نقد

محمد الهرّادي.. نشيـدُ العُزلة وترنيمةُ الغياب

في بلدةِ سوق الأربعاء، قلبِ الغرب المغربي، كان لمحمد الهَرّادي موعدٌ تجريبي مع الحياة. في حي أولاد حمّاد، أول تجمُّع سُكّاني يعود لبِضْعِ مِئاتٍ من السِّنين، الواقِع على تَلَّة تُحاذي منطقةَ الدَّعادع الغَنّاء مَربط الفقيه المُجاهد، عيسى بن الحسن المصباحي، حيث يَمتدُّ خطُّ السكة الحديد، وتستقرُّ المدينةُ الرومانيةُ القديمة فُوبِسْيَانا تحت الطبقات الجينالوجية لمَا قبل ميلاد المسيح، ومعها ملامحُ وآثارُ ثُلّةٍ من المُجاهدين ضد المَدِّ الإيبيري في المرحلة الوَسيطية، ومزيجٌ من سلاطين وحُكّام مَرُّوا من هناك ونَصَبوا مَحَلّاتهم السُّلطانية بين قبائل الغرب الكبير، في ذلك الحَيِّز من الجغرافيا والتواريخ المُرَكَّبة الضاحكة من تَزاحُم الأضداد وُلِد ونَمَا محمد الهرادي، ليكون على قلقٍ كأن الريح تَحتَه.


وُلِدَ سنة تأسيسِ “حزب الشورى والاستقلال” عام 1946، ليكون شاهدًا على صدى الصِّبيان والشباب أعضاء الكَشّافة الذين جاؤوا من فُروع المغرب احتفالًا بِتَعْيِينِ الزعيم المُقاوم، المحجوبي أحرضان، عاملًا على الرباط، فذُبِّحوا وسُحِلُوا وصُلِّبوا في مدخل حي أولاد حمّاد سنة 1956، بِعِلْمِ قياداتٍ، وعلى يدِ فئاتٍ من حزب الاستقلال، في أبشع صورة لتدبير الاختلاف الوطني سنةَ جلاء الاستعمار.


رُبما هي سيمياءٌ نَفهم بها وضعيةَ المُواطن رديف البطل السردي الإشكالي في قصص وروايات الطفل بعد أن صار كاتبًا. ومن هنا نَفهم سورياليةَ كل كتاباته المُنْشَقّة عن سلطة الواقع، وهل أكثر سوريالية من هذا المُفْتَتَح الوطني الصارخ الذي عايَنَه الصبي الغَضُّ ذو العاشرة.

بعدها بحوالي أربع سنوات، غادرت الأسرةُ نحو القصر الكبير، وتَفرّق شتاتُها في بِضع مُدُن ودولٍ، التحق الفتى بمعهدِ التعليم الأصيل ما بين سَنتيْ 1961 و1965، في حضرةِ أحد أفراد العائلة بصفته مديرَ المعهد، مُلتحِقًا بعدها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في العاصمة الرباط بالتَّوَاقُت مع أحداث النَّكبة وآثارها على إدراكِ جيلِ المرحلة، ليَجد نفسَه في مركز إعداد المُدرِّسين والتربويِّين، إلى أن انتهى به تطوافُ المهنة أستاذًا بمركز التوجيه والتخطيط التربوي.



 

 


مُتفاعِلًا مع ديناميةِ الفترة وأسئلتها وأحداثِها السياسية والثقافية اللاهِبة، دَرَجَ محمد الهرادي على الكتابة والنشر في الصُحف والمَجلاّت المغربية والعربية البارزة، مثل “المُحرر”، و”الاتحاد الاشتراكي”، و”العلم”، و”الكفاح الوطني”، و”آفاق”، و”المجلة”، و”الأقلام العراقية”، و”إبداع” المصرية، و”الآداب” البيروتية…

فانضمَّ إلى اتحاد كُتّاب المغرب سنة 1970 في أوج اشتعالِه، وكان من شُعلةِ كُتّابِ المَخاض التاريخي التَّوَّاق إلى الحداثة والمُعاصَرة، والخروج من عباءةِ الجيل الأب المُراوِح بين التقليدانية والمُحافَظة، شُعلةٌ جاءت بروحِ التجديد والتمرُّد على البنية الثقافية والسياسية.

بذلك المَنزع الوجودي التقدُّمي المُتوَثِّب، صار شاهِدًا عُضويًا على أحداث العصر، وكثير من أسمائه البارزة، وخِلًا في الكتابة والواقع لشخصياتٍ ثقافية من عيار محمد برادة، والأمين الخمليشي، وإبراهيم الخطيب، وأحمد بوزفور، وإدريس الخوري، ومحمد الأشعري، ومحمد شكري… أما علاقتُه مع محمد زفزاف فقد تَضَوَّعت بوحدةِ المَنشأ الغرباوي، وأرضِ البدايات، مدينة سوق أربعاء الغرب، في حين كانت الرابطةُ مع الشاعر أحمد المجاطي وِثاقًا وشاهدًا على وحدةِ التلاقي في معنى الفروسية.


في مطلع ثمانينيات الزمن المغربي المُرّ، أصدر الهرّادي مجموعتَه القصصية الأولى عن اتحاد الأدباء والكُتّاب العرب بدمشق، عَمّدها باسم “اللوز المر”، واصطبر قُرابةَ سبع سنوات طِوال ليُصدِر روايتَه الأولى عن دار الخطابي، عام 1988 تحت اسم “أحلام بقرة”، وفي سنة 1990 عاود الهرّادي الكَرّة مع القصة القصيرة، فنشر مجموعتَه المَوسُومة “ذيل القط” في طبعتين، الأولى عن لجنة الثقافة للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والثانية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة.

وتَفرَّغ بعدها للنشر بالمَجلاّت والمَلاحق الثقافية عازِفًا عن النشر حتى مطلع الألفية الجديدة، عائدًا إلى الرواية عام 2001، تحت عنوان “ديك الشمال”، ضمن منشورات الزمن، فاعتكف وانزوى بعدَها ما يَربو على خمس عشرة سنة، فآبَ إلى دُنيا النشر بروايته “دانتي” عن دار السليكي أخوين سنة 2015.

تلازمت الكتابةُ عند محمد الهرادي مع الاقتصاد والاقتضاب، نصوصُه السردية من المَجاميع القصصية والروايات جاءت قصيرة، وأعمالُه مَعدودة تكاد لا تَتجاوزُ أصابعَ اليد الواحدة، علاوة على تقديم ومُراجَعة مجموعةٍ من الكُتُب الأدبية والثقافية التي أثْرت المجال، فبإزميل مُلاحظاتِه الدقيقة عُولِجت وصُقِلَتْ نُصوصُ أسماء كثيرة قبل طَور النشر.


 

 

خلال السنوات الأخيرة، راوَح الهرّادي الظهورَ والاختفاءَ ما بين زمنِ حيِّ تابريكت في مدينة سلا، وزمن حيِّ التقدم في الرباط، من حين لآخر يُغير على بعض أمكِنةٍ لها سُلطةُ الحنين، ونداءُ الروح، إلى أن ابتلعَتْهُ العزلةُ العميقة في القرية السياحية بشاطئ مولاي بوسلهام، وكأنها أوبةٌ لاشعورية إلى جرسٍ قديمٍ في منطقة الغرب بعد أن خَبِرَ انكسارات الجغرافيات الأخرى، فَقد تَرَاهُ انسلَّ الى إكسير “الفندق الكبير” كُلَّمَا استبدّ به وجعُ الذاكرة وجَرّهُ الحنينُ مُرورًا بسوق الأربعاء مسقط الرأس وأصلِ الحكاية.

إذا كتب ابنُ البلد محمد زفزاف روايتَه “بيضة الديك”، فقد كتب محمد الهرادي “ديك الشمال”، على شاكلةِ لعبٍ بالكلمات زاخر بنقاشٍ صريح ومباشر مع سيرورة الكتابة، فكان من أبرز رُواد التجريب، ساخرًا عابثًا، لا يَشغلُه بناءُ السرد المألوف، أو مُواضعاتُه، كأنه يكتفي بلذّةِ الأبجديات وهي تتضامُّ وتتآلفُ، هو الذي عاش ما كتبه نصًّا وشخصًا، مُكتفِيًا بالكينونة الكتابية، ولا شيء خارجَها، لا أسفار، لا مسؤوليات، ولا حظوة، فقط طقوسيةُ الكتابة، وتلك العزلةُ القلِقةُ المُلْتاعة، إنه يَتقفّى أُثَرَ الكلمات التي تَسبح في مَلكُوتها الخاص فور أن تعبُرَ من ذاتِ الكاتب، فهل ما يزال ديكُ الشمال يُراوض أحلامَ سارده يا تُرى؟


جمع الهرادي طاقةً ساخرة أسِيّة سَبَكَ بها “أحلام بقرة”، عبر سوريالية تعكسُ حالةَ القطيع في الواقع المغربي المَمسوخ، مَسخٌ عامٌّ دفع الكاتبَ إلى الإدبار والعُزلة الضارية. ومَهما يبدو من إدبارٍ عن المجتمع في زمنِ مُغرَيات التهافُت والإقبال، إلا أن موقفَ الهرادي المُدْبِر إنما هو بشكل جدلي انخراطٌ من نوع آخر في الواقع المأمول والمَرغوب.

وبرواية “دانتي” دخل الكاتبُ طَوْرًا تجريبيا آخر جمع ما لا يجتمع، بحيث إنه تجريبٌ على تجريب، فيما قد نُسَمِّه مُجازفةً: ميتا ـ تجريب. في هذا النص، يبدو أن المللَ من العالم الأرضي جعل الكاتبَ يَرتقي بالسرد والأحداث إلى السماء، هناك في العالَم الفوقي بحثًا عن المعنى المَلحمي والأبدي، وهذا أبرزُ ما يَجمع بين الهرادي ودانتي، فالأخير، نظرًا لظُلم وتفاهة الواقع الإيطالي،

خلق عدالةً بديلةً في عالمِ سماوي أبدَعه وخلَقه من الكلمات، وتمامًا كما َأَلْهَمَ برونيتو لاتيني الكاتبَ دانتي أليغيري في صِباه من خلال القراءات المَشبُوبة وحيدًا في عِلية البيت يَتجرّع مرارةَ الحب واليُتم، فإن دانتي في دوره أَلْهَمَ الكاتبَ محمد الهرادي وهو يَتجرّعُ ضَرَاوَةَ عُزلته وقسوة خُلْوَتِه على شاطئ مولاي بوسلهام، ليكتُبَ روايَتَه بقُوةٍ سوريالية نادرة، قريبة من حالةِ هذيانٍ شعري بَلَغ ذروةَ التخييل، فإلياس بطلُ رواية “دانتي” يحملُ ملامحَ خالِقِه محمد الهرادي، كلاهُما صَمُوتٌ مُتبرِّمٌ من حياةٍ مُزيَّفة، مُتعجِّبٌ من كُلِّ راغبٍ في ازدياد.

 


ضفة ثالثة

أسامة الصغير

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى