف منحوت على الحائط في محكمة العدل العليا في واشنطن لفنان أمريكي من أصل ألماني، أدولف وينمان Adolph Weinman 1870 -1952 في عام (1935)، يمثل “ماهوميت” بين أعظم ثمانية عشر مشرعًا إلى جانب “جستنيان” و”شارلمان” Justinien et de Charlemagne كتقليد على ألفية للعدالة. إن دوره كمشرع لشعبه العربي ودوره الإصلاحي الديني يتم تقديره أثناء محو الجزء الديني.
صورة إيجابية أخرى لـ”ماهوميت” يذكرها “جون تولان”، وهي تمثيل شخصية النبي في سياق الاستعمار الفرنسي في فترة ما بين الحربين في شكل لوحة جدارية لـ”لويس بوكيه”Louis Bouquet في صالون الوزير “بول رينو” Paul Reynaud أعدت للمعرض الاستعماري الذي أقيم عام (1931) والمحفوظة الآن بمتحف الفنون الأفريقية وأقيانوسيا.
ويضيف؛ أن الاستعمار الفرنسي، وضمن تمثيلاته الفنية، سعى إلى احتواء الدين الإسلامي وشخوصه ضمن المستعمرات في الشرق لتبرير ما يفعله، كما أن هناك “بروباغندا” عن الإسلام موجهة للغرب، ما تزال قائمة حتى الآن. هذا التمثيل لـ”ماهوميت” وفوق رأسه جبرائيل الذي جاء ليهمس له بالوحي، في ديكور مستشرقي للغاية، يهدف إلى إظهار جميل فرنسا تجاه لمستعمرات. هذه الصورة الإيجابية للنبي كانت عبارة عن رسالة موجهة من طرف المستعمرين تنظر إلى الإسلام نظرة خيرة.
المستشرقون اليهود في القرن التاسع عشر، في صورة “أبراهام جيغر” Abraham Geiger، فقد تصوروا نبي الإسلام: ولن يكون من المستغرب أن تقودهم ميولهم الإصلاحية إلى تقديره بوصفه مصلحًا عظيمًا لليهودية.
وأخيرًا، في الفصل التاسع، يتم النظر في بعض المساعي المشابهة إلى حد ما، وهذه المرة تنبعث من مفكرين مسيحيين في القرن العشرين مثل “لويس ماسينيون” Louis Massigno، و”هانز كنج” Hans Küng و”مونتجمري وات” Montgomery Watt، فتغري المؤسسة المسكونية للتفكير في “ماهوميت” الذي هو نبي حقًا دون أن يتعارض ذلك مع عقيدتهم الشخصية. (18).
- خاتمة:
لقد فتن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أوروبا منذ العصور الوسطى، وانتشرت الرسوم الكاريكاتورية والصور المثيرة للجدل على جميع صفحات المخطوطات، تقدمه بالتعاقب كدجال، ومبتدع، وشخصية فاسقة، وتجسيد للمسيح الدجال.
لقد ولدت شخصية: نبي الإسلام كما يرى من قبل الأوروبيين. يتتبع المؤرخ “جون تولان” مصيره هنا في حكاية رائعة. في حين أنها، أولاً وقبل كل شيء، مخاوف المسيحية التي تتبلور في صور محمد، مع ذلك سيصبح على مر القرون موضوعًا فاتنًا ومؤثرًا، كما هو الحال لدى “غوتة” Goethe أو “لمارتين” Lamartine أو كارليل carlyle الذين نسير معهم في الفصل السابع، معجبين برجل الدولة أو العبقري الصوفي، النبي والشاعر.
وبالمثل سيعتبره بعض اللاهوتيين مصلحًا عظيمًا، وسيعجب به “نابليون” Napoléon. تارة يهان، وتارة يمجد. فهو مكسب دائمًا كونه عدوًا أو حليفًا، استخدمه الأوروبيون لعدة قرون في نزاعاتهم الداخلية.
الهوامش:
1 – http://www.cn-telma.fr/relmin/index/
– 2Tristan Vigliano, « John TOLAN, Mahomet l’Européen. Histoire des représentations du Prophète en Occident », Mélanges de la Casa de Velázquez [En ligne], 49-2 | 2019, mis en ligne le 18 octobre 2019, consulté le 06 juin 2020. URL : http://journals.openedition.org/mcv/11929
3- https://www.aljazeera.net/news/cultureandart/2020/5/20/وجوه-محمد-صور-الرسول-الكريم-المختلفة
– 4John TOLAN, Mahomet l’Européen, histoire des représentations du Prophète en Occident, Albin Michel, Paris, 2018, p.441, (ref 1, P.397
– 5 Ibidem
– 6John TOLAN, Mahomet l’Européen, histoire des représentations du Prophète en Occident, Albin Michel, Paris, 2018, p.441, (p.109)
7– John TOLAN, Mahomet l’Européen, histoire des représentations du Prophète en Occident, Albin Michel, Paris, 2018, p.441, (p.147)
8– John TOLAN, Mahomet l’Européen, histoire des représentations du Prophète en Occident, Albin Michel, Paris, 2018, p.441, (p.71)
9– John TOLAN, Mahomet l’Européen, histoire des représentations du Prophète en Occident, Albin Michel, Paris, 2018, p.441, (p.104)
10 – John TOLAN, Mahomet l’Européen, histoire des représentations du Prophète en Occident, Albin Michel, Paris, 2018, p.441, (p.105)
11– Tristan Vigliano, « John TOLAN, Mahomet l’Européen. Histoire des représentations du Prophète en Occident », Mélanges de la Casa de Velázquez [En ligne], 49-2 | 2019, mis en ligne le 18 octobre 2019, consulté le 06 juin 2020. URL : http://journals.openedition.org/mcv/11929
12 – John TOLAN, Mahomet l’Européen, histoire des représentations du Prophète en Occident, Albin Michel, Paris, 2018, p.441, (p.105)
13 – John TOLAN, Mahomet l’Européen, histoire des représentations du Prophète en Occident, Albin Michel, Paris, 2018, p.441, (p.153)
14 – Idem, p.135
15 – Idem, p.150
– 16 Idem, p.231
– 17 Idem, p.151
18 – Idem, p.231