الدراسات الثقافية

الثقافة العربيّة بين الأصالة والُمعاصَرة

لماذا تقدّمَ الغربُ وتأخّرْنَا؟ هو سؤالُ الأسئلة الذي طُرح منذ بدايات القرن العشرين على لسانِ الأمير شكيب أرسلان، وما زال صاحبَ حضورٍ فعّال وقويّ للنقاش والمُداوَلة في مَيادين الثّقافة العربيّة والإسلاميّة وساحاتها المُختلفة.


والإجاباتُ تعدَّدتْ والمشاريعُ تنوَّعتْ والبَرامج تكاثرتْ وتناسَلتْ، حتّى أصبحنا في ما يشبه “الفوضى الفكريّة” البرامجيّة والمشاريعيّة، إذا جاز التعبير.. ولكن لا حلول عمليّة منذ ذلك الوقت لأزمة الثقافة العربيّة الإسلاميّة، ولواقع العرب المتخلّف، والذي ازداد تخلّفاً، حتّى مع سلوك طريق الحداثة الظاهريّة الطفيليّة التي أتَتنا على أطباقٍ ملوَّنة من تحديثٍ إكراهيّ قسريّ لا روحاً حضاريّة إسلاميّة أصيلة فيه..!!


نعتقدُ أنّ الإسلامَ (مع كلّ القيَم والمعاني التي أنتجتها ثقافة هذا الدّين) ليسَ هو المسؤول الأساسيّ عن الأوضاع السيّئة والمآلات السلبيّة التي عاشها (ويعيشها) العرب والمسلمون منذ قرون، بخاصّة على صعيد تدهور عمل الدولة العربيّة الحديثة خلال العقود الماضية، وتقويض أُسس استقرارها، الذي هو في الأساس استقرارٌ هشٌّ ومُضَعضَع البنيان.


وفي وضعنا العربي المتفجّر حاليّاً، حيث يغيب المفهوم الحقيقي التطبيقي لمعنى الدولة وماهيّتها المؤسسيّة المعياريّة (التي لا تقوم على الفرد ولا على النّخبة ولا على الفرد المؤلَّه، بل تقوم على القانون والمؤسّسات وروح العقلانيّة الحديثة) هناكَ أمران في غاية الأهمّيّة على هذا الصعيد أسهمَا في عمليّة تقويضِ أُسس الدّولة العربيّة الحديثة، وتكوّرها على مَصالح نخبتها ومراكز قواها:


  • الأوّل – البيئةُ القائمة المُعاشة والمُوروثة

وهي بلا شكّ بِنية تاريخيّة عصيّة على التغيير نتيجة صلابة طبقات التكلّس التاريخي فيها.. وهي – بطبيعة الحال – بنية غير دينيّة، أي بعيدة عن روح الإسلام الرسالي القائِم على الفضائل وقيَم الحقّ والعدالة والمعاني الإنسانيّة الخالدة..

حيث إنّ مناخات العمل وأساليب التطبيق، ومجمل السياسات واستراتيجيّات العمل التي تمّ ويتمّ تنفيذها من قِبل النّخب المُهيمِنة القائمة (صاحبة المصلحة في بقاء الأمور على ما هي عليه من ركودٍ وثبات واستقرار وموات وفوات تاريخي)، لا تلقي بالاً (يعني: لا تهتمّ البتّة) بشيء اسمه: الحقوق، أي حقوق الفرد..

ولا تعرفُ – إلّا ما رحم ربّي – معنى عمليّاً لأخلاقيّات المواطنة المتساوية، ولا تهتمُّ أيضاً بحُكم القانون، ولا بأولويّة الحريّة كقيمة أولى، ولا بسيادة الفرد على ذاته ونفسه.. وهذا أمرٌ يتمُّ فيه – بكلّ أسف – استخدام الدّين خَوفاً وطَمعاً..!


  • الثّاني – السّياساتُ والمُخطّطات الدّوليّة

وهذا لا علاقة له بتكريسِ نظريّة المؤامَرة التي ضَخّمها رموز السياسة العربيّة ونُخبها المختلفة لتأبيد وجودهم، بل له علاقة بسياسات العبث بمقدّرات المنطقة العربيّة واستنزافها من قبل الدول العظمى والمَحاور الدّوليّة الكبرى على مَدار أكثر من سبعة عقود مضت،

ممّا حَرَمَ أبناءَ هذه المنطقة – التي هي منطقة الأدْيان والرسالات والثقافات القديمة – من بناءِ دول آمنة ومستقرّة مُزدهرة (وقادرة على أن تكون حاضرة في الشأن الإقليمي والدولي)، ومَنَعهم من الوصول إلى بناءِ قناعاتٍ وتوافقاتٍ وتفاهماتٍ جزئيّة أو كلّيّة، تعزِّز الاستقرار والسّلام والتعاون المُنتِج بين شعوب المنطقة العربيّة ودولها ومجتمعاتها وقياداتها..


ولكنّ المشكلة باقية والمرض مُزمِن، وهو ما شكَّل دافعاً دائماً لنشوب مزيد من الصّراعات.. فكلّ فترة من الزمن – حيث اللّا استقرار هو النمط السياسي والاجتماعي الحاكِم – نجد كيف تندلع الحروب الأهليّة، نتيجة التوازنات الهشّة القائمة.. ما يكلِّف المنطقة فواتير باهظة وأموالاً طائلة وهدراً كبيراً في الثروات.. وهذا سببه الأساسي حالة الفوضى وعدم الحسم التاريخي كما نؤكِّد دوماً.


ولا تقولوا لي إنّ موضوعة الحَسم هي موضوعة تاريخيّة حيث إنّ ثقافتنا ماضويّة عتيقة وهويّتنا مُغلَقة غير قابلة للتطوّر أو التعديل، وإنّ إنساننا (الذي تتحكّم فيه ثقافة النصّ التاريخي) لا يحمل في داخله بذور التطوّر والانفتاح على الحياة والعصر، بخاصّة أنّه يعيش في قلب هذا التطوّر العِلمي والتقني!


أنا أقول إنّ الثقافات البشريّة كلّها – حتّى تلك التي وُصفت يوماً ما بالهمجيّة والبربريّة – هي ثقافات قابلة للتطوّر بل والتحوّل والسيرورة البعديّة في الزمان والمكان، وإلّا لما وصل العقل البشري إلى ما وصل إليه من تقدّم وتطوّر مذهل على الصعد والمستويات كلّها (حيث هذه الحضارة العِلميّة التقنيّة الرّاهنة التي نعيشها)، بل كان بقي متكوِّراً على ذاته في الكهوف والمَغاور، يعتاش على الزراعة والصيد والافتراس!


لاحظوا أوروبا، كيف كانت، وعلى أيّ حال متطوّر ومُذهِل أصبحت.. فهل نسينا حروبها الأهليّة البربريّة التي كلّفتهم ملايين الضحايا والأبرياء؟ ثمّ لاحقاً بنوا تفاهمات سياسيّة واجتماعيّة، فقامت الدول على أُسس عقلانيّة صحيحة من التمكين الوجودي للفرد ومعاملته كمُواطنٍ فاعل، وصاحب قدرات ومَواهب وليس كعبد أو رعيّة مفعول بها دوماً..


بمعنى أنّه من عمق تلك النُّظم الاجتماعيّة القروسطيّة القديمة انبثقت معانٍ جديدة للإنسانيّة القادرة، وتفجَّرت قيَم السياسة العقلانيّة ومعطياتها القائمة على حُكم القانون وحقّ الفرد وسيادته بدلاً من حُكم الراعي والرعيّة.

وارتقى الناس في تفكيرهم ووعيهم، وتنظيم شؤونهم إلى مستوى مفهوم الدولة والقانون وأخلاق الحريّة واحترام الفرديّة، بعيداً عن الأشكال الجماعويّة للتنظيم الديني الطائفي أو العشائري، أي ما نسمّيه – في العلوم الاجتماعيّة – بالأشكال الأهليّة والعرفيّة والعصبيّات التقليديّة، التي تنتج نفسها بنفسها، من دون تفكير ولا تغيير.


إذاً، الإنسان بطبعه الذّاتي (حيث العقل البدئي الفطري = عقل الطَّبْع) محبٌّ للاستكشاف والاستطلاع ومعرفة كلّ ما هو حديث وجديد ومتطوّر.

نعم إنّ الثقافات الكبرى والصغرى كلّها التي أنتجها هذا العقل البشري (الذي كانَ بربريّاً وهمجيّاً يوماً ما في سلوكه ومعاني حياته كما سبق القول) هي بالضرورة ثقافات قابلة للتطوّر والانفتاح والقراءات المتجدّدة، واستيعاب الأفكار والمعاني والقيَم الجديدة لأيّ حضارة قائمة.


فكلّ البشر ينتمون إلى أرومة جنسيّة واحدة، ويمتلكون الخصائص الخلويّة والنوويّة الذاتيّة نفسها التي كشفتها اكتشافات علوم الهندسة الوراثيّة. وإنّ البيئة كموضوع هي مَن تحدِّد وتؤثِّر على طُرق العمل والوعي والسلوك وأساليبه، وليس الإنسان نفسه كذات.


بناء على ما تقدّم، تكمن العبرة في الفعل والتطبيق، وتحويل القيَم النظريّة إلى سلوكيّات عمليّة راقية.هذا هو الخرق الكبير الذي لم يتمكّن دُعاة الفكر الإسلامي ونخبه، بخاصّة الإحيائي منه، من القبض عليه، فبقيت معارفهم تائهة في قنوات التنظير وتكديس النصوص الفكريّة فوق بعضها؛ حيث المُفترض هنا العمل على تجديد خطابات ومَعارف ومفردات هذا الفكر تكيّفاً أو استجابة لمُقتضيات العصر وضرورات الحياة المتغيّرة، وحركة الإنسان الجوهريّة فيها.


ونحنُ هنا لا نتّهم النصوص بل الاشتغالات عليها؛ حيث إنّنا كجمهور ثقافي نرنو إلى التغيير وإصلاح حال الأمّة، من العار على بعضنا أن تصل بهم أوضاعهم ومستويات تفكيرهم إلى حدّ اتّهام الناس في ثقافتها ودينها وعقيدتها وتحميل الأمّة مسؤووليّة فشل نُخبتها الحاكِمة.


فنحنُ ما زلنا نراوحُ مكانَنا منذُ زمنٍ بعيد.. نَجترّ أفكارَنا وتحليلاتنا الفكرويّة النخبويّة الوصائيّة. ما زلنا نعيش في أبراجٍ عاجيّة، نناضل بلا معنى وبلا نتائج تُذكر، مع أنّنا نعمل منذ زمن في صلب هذه المجتمعات التي نطالب بتحديثها وتغيير عقليّاتها وثقافتها التاريخيّة وضخّ روح التجدد العقلاني فيها، وتعرية سياساتها المتخلّفة والمُهينة بحقّ الفرد والأمّة ككلّ.


ونقول: إنّه يجب، وينبغي، ولا بدّ، ومن الأفضل….ووإلخ.. ولكنْ مَن يملك القرار والمسؤوليّة، ومَن يُشعل فتائل التغيير الحقيقي؟! يجب أن نعي ونعلم، ونقرّ بواقعيّة شديدة، أنّ الناس في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة عموماً، مَلّت وتَعبت وأُرهقت، من أحاديث الثقافة والسياسة والمسؤوليّات، تكلّفت كثيراً من حياتِها ومَواردها، وهي لم تعُدْ تريدُ ثورات سياسيّة ولا ثقافيّة ولا مَن يحزنون..


تريدُ العيش بما بقي لديها من كرامة فقط. أصلاً السلطويات العربيّة – بخاصّة تلك التي دمَّرت مجتمعاتها بنظريّات ومشاريع الثورات الإيديولوجيّة المُفارِقة القائمة على الطغيان النفسي والسلوكي- لم تترك شعوبها ومجتمعاتها (ولن تتركها) تعمل ما تريد انسجاماً مع تطوّرات العصر ومُقتضياته، فضلاً عن أنّ الأجندات الإقليميّة والدوليّة كلّها تقف حائلاً – كما قلنا أعلاه – في وجه طموحات المجتمعات العربيّة للاستقلال والحريّة، وتحمُّل مسؤوليّة البناء الداخلي..


أي تقف في وجه تحقيق إرادتها ووصولها للمشاركة الفاعلة في قرارها ومصيرها، والتحكّم بثرواتها وخيراتها. أمّا موضوع تغيير العقليّات، فما معناه؟ عقليّة مَن سنُغيِّر؟ وبأيّ ثمن؟ وهل المشكلة هي في العقليّات فقط؟! هذه العقليّات تتعامل مع أحدث أشكال الحضارة البشريّة الرّاهنة. لا ترفضها، على الرّغم من كلّ ما يُقال.

نعم، تتبنّاها من دون مَعانيها الحداثيّة الفلسفيّة، وهذا موضوعٌ إشكاليّ يُمكن مُعالجته. لكنّ الاستخدام السياسويّ للدّين والتراث والمُتاجَرة به (واتّخاذه مطيّة!) هو ما يدفع لرفضها ومُواجهتها. مجتمعاتنا بسيطة ومطالِبها غير معقّدة وغير مركّبة، و”على قدّها” كما يُقال.


ليس لديها أيّ مشكلة لا مع الحضارة ولا مع الحداثة ولا مع الثقافة الحديثة.. مشكلتها مع نُخبٍ مُغلَقة، رافضة لمنطق الإصلاح (ولو البسيط والجزئي) وليس لمنطق التغيير الكلّي الجذري فحسب!! نعم التغيير الثقافي مهمّ وضروري وحيوي، ولكن مَن يمنعه، الناس أم المجتمع أم الأمّة؟!


يمنعه مَن له مصلحة ماديّة في بقاء مناخات الخضوع والارتهان، واستمرار التخلّف والقهر. وهذا لا علاج له إلّا بتشكّل الكتلة البشريّة الوسطيّة الكبرى التي لا يُمكن الوقوف في وجه تمكينها، ووصولها لأهداف الشعوب في الأمان والمُشارَكة والعَيش المُزدِهر!


نبيل علي صالح: كاتب وباحث سوري

نبيل علي صالح

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى