الدراسات الأمازيغيةالدراسات الثقافية

أصول الإنسان الأمازيغي

  • المقدمة:

لقد أسالت قضية أصول الأمازيغيين كثيراً من الحبر والمداد، بين العلماء والمثقفين والباحثين، سواء أكانوا غربيين أم أمازيغ أم عرباً، فتعددت الدراسات والأبحاث والكتب التي تناولت التنقيب في جذور البربر أو الأمازيغ، فاتخذت بعض الدراسات منحىً علمياً موضوعياً في الاستقراء والاستبيان والاستكشاف، معتمدة في ذلك على الحجج والأدلة المنطقية والتاريخية والحفرية والسلالية والإثنوغرافية.


في حين، اتسمت دراسات أخرى بالذاتية والتحيز والادعاء، واتباع الظن والهوى، أو سارت وفق أغراض سياسية أو إيديولوجية محضة، سيما الدراسات الكولونيالية والاستمزاغية منها.


إذاً، ما أصول البربر أو الأمازيغيين؟ وما أهم مواطنهم؟ وما أهم الهجرات التي قاموا بها؟ وما أهم النظريات التي اعتمدت في هذا الصدد؟ هذا ما سوف نرصده في موضوعنا هذا.


  • أهم التصورات والنظريات حول أصول البربر:

يختلف كثير من الدارسين في تحديد جذور الأمازيغ، فقد جمع محمد خير فارس آراء مجموعة من الأنتروپولوجيين، فحصرها في عدة نماذج بربرية، ” أحد هذه النماذج يمت إلى شعوب البحر المتوسط، والثاني يعود إلى أصول مشرقية، والثالث إلى أصول ألبية.


وكما يقول ديبوا: هناك أيضا نموذج رابع هو النموذج الأبيض الأشقر، ولا يمكن ربطه بالاحتلال الوندالي، فهو موجود منذ القديم.”[1].


بمعنى أن هناك مجموعة من التصورات المتنوعة والمختلفة والمتضاربة حول أصول الإنسان الأمازيغي. فهناك التصور السامي، والتصور الحامي، والتصور الهندوأوروبي، والتصور الأفريقي المحلي. فما التصور الأقرب إلى العلم والمنطق والعقل والصواب؟ هذا ما سوف نستجليه عبر العناصر التالية:


  •  الأصل السامي:

هناك مجموعة من الباحثين يذهبون إلى أن الأمازيغ من أصول مشرقية عربية حميرية، هاجروا بسبب الجفاف، وتغير المناخ، وكثرة الحروب إلى شمال أفريقيا، من اليمن والشام، عبر الحبشة ومصر، فاستقروا في شمال أفريقيا، وبالضبط في غرب مصر، وليبيا، وتونس، والجزائر، والمغرب، وشمال السودان، ومالي، والنيجر، وبوركينا فاصو، وجزر الكناريا، والأندلس، وجزر صقلية بإيطاليا. وفي هذا الصدد، يقول عثمان الكعاك، في كتابه (البربر)”.


ومعظم الباحثين يذهبون إلى أن البربر من أصل سامي أولي. أي: من أبناء سام بن نوح لا يافث بن نوح، فقد كانت الجزيرة العربية، موطن الساميين، مغشاة بالثلوج في شمالها، فكانت اليمن بلاد اليمن والخير، وهي مهد أبناء سام الأولين، مختلطين مع أولاد أعمامهم أبناء حام.


فلما انحسرت الثلوج، اشتدت الحرارة، وقحلت البلاد، وتفرق سكانها، فانتقل الفرع السامي من البربر والنوبة والحبشة وقدماء المصريين إلى أفريقيا، واستوطنوها، فانفرد البربر بشمال أفريقيا، والحبشة بإفريقيا الشرقية، والسودان بأفريقيا الشرقية والوسطى.


وهذا ما ذهب إليه العرب، وهو مشهور المذهب عند الأوروبيين اليوم، لاسيما علماء الألمان الذين هم نزهاء في بحوثهم، ويتبعهم في ذلك الإيطاليون.”[2].


هذا، ويرى ابن خلدون أن البربر من نسل مازيغ بن كنعان.بمعنى أن أصول البربر كنعانية مشرقية. وفي هذا الصدد، يقول ابن خلدون: “إن أفريقش بن قيس بن صيفي، من ملوك التبابعة، لما غزا المغرب وإفريقية، وقتل الملك جرجيس، وبنى المدن والأمصار،

وباسمه زعموا سميت إفريقية لما رأى هذا الجيل من الأعاجم، وسمع رطانتهم، ووعى اختلافها وتنوعها تعجب من ذلك، وقال ما أكثر بربرتكم، فسموا بالبربر، والبربرة بلسان العرب هي اختلاط الأصوات غير المفهومة.


ومنه يقال بربر الأسد إذا زأر بأصوات غير مفهومة. وأما شعوب هذا الجيل وبطونهم، فان علماء النسب متفقون على أنهم يجمعهم جذمان عظيمان، وهما برنس ومادغيس، ويلقب مادغيس بالأبتر.


فلذلك، يقال لشعوبه البتر، ويقال لشعوب برنس البرانس، وهما معا ابنا بر، وبين النسابين خلاف هل هما لأب واحد، فذكر ابن حزم عن أيوب بن أبي يزيد صاحب الحمار أنهما لأب واحد على ما حدثه عنه يوسف الوراق،


وقال سالم بن سليم المطماطي وصابى بن مسرور الكومي وكهلان بن أبي لووهم نسابة البربر أن البرانس بتر، وهم من نسل مازيغ بن كنعان، والبتر بنو بر بن قيس بن غيلان، وربما نقل ذلك عن أيوب بن أبي يزيد، إلا أن رواية ابن حزم أصح؛ لأنه أوثق.


(وأما) شعوب البرانس، فعند النسابين أنهم يجمعهم سبعة أجذام، وهي أزداجة، ومصمودة، وأوربة، وعجيسة، وكتامة، وصنهاجة، وأوريغة، وزاد سابق بن سليم وأصحابه لمطة، وهسكورة، وجزولة…”[3].


ويعني هذا – حسب ابن خلدون – أن الأمازيغ كنعانيون تبربروا. أي: إن البربر هم أحفاد مازيغ بن كنعان[4]. وفي هذا المقام، يقول ابن خلدون أيضا:” والحق الذي لاينبغي التعويل على غيره في شأنهم؛ إنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح؛ كما تقدم في أنساب الخليقة. وأن اسم أبيهم مازيغ، وإخوتهم أركيش، وفلسطين إخوانهم بنو كسلوحيم بن مصرايم بن حام”[5].


و قديما، قد قال القديس الجزائري الأمازيغي أوغسطين قولة مأثورة، وهي أن الأمازيغ كنعانيو الأصل:” إذا سألتم فلاحينا عن أصلهم؛ سيجيبون: نحن كنعانيون”[6].


ويؤيد هذا الطرح الباحث الفلسطيني الدكتور عزالدين المناصرة الذي أرجع الأمازيغيين وكتابتهم إلى أصول كنعانية إما فلسطينية، وإما فينيقية لبنانية: “لقد أخذت الأمازيغية نظام تربيع الحروف من هذه اللغات (يقصد اللغات السامية)، كما أخذت نظام الحركات (الإشارات والتنقيط) من النظام الفلسطيني والنظام الطبراني.


لكن أقرب مصدر للأمازيغية (حروف التيفيناغ التواركية) هواللغة الكنعانية الفينيقية القرطاجية. فالمصدر الأساسي للأمازيغية – إذاً- هو الألفبائية الكنعانية التي تفرعت منها كل لغات العالم.


وقد أثرت الكنعانية مباشرة في اليونانية، ومن اليونانية، ولدت اللاتينية والسلاﭭية. فالأمازيغية لغة سامية حامية. والكنعانية هي اللغة الأولى في العالم التي مكنت الإنسان من تصوير كل صوت من أصوات اللغة برمز(المبدأ الأكروفوني).


وصارت مجموعة الرموز تعكس كلمات بألفاظها وأصواتها. واحتفظ اليونانيون بأسماء الحروف الكنعانية. ولا خلاف على جغرافية بلاد كنعان، فهي (فلسطين ولبنان وسوريا والأردن)، لكن فلسطين كانت هي المركز….”[7].


ويرى الدكتور أحمد هبو بأن ” الكتابة البربرية القديمة (تيفيناغ) استوحت مبادئها من الكنعانية الفينيقية. ولا علاقة للأمازيغية باللاتينية من قريب أو بعيد.”[8].


ويتبين لنا، مما سبق ذكره، بأن البربر عرب حميريون من بني قحطان، موطنهم الشرق العربي، بما فيهم اليمن والشام، وقد نزلوا بشمال أفريقيا، عن طريق الحبشة ومصر. لكن الاختلاف يكمن في شجرة النسب، فثمة روايات مختلفة في ذلك.


وتتمثل في أن البربر ولد إبراهيم من ابنه نقشان، أو يمنيون هاجروا إلى شمال أفريقية، أو من قبائل لخم وجذام سكان فلسطين الذين طردهم الفرس، أو من ولد النعمان بن حمير بن سبإ،أو من قوم جالوت، أو من كنعان والعماليق أنزلهم أفريقيش بلاد أفريقية، أو من قبائل شتى: حمير، والأقباط، والعماليق، وكنعان، وقريش[9].


  • الأصل الحامي:

هناك من الباحثين من يقول بالأصل الحامي للبربر. بمعنى أن البربر من أبناء حام بن نوح، هاجروا الجزيرة العربية، فاستقروا في السودان وبلدان شمال أفريقيا، وتنتمي لغتهم البربرية إلى الفصيلة الحامية التي تلتقي فيها مع بعض اللغات الأفريقية، مثل: الكوشيتية، والمصرية.


ويهدف هذا التصور إلى عزل البربر عن العرب. وقد نشأ هذا التصور في ألمانيا سنة 1912م مع صاحبه س.ماينهوف. وقد تبنى أحمد بوكوس هذا التصور، حيث اعتبر البربرية ” لغة مستقلة من حيث العلاقة الوراثية التاريخية بالنسبة للعربية الفصحى.


إذ تنتمي الأمازيغية إلى ما يسمى بفصيلة اللغات الحامية، بينما تدخل العربية ضمن فصيلة اللغات السامية، وإن كانت هاتان الفصيلتان تشتركان على مستوى أعلى في إطار فصيلة الحامية-السامية، وفي الفصيلة الأفريقية -الآسيوية.[10]“.


بيد أن هذه النظرية ” لم تعمر طويلا؛ لعدم وجود وحدة لغوية داخلية حقيقية بين لغات المجموعات الثلاث (البربرية، والمصرية، والكوشيتية). لذا، أخرجت منها المصرية، وألحقت بالسامية في وقت مبكر، وكذلك البربرية التي وصفها عالم البربريات روسلر بأنها سامية جدا.


وبما أن علم اللغة المقارن أثبت وجود أواصر لغوية بين الحامية وما يسمى بالسامية، وبدل أن يدمجا في مجموعة واحدة، فقد وقع الجمع بينهما مع المحافظة على فكرة الفصل، واستعملت لهما هذه التسمية (الحامية – السامية)أو (السامية-الحامية).”[11].


والدليل كذلك على التصور الحامي ما ذهب إليه محمد الشطيبي الأندلسي، في كتابه التاريخي (الجمان في مختصر أخبار الزمان)، بأن أصول البربر حامية، تعود إلى حام بن نوح الذي هرب مع بنيه إلى أفريقيا الشمالية، بعد هزيمته أمام بني سام.


وأكثر من هذا، يقول الشطيبي ” ذكر أهل علم السير أن بني حام تنازعوا مع بني سام، فانهزم بنو حام، وخرج إلى المغرب هو وبنوه، وتناسلوا فيه، فاتصل بنوه من أرض مصر إلى آخر المغرب إلى مجاوره السودان، وكان بسواحل المغرب الأقصى الإفرنج والأفارقة،

فكانت ذرية حام في المداشر والخيام والأعاجم الأول في البلدان، وبقيت أكثر أولاد حام في بلاد فلسطين من أرض الشام إلى زمن داود عليه السلام، وهو أول نبي أتاه الله الملك وعلمه مما يشاء.


وكان فيهم ملوك الخلافة، كل ملك يسمونه جالوت، كما سميت الفرس ملوكهم الأكاسرة والروم القياصرة والعرب الأقيال وحمير.


فلما قتل داود جالوت، ملك البربر، أمر بخروجهم من بلاد كنعان بفلسطين، وأمر بجلائهم إلى جزيرة المغرب، فساروا نحو إفريقية ونحو الزاب حتى ضاقت بهم تلك البلاد، وامتلأت بهم الجبال والكهوف والرمال، وصاروا يتبعون القطر بالإبل وبيوت الشعر، ولم يقدر الإفرنج على ردهم ولا دفعهم، فانحازت للمدن، وبقيت البربر فيما عدا المدن.


وهم مع ذلك على أذكار مختلفة، يعبد كل واحد منهم ما شاء من الأديان الفاسدة، فمنهم من تنصر، ومنهم من تهود، ومنهم من تمجس إلى زمن الإسلام، ومعهم رؤساء وملوك وكهان، ولهم حروب وملاحم عظام مع من قارعهم.[12]“.


وهناك من أرجع نسلهم إلى القبط المصريين، وهم من نسل حام بن نوح.

“وقال الإمام أبو عمر بن عبدالبر، صاحب التمهيد، في كتاب الأنساب: « البربر من القبط، والقبط هو ولد قبط بن حام بن نوح عليه السلام، أول ما نزل قبط بن حام مصر وأورث بها بنيه، وهم القبط التي كانت ملوكهم الفراعنة ومنهم تَنَسَّلَت البربر».


وأما تسميتهم البربر، فذلك لما صار ملك مصر لقيس عيلان، كان له ولد يسمى بر، فخرج مغاضبا لأبيه وإخوته إلى ناحية المغرب، فقال الناس بربر، أي: توحش في البراري، فسموا بربرا. وقد ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم في بعض أحاديثه فقال: [إن لي أنصارا، فأنصاري الذين أووا ونصروا، وأنصار ذريتي البربر الذين يأوون ذريتي ويكرمونهم].


وقد كان من جدودهم من يوصيهم بإتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم كالنعمان الحميري، فإنه سكن بالمغرب أربعة عشر ولدا من بنيه، وقال: سيبعث نبي كريم اسمه محمد، فآمنوا به واتبعوه. [13] “.


وهكذا، يتبين لنا بأن التصور الحامي ليس تصورا علميا موضوعيا بشكل مطلق؛ نظرا لتداخل البنيات اللغوية السامية مع البنيات اللغوية الحامية داخل النسق اللساني البربري.


  • الأصل الهندي الأوروبي:

هناك مجموعة من الباحثين من يقول بأن الأمازيغين قد أتوا من الهند، فاستقروا في أوروپا، وهم من أولاد يافت، والدليل على أوروبيتهم شعرهم الأشقر. وفي هذا، يقول عثمان الكعاك: ” يذهب البعض من العلماء إلى أن البربر من أصل هندي أوروپي.


أي: من الأصل اليافتي المنسوب إلى يافت بن نوح عليه السلام، خرجوا في عصور متقادمة من الهند، ومروا بفارس ثم بالقوقاز، واجتازوا شمال أوروپا من فينلاندا إلى إسكندينافيا، ثم بريطانيا الفرنسية، ثم إسپانيا، ويستدلون على ذلك بالمعالم الميغالينية أو معالم الحجارة الكبرى من المصاطب(الدولمين)، والمسلات (المنهيد)، والمستديرات (الخرومليكس) التي بثوها على طول هذه الطريق، وهي توجد بشمال أفريقيا، وتنتهي بالمفيضة.


كما يستدلون بأسماء قبائل الكيماريين بفينلاندا والسويد وبني عمارة في المغرب وخميس بتونس، فالأسماء متشابهة جدا؛ أو بالحرف الروني المنقوش على المعالم الميغالينية، فإنه يشبه الخط اللوبي المنقوش على الصخور بشمال أفريقيا، ولبعض الخصائص البشرية، كبياض القوقازي، وزعرة الشعر المتصف بها الشماليون.”.[14].


وتذهب الدراسات التاريخية اليونانية والرومانية القديمة إلى أن أصل البربر أوروبي، أو أنهم اختلطوا بالأوروبيين، ” فأبو التاريخ هيرودوت (Herodotes) لا يتردد في نسبتهم إلى الطرواديين الذين طردوا من طروادة، بعد أن حطمها التحالف الإغريقي ما بين القرنين 11و12 قبل الميلاد. وترد رواية أخرى عن الإغريق تنسب البربر إلى مدينة ميسينا.


ويذهب سالوست(Saluste) إلى أن سكان شمال أفريقيا الأوائل هم الجيتوليون والليبيون، وبعد ذلك، قاد هرقل إلى المنطقة عناصر ميدية وأرمينية وفارسية انطلاقا من إسبانيا، فاختلط الميديون والأرمن مع الليبيين، بينما اندمج الفرس مع الجيتوليين… وورد عن سترابون أنهم هنود، وقادهم إلى المنطقة هيرقليس.”[15].


وتعد الدراسات الاستعمارية أو الكولونيالية السباقة إلى القول بأوروبية الإنسان البربري، كما نجد ذلك بينا عند لويس رين[16] (Louis Rinn)، وكامبس[17] (Camps)، وبريموند[18] (Bremond)، وغيرهم… فقد أثبتوا بأن هجرة البربر الأوروبيين إلى شمال أفريقيا كانت عن طريق صقلية وجبل طارق. وقد نفى بالو “أن تكون هناك صلة بين القارتين الأفريقية والأوروبية قبل العصر الحجري الحديث.”[19].


وهكذا، يتبين لنا، من خلال هذه الفقرة، بأن أصول البربر هندوأوروبية، جاؤوا من الهند، واستقروا بأوروبا، ثم انتقلوا إلى شمال أفريقيا.


  • الأصل المحلي أو الأفريقي:

هناك مجموعة من الباحثين والدارسين الأمازيغيين المحليين من يدافع عن الأصول الأفريقية للسكان الأمازيغ (إبراهيم أخياط[20]، ومحمد شفيق مثلا)، ويعتبرونهم وحدهم السكان الأقدمين الذين استوطنوا شمال أفريقيا منذ زمن قديم.


وأنه من العبث البحث في جذور الأمازيغيين، كما يتضح ذلك جليا في قولة محمد شفيق: ” إن المؤرخين العرب كادوا يجزمون، في العصر الوسيط، أن” البربر” من أصل يماني.


أي: من العرب العاربة الذين لم يكن لهم قط عهد بالعجمة؛ وعلى نهجهم سار المنظرون للاستعمار الفرنسي الاستيطاني في القرن الماضي وأوائل هذا القرن، فأخذوا يتمحلون البراهين على أن البربر أورپيو المنبت، خاصة الشقر والبيض منهم.

ومن الواضح أن الحافز في الادعاءين كليهما سياسي، سواء أكان صادرا عن حسن نية أم كان إرادة تبرير للاستيطان.


ومع تراجع الاستعمار الأوروپي عن أفريقية الشمالية، أخذت هذه المسألة العلمية تفرض على الباحثين كل تحفظ لازم، لاسيما تجاه المصادر المكتوبة، مالم تدعمها معطيات أخرى أكثر ضمانا للموضوعية. وقد عمل بجد، خلال الأربعين سنة الأخيرة، على استغلال الإمكانيات الأركيولوجية والأنتروپولوجية واللسنية في البحث عن أصل الأمازيغيين، أو عن أصول المغاربة على الأصح.


والنتائج الأولى التي أفضت إليها البحوث أن سكان أفريقية الشمالية الحاليين في جملتهم لهم صلة وثيقة بالإنسان الذي استقر بهذه الديار منذ ماقبل التاريخ، أي منذ ما قدر بـ 9.000 سنة، من جهة؛ وأن المد البشري في هذه المنطقة، كان دائما يتجه وجهة الغرب انطلاقا من الشرق، من جهة أخرى.


وبناء على هذا، يمكن القول إن من العبث أن يبحث لـ ” بربر” عن موطن أصلي، غير الموطن الذي نشأوا فيه منذ ما يقرب من مائة قرن. ومن يتكلف ذلك البحث يستوجب على نفسه أن يطبقه في التماس موطن أصلي للصينيين مثلا، أو لهنود الهند والسند، أو لقدماء المصريين، أو لليمانيين أنفسهم، وللعرب كافة، ليعلم من أين جاؤوا إلى جزيرة العرب. “[21].


وهكذا، يتبين لنا بأن أصول الأمازيغ أفريقية محلية، أصلهم من أفريقيا الشمالية، وموطنهم هو تامازغا، أو المغرب الكبير، أو شمال أفريقيا التي تمتد حتى السودان، ومالي، ونيجيريا، وبوركينافاصو، وبلاد الطوارق، وجزر كناريا…


  • • الأصل المزدوج للأمازيغيين:

هناك باحثون آخرون يقولون بالأصل المزدوج للبربر، فهم – حسب هذا الرأي- يجمعون بين السلالتين: السلالة السامية والسلالة الهندوأوربية،” فالسلالة الأولى هي الهندية الأوروبية التي نزحت إلى إفريقيا من آسيا ثم أوروبا على طريق صقلية وجبل طارق، وبالأسلوب الذي ذكرناه في قولة سابقة؛ والسلالة الثانية سامية أولى كما وصفنا، ثم التقت السلالتان بالمغرب.


وهذا ما يفسر لنا اختلاف الخصائص البشرية عند البربر في السحنة، ولون الشعر والعيون، وشكل الجمجمة، وحتى اللهجات، وهذا ما يفسر أيضا الخلاف القائم بين مصمودة وصنهاجة مثلاً.”[22].


ويعني هذا الرأي أن سلالة البربر هندية أوروبية من جهة، وسامية من جهة أخرى. أي: إن مجموعة من البربر جاءت من الهند وأوروبا، وجاءت مجموعة أخرى من اليمن والشام. ونجد لهذا التصور تجسيدا حقيقيا في منطقة الريف من الجهة الشمالية الشرقية من المغرب.


فهناك أناس بشعر أشقر يشبهون الأوروبيين كثيرا. في حين، هناك أناس آخرون يميلون إلى السلالة السامية ببشرتهم السمراء تارة، أو ببشرتهم البيضاء تارة أخرى.


  • مناقشة الآراء السابقة:

يعد الأمازيغ والعرب – في اعتقادنا – من جذور سلالية وجينيولوجية واحدة، وهي الجذور الكنعانية السامية، ومن موطن واحد هو شبه الجزيرة العربية. وفي هذا السياق، يقول ليون الأفريقي في كتابه (وصف أفريقيا):” لم يختلف مؤرخونا كثيرا في أصل الأفارقة.


فيرى البعض أنهم ينتمون إلى الفلسطينيين الذين هاجروا إلى أفريقيا حين طردهم الأشوريون، فأقاموا بها لجودتها وخصبها، ويزعم آخرون أن أصلهم راجع إلى السبئيين (أي الحميريين) الذين كانوا يعيشون في اليمن، قبل أن يطردهم الأشوريون أو الإثيوبيون منها.


بينما يدعي فريق ثالث أن الأفارقة كانوا يسكنون بعض جهات آسيا، فحاربتهم شعوب معادية لهم، وألجأتهم إلى الفرار إلى بلاد الإغريق الخالية آنذاك من السكان، ثم تبعهم أعداؤهم إليها، فاضطروا إلى عبور بحر المورة واستقروا بإفريقيا، بينما استوطن أعداؤهم بلاد الإغريق. كل هذا خاص بالأفارقة البيض القاطنين في بلاد البربر ونوميديا.


أما الأفارقة السود بمعنى الكلمة فإنهم جميعا من نسل كوش بن حام بن نوح. ومهما اختلفت مظاهر الأفارقة البيض والسود، فإنهم ينتمون تقريبا إلى الأصل نفسه، ذلك أن الأفارقة البيض، إما أتوا من فلسطين – والفلسطينيون ينتسبون إلى مصرائيم بن كوش-، وإما من بلاد سبأ، وسبأ بن هامة بن كوش-.”[23].


يتضح لنا، مما سبق ذكره، بأن موطن البربر قد يكون فلسطين، أو شبه جزيرة العرب، أو اليمن، أو الشام، أو فارس، أو بعض بلدان آسيا، أو مصر، أو اليونان، أو أوروبا، أو أفريقيا، أو يكون موطنهم هو تامازغا، بل يمكن القول بأنهم هم الذين هاجروا إلى هذه المناطق في فترات مختلفة، فاختلطوا مع هذه السلالات العرقية…


وعلى العموم، يشترك الأمازيغ مع العرب في الأصل السامي الكنعاني، وفي موطن الانحدار والانطلاق الذي يتمثل في الجزيرة العربية. وهذا الرأي هو أقرب إلى الصواب. وبعد ذلك، تفرق سكان الجزيرة العربية شذر مذر لأسباب مناخية واجتماعية ودينية، وأيضا بسبب الحروب والنزاعات الفردية والجماعية، وبسبب الفتوحات والهجرات شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.


ودليلنا المقنع، في ذلك، هو أن آدم وحواء قد نزلا، في بداية نزولهما فوق الأرض، في الشرق، ثم خلفا ذرية تكاثرت وتوسعت وتصارعت، فافترق الأبناء والأحفاد في مناطق شتى، بحثا عن مصدر عيشهم، وبحثا عن الأمن والاستقرار. فلا يعقل أن يكون الإنسان الأمازيغي قد وجد في شمال أفريقيا، قبل تواجد آدم وحواء؛ لأن ذلك سيتنافى مع أدلة النصوص الدينية ومعطياتها التاريخية والإخبارية.


ويمكن الاستعانة – كذلك – بالدليل اللغوي على الأصول الكنعانية المشرقية للبربر، ما دمت اللغة البربرية تنتمي إلى الفصيلة السامية- الحامية. ويعني هذا أن هذه الفصيلة اللغوية تؤشر على وحدة الموطن المشرقي للغة البربرية.


وفي هذا النطاق، يقول عباس الجراري: ” وإذا كانت الدراسات السلالية لم تقنع مثل هؤلاء الدارسين بالأصل الحقيقي للبربر، فإن البحث اللغوي كان أقدر على الاقتناع، حيث انتهى إلى أن اللغة البربرية تنتسب للمجموعة الحامية السامية.


فهي، بما يتفرع عنها من لهجات منتشرة في أماكن متفرقة داخل البلاد التي استقر بها البربر منذ فترة ماقبل التاريخ.أي: من غرب مصر عند واحدة سيوة شرقا حتى ساحل المحيط الأطلسي غربا، ومن شواطئ المتوسط شمالا حتى جنوب نهر نيجيريا جنوبا.[24]“.


علاوة على هذا، يمكن القول بأن أصول الأمازيغ عربية من جهة، وأوروبية من جهة ثانية، وأفريقية من جهة ثالثة. والدليل على ذلك أن ثمة ملامح يتصف بها الإنسان الأمازيغي تقربه من السلالة الأوروبية، كالشعر الأشقر، وبيض الوجوه، والعيون الزرقاء.


وهناك ملامح أفريقية تتجلى في البشرة السوداء، والطابع الزنجي، والعادات الأفريقية المشتركة خاصة في مجال الغناء والموسيقا والفنون. وهناك ملامح عربية مشرقية على صعيد اللغة، والعادات والتقاليد والأعراف، والبنية الجسدية.


  • الخاتمة:

وخلاصة القول، يمكن التأكيد بأن قضية أصول الإنسان الأمازيغي أو البربري مسألة سلالية وإثنوغرافية شائكة ومعقدة ومركبة، يصعب حلها بشكل علمي دقيق؛ نظرا لاختلاط الذاتي بالموضوعي، وتداخل الديني مع الأيديولوجي، ونقص في الوثائق والأدلة العلمية المقنعة والراجحة.


وتبقى جميع هذه التصورات والنظريات مجرد احتمالات وافتراضات، ليس لها أي أساس علمي أو مستند موضوعي مقنع أو راجح.


ومن ثم، يمكن القول بأن ثمة مجموعة من التصورات المختلفة حول الأصل الأمازيغي، فهناك التصور السامي، والتصور الحامي، والتصور الهندوأوروبي، والتصور الأفريقي والمحلي. لكن يبقى التصور السامي أقرب إلى الحقيقة والصواب؛ لوجود أدلة مختلفة ومتنوعة، تميل إلى رجحان هذا الموقف بشكل من الأشكال.


[1] محمد خير فارس:تنظيم الحماية الفرنسية (1921-1939) في المغرب، دمشق، سورية، صص:192-456.

[2] عثمان الكعاك: البربر، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية، 2003م، ص:59.

[3] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، الجزء السادس، دار الفكر، د.ت، ص:90-91.

[4] د.عز الدين المناصرة: المسألة الأمازيغية في الجزائر والمغرب، دار الشروق، الأردن، الطبعة الأولى 1999م، ص:77.

[5] ابن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، دار الكتاب اللبناني، بيروت، طبعة 1968م، المجلد السادس، ص:191.

[6] E.F.Gautier: Le passé de l’Afrique du Nord,(les siècles obscures), Payot,Paris,1952, p:139.

[7] عز الدين المناصرة: المسألة الأمازيغية في الجزائر والمغرب، ص:76.

[8] أحمد هبو: الأبجدية: نشأة الكتابة وأشكالها عند الشعوب، منشورات دار الحوار، اللاذقية، سوريا، الطبعة الأولى، سنة 1984م.

[9] محمد حقي: البربر في الأندلس، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2001م، ص:17.

[10] أحمد بوكوس: الأمازيغية والسياسة اللغوية والثقافية بالمغرب، مركز طارق بن زياد، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2003م، ص:15.

[11] محمد المختار العرباوي: البربر مشارقة في المغرب، المطبعة والوراقة الدوديات، مراكش، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2012م، ص:42-43.

[12] محمد الشطيبي: الأمازيغ (البربر) عبر التاريخ، تحقيق: الدكتور عبد الحفيظ الطيبي، رباط نيت، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2014م، ص:19.

[13] محمد الشطيبي: الأمازيغ (البربر) عبر التاريخ، ص:20.

[14] عثمان الكعاك:نفسه، ص:59-60.

[15] محمد حقي: البربر في الأندلس، ص:16.

[16] Louis Rinn: Les origines berbères, études linguistiques et ethnoloqiques,Alger,1889.

[17] G.Camps: Aux origines de la berbèrie, rites et monuments funeraires, Paris, 1961: p: 29.

[18] Gl.E.Bremond: Berbèrie et arabes, Payot, Paris, 1938.

[19] محمد المختار العرباوي: البربر مشارقة في المغرب، ص:42.

[20] محمد أخياط: لماذا الأمازيغية؟، سلسلة الدراسات الأمازيغية، منشورات الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي، القنيطرة، طبعة 1981م، ص:21.

[21] محمد شفيق: نفسه، ص:19-20.

[22] عثمان الكعاك:نفسه، ص:59-60.

[23] ليون الأفريقي: وصف أفريقيا، ترجمة عن الفرنسية: محمد الأخضر ومحمد حجي الجزء الأول، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1983م، ص:35.

[24] د.عباس الجراري: الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، مكتبة المعارف، طبعة ثانية، 1982م صص:17-18م.


المصدر

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى