«التصيين» بعض أشكال الترابط بين الصين والعرب
تهدف المقالة إلى تتبع بعض أشكال الترابط بين العرب والصين، وتبادل الانتماء والفعل بينهما في مسميات بلدان ومواقع عربية، والنسبة إليها، وإطلاقها لتكون مسمى شمولياً لنمط من الأواني (الصواني) والأطباق؛ وهو ما ينمّ عن عمق التأثير الصينيّ في الثقافة العربية.
وسأبدأ بلمحات موجزة عن تاريخ العلاقات من وجهة النظر العربية؛ فوفقاً للمصادر العربية، تعود العلاقة بين العرب والصين إلى ما قبل الإسلام، والمؤكد أن التجارة كانت هي البدء، وأن الطريق البحريّ كان الأقدم في بناء هذه العلاقة التي ربطت بين سواحل جنوبي الجزيرة العربية، وسواحل جنوبي الصين، ولعل الصين كان لها الدور الأكبر بحكم أساطيلها الكبيرة، التي كانت تجوب البحار حاملةً البضائع الصينية إلى غربي العالم، وتعود منه بموادَّ، من بينها الصمغ العربيّ من جنوبي الجزيرة.
- الاحتكاك العسكري
كانت هناك – كما تشير بعض المصادر التراثية العربية- غزوات عسكرية من الجانب العربي؛ أقدمها غزو تُـبَّع – ملك اليمن – الصين، ووصوله إلى التبت.
وينقل ياقوت عن كتاب عتيق وردت فيه معلومات منسوبة إلى أبي دلف مِسعْر بن مهلهل، يذكر فيها ما شاهده في بلاد الترك والصين والهند، ومما جاء في الكتاب قوله: «ثم انتهينا إلى موضع يُقال له: القُليب، فيه بوادي عرب ممن تخلف عن تُـبَّع لما غزا بلاد الصين، لهم مصايف ومَشاتٍ في مياه ورمال، يتكلمون بالعربية القديمة لا يعرفون غيرها، ويكتبون بالحِمْيرية،
ولا يعرفون قلمنا، يعبدون الأصنام، وملِكهم من أهل بيت منهم لا يُخرجون المُلك من أهل ذلك البيت، ولهم أحكام… وملِكهم يهادي ملك الصين، فسرنا فيهم شهراً في خوف وتغرير» [معجم البلدان، 3/443-444].
ثم كان الاحتكاك العسكريّ بين العرب والصين في أثناء الفتوحات الإسلامية في وسط آسيا، وهناك حكاية معروفة متداولة في كتب التاريخ العربي تُشير إلى وصول قوات قتيبة بن مسلم الباهليّ إلى حدود الصين وفـَتْحِه «كاشغر»، وما يُنسب إليه من قَسَمٍ بأن يطأ أرضها، وإيفاد ملك الصين رسولاً إليه ومعه صحاف عليها تراب من أرض الصين ليطأه قتيبة براً بقسمه، وبعث معها جماعة من أولاده وأولاد الملوك، ومالاً جزيلاً، فلما انتهى ذلك إلى قتيبة، اكتفى بما اقترحه الملك.
وتُشير المصادر إلى أَسْرِ صينيين في أثناء المعارك، استُـفيد منهم -فيما بعد- في نقل صناعة الورق من الصين إلى مدن وسط آسيا؛ مثل: بخارى وسمرقند؛ مما أدَّى إلى انتزاع سِرّ صناعة الورق من الصينيين لينتشر -فيما بعد- في جميع أنحاء العالم عبر الوسيط العربيّ؛ مما أدى -بدوره- إلى نقلة حضارية كبيرة تمثلت في تمدُّد حركة التأليف بوساطة إنتاج الكِتاب الورقيّ والتخلِّي عن الكتاب الجلديّ، الذي كان يُـعتمد فيه على الـرَّقِّ المأخوذ مـن جـلـود الغـنم والأبقار، الذي لم يكن بقدر فاعلية الورق الميسّر للكتابة فيه، وكان هـذا الانـتـقال في أواخر القرن الهجـري الأول.
أما الاحــتكاك الجماعيّ الثالـث، فـتـمثـل فـي قوة عسكرية بعـث بـها الخليفة أبو جعفر المنصور لنجدة الإمبراطور الصيني المعاصر له، الذي واجهَ ثورة عارمة كان للجيش العربيّ دورٌ في إخمادها، ثُـمَّ استقرار أغلبية أفراد ذلك الجيش في الصين، وعدم عودتهم إلى موطنهم.
- بداية التلاقح الحضاري
إذا كانت الأخبار الثلاثة السابقة تمثل في الأدبيات العربية بداية التعارف المباشر بين الأُمَّتينِ؛ فإن الشكوك تحوم حول الأول والثالث منها؛ أمَّا الثاني المتَّصل بالفتوح وتوقُّفها على حدود الصين فهو الخبر الموثق، وهو – رغم صِبْغته العسكرية- يمثل بداية التلاقـح الحضاريّ بين الأمتين: الصين مخترِعة الورق، والعرب وسيط نقلِ صناعته إلى العالم المعروف في ذلك الوقت. وعقب استقرار الأوضاع الأمنية بين إمبراطورية الصين الممتدة من المحيط شرقاً إلى حدود ما وراء النهر، ودولة الإسلام الممتدة من المحيط الأطلسيّ إلى آخر بلاد التُّرك فيما وراء النهر؛
نشأت علاقات تجارية وثقافية بين الأُمتين كان مسارها طريق الحرير البَرِّيّ، فانتشرت بضائع الصين في مدن الإسلام؛ مثل: مصر، وسمرقند، ونيسابور، وبغداد. وجال التجار العرب في بلاد الصين؛ لشراء البضائع، والعودة بها إلى الأقاليم الإسلامية؛ مما أدَّى إلى قيام صناعات أصيلة في الأقاليم الإسلامية متأثرة بالنمط الصينيّ، وبخاصة في مجال الفخاريات والزجاج والأقمشة،
وازدهرت التجارة بين الأُمتين ازدهاراً تأسَّستْ معه بلدات وأحياء باسم الصين في العراق على وجه الخصوص؛ منها: صين الكوفة، وصين إسكندرية العراق [ياقوت، المشترك وضعاً، ص288-289]، والأشهر منهما: الصِّـينية، وكانت بُليدة قريبة من واسط [ياقوت، معجم البلدان، 3/448].
- صينية الحوانيت
يُقدِّم لنا الخطيبُ البغداديُّ في تاريخه، ويتابعه ابنُ القيسرانيِّ، وأبو سعد السَّمْعَانِيُّ، معلومةً فريدةً عن هذه البلدة؛ فيذكرها باسم: صينية الحوانيت، وأنها بين واسط والصليق بالعراق. ووُرُود كلمة الحوانيت في التعريف بالمدينة على درجة كبيرة من الأهمية؛ فالحوانيت جمع حانوت، وهو الدُّكَّان أو المحلُّ التِّجاريّ، ما يعني أن هذه البلدة كانت تشتهر -من وجهة نظري- بكثرة محلاتها التجارية ذات العلاقة بالصين؛
فهل كان ذلك بسبب أن أصحابها كانوا من أهل الصين؟ أم لأنها كانت تعجُّ بالبضائع الصينية؟ وفي كلتا الحالَيْنِ نجد أنفسنا أمام ما يُعرف في عصرنا بــ«تشايـنا تاون» Chaintown، أو الحيّ الصينيّ، ولعل المدينتيْنِ اللتين كانَتا قرب الكوفة والإسكندرية من النمط نفسه؛ أي: إنهما كانتا تحفلان بالحوانيت الصينية. فإن قُبِـلَ هذا الرأي،
فإنه يؤسِّس لرؤية جديدة، تكشف عن حركة تجارية واسعة، ربطت بين العراق مقرّ الخلافة العباسية، ومركز الحضارة العربية الإسلامية قروناً طوالاً، وبين الإمبراطورية الصينية.
ويَرفِد هذا الرأي ويقويه معلوماتٌ عن حمل أفراد من العرب نسبة (الصينيّ)، عُـرفوا بها بين أقرانهم في حِقْبتهم، وتُرجم لهم بربطهم بهذه النسبة؛ من أشهرهم: حميد الصينيُّ: وهو أبو عمرٍو حُميد بن محمد بن عليٍّ الشيبانيُّ، قال عنه السَّمْعَانِيُّ: «سمع السريّ بن خزيمة وأقرانه، روى عنه أبو سعيدِ بنُ أبي بكر بن أبي عثمان وغيره.
ظنِّي أنه نُسب إلى الصين؛ إما لأنه منها، أو لأنه كان يمضي إليها، والله أعلم» [الأنساب، 8/368]. وعلى الرغم من شكِّ السَّمْعَانِيِّ في أصله، فإن وجود النسبة إلى القبيلة ضمن اسمه (الشيباني)، يَعْنِي أنه كان عربياً؛ بيد أنه ممن أكثروا دخول الصين، ولعل ذلك للتجارة بالدرجة الأولى. والآخر هو: إبراهيم بن إسحاق الصينيُّ: من أهل الكوفة، قال عـنه السَّــمْعَـانِيُّ: «كان يَـتَّـجِـرُ في البحـر، ورحـل إلى الصين، وهـو مـن بلاد المشرق، وروى عن أبي عاتكةَ، عن أنسٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «اطلبوا العلم ولو بالصين».
- أشهر من حمل لقب الصيني
أَشهَرُ العربِ الذين حملوا لقب الصيـنيِّ، شـيخ السَّمْــعَانِيِّ: أبو الحسنِ سعدُ الخيرِ بنُ محمدِ بنِ سهلِ بنِ سعدٍ الأنصاريُّ الأندلسيُّ، قال السَّمْعَانِيُّ: «كان يكتب لنفسه: الصينيّ؛ لأنه كان قد سافر من بلاد الغرب إلى أقصى بلاد الشرق، وهو الصين.
من أهل بَلَنْسِية مدينة بشرقي الأندلس. كان فقيهاً صالحاً كثير المال، حَصَّـلَ الكتب والأصول… سمعت منه جميع كتاب السُّنَن لأبي عبدالرحمن النسائيِّ… تُـوُفِّـيَ في المحرَّم مـن سـنـة إحدى وأربعـين وخمس مئة ببغداد» [الأنساب، 8/368-369]. وإشارة السَّمْعَانِيِّ إلى سعد الخير بأنه كان كثير المال، تُوحي بأنه كان يعمل في التجـارة إلى جانـب عنايـتـه بالعلم، ومن ثَـمَّ يكـون دخولُه الصينَ للتجارة بالدرجة الأولى.
هناك مجموعة أخرى من الأعلام العرب حملوا النسبة «الصينيّ»، من دون الإشارة إلى سفرهم إلى الصين؛ مثل: أبي عليٍّ الحسنِ بنِ أحمدَ بنِ ماهانَ الصينيِّ، وكان من أهل صينية الحوانيت، وأبي عبدالله محمد بن إسحاقَ بن يزيدَ الصينيّ من أهل بغداد، وأبي الحسن محمد بن عبدالله بن إبراهيمَ الرازيّ، المعروف بابن الصينيِّ، كان يسكن باب الشام ببغداد.
تُوُفِّيَ سنة 410هـ [الأنساب، 8/369-370] وعُرف بعضُ الأعلام العرب بألقاب تربطهم بالصين؛ مثل: الشريف أشرف بن محمد العباسيّ العلويّ. قال النسفيُّ في القند: «السيد الإمام الأَجَـلُّ، صدر الإسلام والمسلمين، قطب الإمامة في العالمين، ملك علماء الشرق والصين: أبو المكارم أشرف بن محمد بن أبي شجاع محمد بن أحمد… ابن العباس بن عليّ بن أبي طالب
. وُلد في رجب سنة ثمان وستين وأربع مئة» [القند، ص93] والإشارة إليه بملك علماء الشرق والصين توحي بوجود علماء مسلمين داخل الصين في تلك الحقبة.
كما عُرف أحد القادة العسكريين من الأشراف العباسيين، وهو أمير الجيوش طاهر العباسي، بلقب «باب ماجين»، ويُـقْصَـدُ بـباب هنا: الشيخ أو الداعية؛ فلعله دخل الصين للدعوة، فـعُرف بذلك.
- محلات تحمل اسم الصين
كانت هناك محلات في بعض المدن الإسلامية تحمل اسم الصين؛ مثل: باب الصين في سمرقند، منها: أزهر بن يونس بن العبدي السمرقندي «من باب الصين في المدينة»، ولعل إطلاق هذا المسمى لكونه مدخل الواردين من الصين.
ويسود الاعتقاد بأن قومية خوي الصينية المسلمة من أصل عربي، وهي قومية تقطن مناطق في شمال غربي الصين، وعاصمتها نينغيشيا. ومن التأثيرات الصينية ذات الصلة بالفنون: رسم الشخوص الصينية في الأواني والمخطوطات العربية المنمنمة؛ مثل: مقامات الحريريّ، وكليلة ودمنة، ويُشار إليها عادة، ولا سيما لدى الغربيين، بالمغولية، والصواب أنها تأثيرات صينية؛ إذ لم يكن للمغول أي تأثير حضاريّ في العالم الإسلاميّ المعروف في ذلك الوقت.
ومن أبرز النماذج الفنية: زخرفة داخل زبدية من الخزف، رُسمت في محيطها الداخليّ صور نساء صينيات؛ إضافة إلى زخارف نباتية، يعود تاريخها إلى أواخر القرن السادس، أو بداية القرن السابع الهجريين. ولعل أوضح مثال للتأثير الصينيّ الماديّ، أن كلمة «صيني» أُطلقت على الصحون المستخدمة للطعام، ولا يزال هذا المسمى مستعملاً إلى اليوم،
فكل الصحون الفخارية يُطلق عليها: صينيّ، وإن اختلفت بلاد صناعتها، ومنها استخدام الصينية للآنية الكبيرة التي توضع عليها أواني الطعام والشراب. ومن التوسع في هذا الموضوع أن الخط العربيّ انتشر بين المسلمين الصينيين الذين كتبوا المصحف الشريف بخط مميز، يحمل تأثير الرسم الصيني للحروف.
وممن برع في هذا المجال: الخطاط الصيني الحاج نور الدين الذي نشر كتاباً كاملاً يضم أعماله الخطية، ومن بينها مجموعة من اللوحات استخدم فيها «التصيين» ببراعة، كما أنه خطَّ غلافَ كتاب «حكايات شعبية من الصين» الذي نشرته دار الفيصل الثقافية سنة 1433هـ، بترجمة عبدالعزيز بن محمد الحميد، بطريقة فنية مميزة، تخفَّى فيها الحرف العربيُّ وراء التصيين.
يحيي محمود بن جنيد – الأمين العام لمركز الملك فيصل للبحوث و الدراسات الإسلامية