الهرمنيوطيقاسيميائيات

قراءة في السيميولوجيا البصرية

يعد هذا المقال قراءة في بعض النظريات التي انصبت منذ الستينات على مقاربة الصورة في العديد من أنواعها.

فمنذ أن دخلت السيميولوجيا حيز النقد الأدبي، أصبحت الصورة مجالا خصبا للدراسات التي تدعي كلها الانتماء إلى علم الدلالة دون أن تقصي من حسابها الاستناد إلى نظريات التحليل اللسني أو النفسي أو الاجتماعي.

وقد أثار هذا التداخل بين مختلف مناهج العلوم الإنسانية أسئلة عديدة في البداية قبل أن تصبح السيميولوجيا علما في حاجة ماسة إلى جميع هذه العلوم برمتها. إن بعض هذه الأسئلة هي التي تنصب عليها قراءتنا في بعض مناهج سيميولوجيا الصورة.


  • اللسانيات وسيميولوجيا الصورة:

لقد حظي موضوع العلاقة بين السيميولوجيا واللسانيات بجدل واسع. وبقدر ما أثارت هذه الإشكالية مجموعة من الأسئلة ذات القيمة المعرفية والعلمية وفسحت المجال واسعا للمزيد من تحديد كل منهما ضمن حقول العلوم الإنسانية، بقدر ما أضفت على بعض هذه البحوث أحيانا طابع المزايدات والجدالات العقيمة. وهكذا أصبح الصراع بين السيميولوجي واللساني يتمحور حول ما إذا لم تكن سيميولجيا الصورة سوى نقل حرفي مباشر لمفاهيم اللسانيات وتطبيقها على النماذج البصرية.

في مقال له بعنوان “ما بعد المماثلة، الصورة”(1) يقوم كريستيان ميتز C.Metz بالكشف عن طروحات كلا الاتجاهين وأهم الثغرات التي أدت إلى هذا التعصب الحاد، ليبلور في الأخير مجموعة من الملاحظات التي تقيم الحدود والعلائق في الآن نفسه بين سيميولوجيا الصورة واللسانيات.

فمنذ أن جعل ش.س.بيرس Ch.S.Peirce من عنصر المماثلة (Lekness) الخاصية الأساسية للعلامات الأيقونية -وهو العنصر الذي ميز من خلاله العلامة الأيقونية عن مقولتي المؤشر والرمز- ظهرت مجموعة من الأبحاث تحاول جاهدةإضفاء طابع المماثلة Analogie على الصورة إلى درجة إقامة حدود فاصلة بين “لغة الصور” و”لغة الكلمات”.

صحيح أن ما يميز الصورة البصرية، في رأي ك.ميتز، عن باقي الأنظمة الدالة، ومنها اللغة خاصة، هو حالتها “التماثلية” أو ايقونيتها في اصطلاح السيميولوجيين الأمريكان، أي شبهها الحسي العام للموضوع الذي تمثله. فصورة القط تشبه القط فعلا، بينما لا يشبه القط في شيء العنصر الصوتي/قط/أو العنصر المكتوب “قط”.

غير أن الصورة ليست تماثلية سوى في شكلها العام، وهي إضافة إلى ذلك تحتوي على مجموعة من العلاقات الاعتباطية بموضوعها. فأن نجعل من عنصر المماثلة الخاصية المثلى للصورة البصرية ليس سوى عملية إسقاط للجزء على الكل. وكما لا يصح أن نعمم ظاهرة الصوتية في اللغة الطبيعية على النسق العام لهذه اللغة، فإنه لا يصح أن نغلق الصورة على نفسها وفي استقلال عن باقي الأنظمة الدالة نتيجة خاصية المماثلة التي ليست سوى جزء من مكوناتها العامة.

إن أهمية المماثلة تتجسد في كونها وسيلة لتحويل الأسنن codes(2). فعن طريق تشابه الصورة لموضوعها “الواقعي” تقوم إمكانية قراءة أو فك رموز الصورة التي تستفيد هي نفسها بالأسنن التي تدخل في قراءة الموضوع نفسه.

إلا أن هذه الأهمية تختلف من صورة إلى أخرى. ففي بعض الأشكال الأيقونية كالاتجاهات المعاصرة في الفنون التشكيلية، قد لا تفيدنا خاصية المماثلة بأية قيمة تذكر. وذلك راجع إلى غيابها إطلاقا من بعض الصور أو الرسوم، مما يضطر الدارس إلى البحث عن سبل أخرى لفهم الصورة مستندا في ذلك مثلا إلى طبيعتها الرمزية (أو الاعتباطية).

وهذا يؤدي بالضرورة إلى الخروج من الحيز المطلق للصورة لإقامة نوع من التواصل مع أنظمة دالة أخرى وفي مقدمتها اللغة لما يكتسيها هي أيضا من طباع اعتباطي.

غير أن هذا التواصل مع اللغة الطبيعية، وبالتالي مع الحقل المنهجي للسانيات، لا يعني بأي حال من الأحوال إنجاز نوع من الإسقاط للمفاهيم اللسانية على أنظمة التواصل البصرية. إذ لا يكفي “أن يكون مفهوم ما من إبداع اللسانيين كي يكون حقله التطبيقي منحصرا بشكل نهائي في الموضوعات اللسانية(…).

إن العنصر الصوتي المميز trait phonique distincitif مثلا لا يمكن إدراجه ضمن الدراسات الأيقونية، ليس لأنه من إنتاج اللسانيين، بل لأن الصورة (البصرية على الأقل) ليست صوتية”(3).

ورغم انفراد الصورة بمجموعة من الخصائص التي تجعلها تدخل طبيعيا ضمن الحقول التطبيقية للسيميولوجيا البصرية، فإنها لا تشكل حسب ك.ميتز “امبراطورية مستقلة، أي عالما منغلقا لا يقيم أدنى تواصل مع ما يحيط به. إن الصور -مثل الكلمات ومثل كل ما تبقى من الأشياء- لم يكن في إمكانها أن تتجنب “الارتماء” في لعبة المعنى، أو في ألف حركة تأتي لتعالج الدلالة في قلب المجتمعات (…). إن سيميولوجيا الصورة لا تصنع نفسها خارج سيميولوجيا عامة”(4).

إن “اللغات” البصرية تقيم مع باقي اللغات علاقات نسقية متعددة ومعقدة، ولا أهمية لإقامة تعارض ما بين الخطابين اللغوي والبصري كقطبين كبيرين يحظى كل منهما بالتجانس والتماسك في غياب أي رابط بينهما. إن العالم المرئي واللغة ليس غريبا أحدهما عن الآخر. فرغم أن تقاطعهما السني codique لم يدرس بعد بدقة كبيرة،

فإن ذلك لا ينفي أن “من وظائف اللغة الأساسية تسمية الوحدات التي تقطعها اللغة. كما أن من وظائف الرؤية منح التشكلات الدلالية للغة (واستلهام هذه التشكلات منها أيضا)”(5).

إن هذا الجدال الحاصل في مسألة العلاقة بين السيميولوجيا واللسانيات، يكاد -في نظر ك.ميتز- ينسينا في بعض الأحيان أن هذه المفاهيم السيميولوجية التي يعتبرها بعض الدارسين نقلا وتطبيقا آليا لمفاهيم اللسانيات، ليست من صميم اللسانيات وحدها، وبالتالي فليس هناك إسقاط لهذه المفاهيم على الحقل السيميولوجي، بل يتعلق الأمر باستفادة عملية من جهاز مفاهيمي ذي حمولة عامة، وهو مدين في ذلك لمجموعة من الأبحاث، بعضها لساني وبعضها الآخر منطقي وتحليل-نفسي وسوسيولوجيي الخ.

ولذلك لا يجب خلط الجهاز المفاهيمي للسانيات بنظيره السيميولوجي. إنهما ليسا بدون علاقة أحدهما بالآخر. كما أن هناك محاولات سيميولوجية تبالغ في هذا التطبيق الآلي لمفاهيم اللسانيات على الموضوعات السيميولوجية. ولكن لا يجب في رأي ك.ميتز أن نهمل، تحت هذا المبرر أو ذاك، التمييز الذي يفرض نفسه بين مفاهيم مثل الفونيم والمرفيم والكلمة والتمفصل المزدوج واللاحقة suffixe الخ (وهي مفاهيم لسانية محضة) من جهة، ومفاهيم أخرى مثل المستوى المركبي syntagme والمستوى الاستبدالي paradigme والاشتقاق dérivation والوحدة الدلالية unité significative الخ, من جهة أخرى. وهي مفاهيم تندرج بالتأكيد ضمن السيميولوجيا العامة.

ويخلص ك.ميتز إلى القول: “ليس هناك في الحقيقة أي معنى أن نكون “ضد” اللغة أو معها، ولا “مع” الصورة أو ضدها. إن محاولتنا تصدر عن قناعة بأن سيميولوجيا الصورة ستشتغل جنبا إلى جنب مع سيميولوجيا الموضوعات اللسانية (وأحيانا في تقاطع معها، لأن هناك عدة رسائل مختلطة: لا يتعلق الأمر فقط بالصورة التي يحمل محتواها الظاهر إشارات كتابية، بل أيضا بالبنيات اللغوية التي تشتغل ضمنيا في الصورة نفسها، كما يتعلق الأمر كذلك بالصور البصرية التي تساهم في تبليغ بنيات اللغة)”(6).

إن أي تعصب دوغمائي للكلمة (اللغة) أو الصورة لا يزيد إلا من تعميق الهوة بين ما يسمى بالحقول domaines في ميدان المعارف الإنسانية وإحاطة كل “حقل” بنوع من الاستقلالية التي تمنع من إقامة أي تواصل مع حقول أخرى. ومفهوم “الحقل” يشكل في نظر ك.ميتز “وحدة ما قبل علمية” pré-scientifique لأن كل حقل “يشكل وحدة تقليدية، وحدة يتوارثها الباحثون عبر التصنيفات المعهودة و “الساذجة” التي تروج في المجتمعات التي ينتمي إليها هؤلاء الباحثون”(7).

ويتساءل ميتز: “ما الذي يثبت لنا أنه في المشروع السيميولوجي، تعتبر التقسيمات الأكثر أهمية تلك التي تتوزع إلى “حقول”؟ ما الذي يؤكد لنا أن العمل السيميولوجي يجب أن يتوزع إلى سلسلة من “القطاعات” المصطفة واحدة بجانب الأخرى مقيمة فيما بينها هذا النوع من العلاقة التي يطلق عليها المناطقة اسم الخارجانية extériorité (غياب أية دائرة مشتركة وأي “إنتاج منطقي”: حقل الصورة، حقل الموسيقى، حقل الأدب…الخ. أليس في هذه الطريقة من التفكير خطر العبور إلى الميتافيزيقا؟”(8).

إن بعض الحقول تقابل نوعا ما مفهوم “الأجناس”، مثل الإشهار الذي يمكن أن يستدعي إلى حقله اللغة الملفوظة والكتابة معا، الصورة الثابتة والصورة المتحركة.. ولكنه يظل هو الإشهار نفسه من خلال مقصدياته ووظائفه الاجتماعية. وهناك بعض الحقول التي تشترك في خاصية واحدة يطلق عليها يالمسليف Hjelmslev ب “مادة التعبير” matière de l’expression.

فالرسم مثلا يشكل “حقلا” لأنه يمتلك هذه الخاصية (مادة التعبير). أي أن الصورة في الرسم تتميز بكونها مصنوعة باليد، فردية وثابتة. ونفس الشيء بالنسبة للصورة الفوتوغرافية، فهي كالرسم فردية وثابتة ولكنها تختلف عنه وتشكل حقلا مستقلا بذاته لكونها منجزة آليا. وكذلك الشأن بالنسبة للصورة السينمائية، فهي مصنوعة آليا ولكنها متعددة ومتحركة ومتآلفة مع باقي العناصر السمعية (كلام، موسيقى…) والإشارات الكتابية.

أما التحليل السيميولوجي، فإن التصنيفات التي يقوم بها لأنظمة الدلالة لا تأخذ في الاعتبار وحدات المقصدية الاجتماعية الواعية. فالوحدات التي تحاول السيميولوجيا استنباطها والتوجه نحوها “هي التشكلات البنيوية Configurations structurales للأنظمة، أي “الأشكال” بالمعنى اليامسليفي (نسبة إلى ل.يالمسليف) للمصطلح (أي أشكال المحتوى وأشكال التعبير)”(9).

ولذلك، فإن دراسة الصورة في رأي ك.ميتز لا يقتضي بالضرورة البحث عن نظام وحيد وجامع للصورة يقوم لوحده بإعادة الاعتبار لمجمل الدلالات الملحوظة في الصور وينفي إمكانية ظهور هذه الدلالات خارج الصورة. فليس كل شيء إيقونيا في الأيقونة، بينما يمكن العثور على ما هو أيقوني خارج الأيقونة. ويخلص ميتز إلى مجموعة من الملاحظات:

1-إلى جانب مشكل الأيقونات المنطقية التي تحدث عنها ش.س.بيرس، ومنها بالتحديد الأيقونات البصرية، باستطاعة الخطاب البصري ألا يكون تماثليا. لأن المماثلة البصرية تخضع لتغيرات كمية، كمسألة “درجات الأيقنة” degrès d’iconisation عند بعض المشتغلين بالحقل السيميولوجي، ومشكلة “الأسلبة” stylisation في مستوياتها المختلفة.

2-كما يخضع الخطاب البصري أيضا لتغيرات كيفية. فمفهوم التشابه يختلف من ثقافة إلى أخرى. وفي الثقافة الواحدة نعثر على مجموعة من محاور التشابه، لأن تشابه الشيئين يتم دائما في علاقتهما برابط ما. ولذلك، فإن التشابه يشكل في حد ذاته نظاما أو مجموعة من الأنظمة.

3-إن الخطاب البصري يستطيع أن يشكل درجة قوية من الأيقنة دون أن يكف عن احتواء علائق منطقية نسقية غير أيقونية (لأن بعضها اعتباطي) رغم أن مجال بروزها هو الأيقون.

4-إن مجموعة من الخطابات البصرية التي نعتبرها عادة “بصرية” هي في الحقيقة نصوص مختلطة textes mixtes. من ذلك مثلا: السينما الناطقة والصور المرفوقة بالكتابة.

5-هناك مجموعة من الخطابات البصرية التي ليست مختلطة في معنى معين، ولكنها مختلطة في بنياتها، فالصورة لا تملك سننا خاصا بها لوحدها ويقوم بتغييرها كليا، بل يتم تبليغ رسالتها بواسطة أنظمة مختلفة، بعضها أيقوني محض وبعضها يظهر أيضا في خطابات غير بصرية. وهنا تبرز مجموعة من الإشكالات السيميولوجية، منها إشكال الأيقونية iconographie مع بانوفسكي Panovsky وإشكال حضور مجموعة من الأسنن المختلفة في الصورة الواحدة (أ.إيكو U. Eco) وبشكل عام إشكال التداخلات السوسيو-ثقافية للصورة(ر.بارت R.Barthes).

6-إن التعارض القوي بين “البصري” و”اللغوي” اختزالي جدا، لأنه يسقط من حسابه كل حالات التقاطع والتطابق والتركيب. وهو تعارض جزئي كذلك لأنه يهمل كل الدلالات التي ليست لسانية محضة ولا بصرية محضة.

7-إن استعانة الدراسات الأيقونية ببعض المفاهيم النظرية التي تخص الدلالة signification والتواصل communication والإبلاغ information لا يجب اعتبارها تطفلا على المفاهيم اللسانية التي يعتقد بعض المدافعين عن “الحصن” البصري أنها غريبة عن السيميولوجيا. صحيح أن هناك بعض المفاهيم اللسانية لا يسمح لها حقلها الخاص بأن تكون عرضة للتصدير إلى حقول أخرى، ولكن هناك مفاهيم أخرى تدخل ضمن الجهاز المنهجي للسيميولوجيا، وكل تحليل أيقوني يريد تجاوز هذه المفاهيم أو إسقاطها من مقارباته لا يستطيع أن يكون دراسة للدلالة.

8-إن التفكير في الصورة هو في غالب الأحيان إنتاج لا للصور بل للغة(الكلمات). ومن هذا المنظور، فإن اللغة تعد بمثابة لغة واصفة métalangage بالنسبة للغات (كموضوع) المختلفة وحتى غير اللسانية منها. ونستطيع أن نعتبر مع ج.ل.شيفر J.L. Schiffer أن الصورة موجودة لأننا نقرأها.

غير أن ما يظل صحيحا -في نظر ك.ميتز- هو أن السيميولوجيا البصرية ليست أساسا نشاطا بصريا. وهذا ما يجعل إغلاق حقل الصور على نفسه أمرا لاغيا والنقاء البصري أسطورة.

9-ولهذا كله، فإن المماثلة الأيقونية -وهو مفهوم يجب أن يحاط بعناية كاملة لأنه يحدد الخاصية الأكثر حضورا في العديد من الصور- لا يمكن أن يشكل بالنسبة للتفكير في الصورة غير نقطة انطلاق (ليس ضروريا دوما، ولكنه ملائم ومركزي في غالب الأحيان). فما هو أبعد من المماثلة هو نقطة البداية بالنسبة للسيميولوجي، وإلا فلن يبقى هناك ما نقوله عن الصورة سوى أنها مشابهة لموضوعها.

الصورة الذهنية وإشكالية المماثلة:

إن انعكاس أشياء العالم الخارجي على ذهنية الفرد في شكل صورة ذهنية منسوجة وفق رؤية محددة، لا يعني بأي حال من الأحوال أن وعي الفرد يشكل فضاء مستقلا بذاته ومستعدا في كل لحظة لاستقبال ما شاء من الصور.

لقد فندت هذه الفكرة بعمق من طرف هوسرل والفلسفة الظاهراتية Phénoménologie وعلم النفس الشكلي (الجشطالتية) التي أقرت بأن الوعي ليس محتوى للصورة كشيء يظل مخزونا في الذهن.

يقول ج.ميتري J. Mitry في مؤلفه “استتيقا وسيكولوجيا السينما”(10): “إن الوعي لا يوجد في حد ذاته، فهو ليس شكلا جوهريا substantiel للواقع. إن هذا الشيء الذي أشعر به لا يوجد في وعيي، بل يشكل معطى لهذا الوعي الذي ليس شيئا آخر غير الإدراك الحسي نفسه منجزا ومحققا: الإدراك الذي “يعرف” بواسطة ما هو مرئي.

إن الوعي بالموضوع المحسوس يختلط بالموضوع الذي نعيه ونشعر به. فبالنسبة لي لا وجود للوعي إلا من خلال الموضوع، كما لا وجود للموضوع كموضوع إلا عبر الوعي. إن الموضوع المحسوس في ارتباط متبادل بالواقع المرئي وبالإدراك الحسي”(11).

ولذلك فالصورة هي الشكل الذي من خلاله يبرز التفكير على سطح الوعي، فهي ليست محتوى نفسيا ولا واقعا ساكنا أو شيئا ما يخدم التفكير ويوجد سابقا عنه. إن الصورة “نشاط ذهني وفعل إرادي. وفي استقلالها عن كل ذلك لا تساوي الصورة أي شيء”(12).

الصورة فعل إرادي، لأن ولوجها حقل النشاط الذهني لا يتم إلا عبر اختيار حر. فنحن لا نستطيع -في نظر ج.ميتري- رؤية صورة الكرسي إلا بالتفكير في الكرسي، ولا نستطيع التفكير فيه إلا إذا كان الحافز على ذلك اختيارا حرا نقوم به، أي إلا إذا توفرت لدينا إرادة لذلك. ومن ثمة فإن الصورة الذهنية ليست سوى نتاج لإرادة موجهة نحو الموضوع. ولأن الصورة “إرادة ووعي بالإرادة، تفكير ووعي بالتفكير، فإني أملك وعيا بها كصورة، مع العلم أنها لا توجد إلا بقدر ما أطلبها، ولا يمكن خلطها بما يأتيني من الخارج ويفرض نفسه على وعيي”(13).

ومن هنا فإن المماثلة التي يعتبرها السيميولوجيون الخاصية الأساسية للصورة لا تعني أن التشابه انعكاس آلي وكلي للموضوع الذي تحمله الصورة. إن الصورة، أية صورة، لن تكون أبدا هي نفسها إذا كانت مجرد نقل “موضوعي” للعالم الخارجي. فهي فن أولا، وشكل جمالي قبل أن تكون قناة إبلاغية لخطاب ما. وهنا يكمن تماثلها أوشبهها النسبي لموضوعها (الواقع).

فالصورة الفوتوغرافية مثلا “إنتاج “آلي” لواقع منظور إليه عبر عدسة مرئية” ولكن “كل صورة فوتوغرافية هي من صنع الفوتوغرافي”، فهو الذي يختار موقعه ضمن عملية التصوير، ويحدد إطار الموضوع الذي يلتقط، ويضبط قوة الإنارة وكميتها…الخ. إن الصورة الفوتوغرافية خاضعة دائما لتأويل ما، وهي “شهادة على رؤية معينة. ومن ثمة فهي مشحونة بذاتية واضحة”(14). والصورة الفوتوغرافية المشابهة لموضوعها -في نظر ج.ميتري- هي تلك التي تتوفر على الخصائص المشتركة بين جميع الصور بالمعنى العام للكلمة.

إن ما يثبت هذه الاستقلالية النسبية للصورة عن الواقع الذي “تنقله”، هو الفرق الواضح بين الصورة السينمائية والواقع الذي تنتجه. فالشخوص السينمائية لا تستطيع الانتقال في الفضاء الفيلمي إلا عندما يسمح لها المخرج بذلك، بينما لها كامل القدرة للتحرك في الفضاء الواقعي متى وكيفما شاءت. فالصورة السينمائية، وهي معروضة على الشاشة، تنفصل عن كل الأشياء التي تجعل منها صورة. إنها مستقلة وحرة. بينما الصورة المدركة حسيا لا تنفك أبدا عن الأشياء وليس لها وجود خاص، لأن وجودها مقترن بوجود تلك الأشياء نفسها.

غير أن الصورة ذات الإدراك الحسي ليست في الواقع سوى انعكاس للعالم الخارجي في وعي الذات المدركة. فعبر الرؤية التي تطل على الأشياء المحسوسة ينتقل واقع هذه الأشياء إلى الوعي لكي يضفي هذا الأخير على الواقع المرئي الصورة التي نسجها بواسطة الرؤية. إن موضوع الرؤية يتشكل في الذهن مع مجموعة الانطباعات الحسية. وبارتباط متبادل بالواقع المرئي وبمعطيات الإدراك الحسي، تصير الصورة هي ذات الموضوع نفسه كما هو مرئي. فالموضوع إذن بعبارة ش.برادلي Ch. Bradly هو “المحتوى المثالي لمجموعة من الإدراكات الحسية”(15).

ولتعزيز هذا الطرح يمدنا ج.ميتري بالمثال التالي:

“يستحيل على المرء معرفة الوجه الداخلي للجسم الصلب. وفي الواقع بمجرد إدراكه لن يبقى هناك مفهوم ل “الداخل”. فإذا كسرت إناء الفخار مثلا، فإن وجهه الداخلي يظهر كمساحة، أي كوجه خارجي. إن مفهوم “الداخل” هو “من تشييد الذهن”(16).

إن علاقة الصورة الذهنية بالواقع المرئي مسألة في غاية التعقيد، وأعقد منها تلك العلاقة التي تربط الصورة الأيقونية (لوحة تشكيلية، صورة فوتوغرافية…) بموضوعها من جهة وبالصورة الذهنية من جهة أخرى. إن الصورة الأيقونية، وهي تحاول “نقل” موضوعها مراعاة لمبدأ المماثلة أو التشابه، تمد الوعي بانطباعات خادعة. ففي لوحة تشكيلية أو صورة فوتوغرافية، يعطينا المنظور perspective “انطباع” العمق والامتداد. ولكن هذا الإحساس ليس سوى فكرة. أما في السينما، فإن تسلسل حركات الصور، ثم تحرك الشخوص، أمور تجعلنا نحس فجأة بالعمق في المكان. إن “الحركة تحدد الإحساس بالعمق وتخلقه فعلا”(17).

  • العلامة الأيقونية:

إن تعريف العلامة الأيقونية على أنها كل علامة مشابهة لموضوعها، تعريف نسبي جدا، ولا يغطي خصائص العلامة الأيقونية بجملتها. إنه بالأحرى تعريف ناقص لا يأخذ بعين الاعتبار طبيعة هذه المماثلة بين العلامة والموضوع الذي تمثله، مما حذا بالباحث ش.موريس Ch. Moris إلى إعطاء هذا التعريف صيغة أكثر دقة وتحديدا. فالعلامة الأيقونية بالنسبة لهذا الباحث هي كل علامة تمتلك بعض مظاهر الموضوع الذي تمثله.

وهكذا، فإن صورة الشخص Portrait ليست علامة أيقونية بشكل مطلق، لأن اللوحة التي تحمل هذه الصورة ليس لها أية قدرة على الكلام أو الحركة التي يملكها الشخص المصور، وهذا يجعلنا نقول مع أ.إيكو إن صورة الملكة إليزابيت (مثلا) ليست هي الصورة التي وضعها الرسام أنيكوني Annigoni، بل هي الملكة نفسها (أو “نسخة” محتملة في الخيال العلمي). وهنا يؤكد ش.موريس أن العلامة الأيقونية هي تلك التي تشبه موضوعها في بعض مظاهره، وبالتالي “فالأيقونية iconicité مسألة درجة”(18).

يعتبر أ.إيكو من الباحثين الذين تعرضوا بتحليل دقيق لهذا النوع من التفسير للعلامة الأيقونية. فالإشكال بالنسبة له يكمن كله في هذه “المظاهر” المشتركة التي يتحدث عنها ش.موريس بين العلامة وموضوعها. إنه تعريف يرضي العقل ولا يرضي السيميولوجيا”. لنتأمل -حسب أ.إيكو- ملصقا إشهارا، حيث تمتد يد ممسكة بكأس تفيض منها رغوة الجعة، وعلى الجسم الخارجي للكأس يظهر غشاء رقيق من البخار يعطي الإحساس (كمؤشر) بالبرودة.

هذا المركب البصري syntagme visuel علامة أيقونية. ولكن ما هي خصائص الموضوع التعييني dénoté التي تمثلها هذه العلامة؟

إنه لا يوجد -في رأي أ.إيكو- على صفحة هذا الملصق الإشهاري جعة ولا كأس ولا بخار بارد، ولكن حين نرى كأس الجعة، فإنه يتبادر إلى الذهن الكأس والجعة والبرودة. وهي عناصر لا نحس بها، بل نحس ببعض المثيرات البصرية stimulus visuels كالألوان والروابط المكانية والانعكاسية الضوئية…الخ (أي بمجموعة من الأشياء المنسقة مسبقا في حقل إدراكي ما) نقوم بترتيبها إلى أن تتشكل لدينا بنية مدركة.

واستناد هذه البنية إلى قاعدة التجارب المكتسبة يحدث سلسلة من التداعيات الحسية ويسمح لنا بالتفكير فورا أن ما نشاهده في هذا الملصق هو “جعة باردة في الكأس”. وينطبق هذا على أشكال بصرية أخرى كالرسم مثلا، حيث نحس ببعض المثيرات البصرية ونقوم بترتيبها في بنية مدركة، ونشتغل في ذلك على مجموعة من معطيات تجاربنا السابقة، أي استنادا إلى تقنيات مكتسبة، أو بالأحرى إلى نظام من الأسنن.

وهكذا فإن العلامات الايقونية -حسب أ. إيكو لا تمتلك خصائص الموضوع الذي تمثله، بل تقوم بإنتاج بعض شروط الإدراك المشترك بين العلامة وموضوعها. وعملية انتقاء هذه المثيرات البصرية هي التي تسمح بتكوين بنية إدراكية تمتلك -بالنسبة إلى أسنن التجربة المكتسبة- نفس دلالة التجربة الواقعية التي تمثلها العلامة الأيقونية.

يقول ك.ميتز بهذا الصدد: “إن الصورة ليست إشارة إلىشيء آخر غيرها، بل هي الحضور الزائف pseudo-présence لما تحتويه هي نفسها. يوجد ثمة تعبير حين يكون “المعنى” -إذا صح القول- ملازما لشيء ما، منبثقا منه مباشرة وممتزجا بشكل هذا الشيء نفسه”(19).

إن العلامات الأيقونية لا تنتج بعض شروط إدراك الموضوع، إلا بعد اختيارها لهذه الشروط وفق أسنن عرفية تحتوي على مجموع معارف الشخص عن الموضوع الذي تمثله العلامات الأيقونية، كما يدركه في الواقع. والمثال الذي يضربه أ.إيكو في هذه الحالة يأخذ بعين الاعتبار هذا الفارق بين معرفتنا المسبقة وعدم معرفتنا للأشياء التي تحيط بنا.

ويشكل المحيط الثقافي للفرد عاملا في اكتساب هذه المعارف والأسنن العرفية. فحين نشاهد من بعيد، في حديقة الحيوان مثلا، حمار الوحش المخطط، فإن أول العناصر التي نلحظها فورا هي الخطوط، وليس صورة جسمه التي تشبه مثيلتها عند الحمار أو البغل. ولكن إذا افترضنا، مع أ.إيكو، أن ثمة مجموعة بشرية إفريقية حيث لا يوجد غير الحمار الوحشي ذي الخطوط والضبع، وحيث يجهل تماما وجود الحصان والحمار والبغل، فلكي يتم التعرف على الحمار الوحشي، ليس ضروريا تمييزه بالخطوط التي يحملها، بل يمكن التعرف عليه حتى بالليل، كظل فقط، دون التفكير إطلاقا في حيوان آخر غيره.

ولكي يتم رسم الحمار الوحشي، يصبح ضروريا داخل هذه المجموعة الإفريقية التركيز على الوجه وطول القوائم، وذلك لتمييزه عن الضبع (الذي يملك هو الآخر خطوطا). وهنا لا تصبح الخطوط المشتركة عاملا مميزا.

غير أن الإشكالية التي تنبع من العلامة الأيقونية كعلامة تمتلك بعض خصائص موضوعها، تتمثل في السؤال التالي: هل هذه الخصائص المشتركة هي خصائص الموضوع الذي نعرفه؟

إن الطفل الذي يقوم برسم سيارة مع إبراز عجلاتها الأربع، ينتج في الحقيقة خصائص الموضوع الذي يعرفه. وشيئا فشيئا يتعلم الطفل عملية تسنين علامته، فيرسم سيارة بعجلتين فقط، ثم يشرح لنا بأن العجلتين الأخريين مختفيتان (أو لا نراهما): إنه ينتج هنا إذن الخصائص التي يراها.

وإذا كان للعلامة الأيقونية بعض الخصائص المشتركة مع موضوعها، فإن هذه الخصائص ليست خصائص الموضوع أو الشيء الذي تمثله، بل خصائص النموذج الإدراكي لهذا الشيء. إننا نقرأ ونفكك أسنن العلامة الأيقونية بواسطة نفس العمليات الذهنية التي نستخدمها لتشكيل الموضوع المدرك.

ومما يدل على أن العلامة الأيقونية لا تمثل دائما موضوعها بشكل مطلق، هو أنها مرفوقة في غالب الأحيان بنص مكتوب… ومهما كانت هذه العلامة واضحة وقابلة للتعرف عليها فورا، فهي تبدو محملة دائما بغموض ما، كأن تشير مثلا إلى العام دون الخاص… ولذلك فهي تتطلب في أنواع التواصل التي تتوخى التركيز والوضوح غير القابل للتأويل، أن تكون مدعمة بنص لغوي (مكتوب). وتلك هي حالة الصورة الإشهارية مثلا.

إشكالية التمفصل المزدوج في السيميولوجيا البصرية:

في تناولها لأنظمة التواصل، ترفض بعض الدراسات الاعتراف بكل نظام لا يخضع لمبدأ التفمصل المزدوج double articulation كما هو قائم في اللغة الطبيعية، وتنزع عنه بالتالي صفة “لغة”.

ونجد في مقدمة هذا الاتجاه العالم الأنتروبولوجي ك.ل. ستراوس C.L. Strauss الذي يؤكد أنه لا توجد ثمة لغة إذا لم يوجد مبدأ التمفصل المزدوج. وإذا كان يعتبر الرسم لغة، فلأن هذا الفن يتوفر في رأيه على وحدات من الدرجة الأولى هي بمثابة مدلول Signifié حيث يقابلها في اللغة الطبيعية مفهوم المونيم. وتعتبر أشكال الرسم وألوانه وحدات من الدرجة الثانية لأنها وحدات اختلافية unités différentielles يقابلها في اللغة الطبيعية مفهوم الفونيم.

ينعت أ.إيكو هذا الاتجاه بـ”الدوغمائية”، ويفند محتواه بالتأكيد على أن هناك أنظمة تواصلية يأخذ فيها التمفصل أشكالا متعددة… وهناك أنظمة أخرى لا تتوفر إطلاقا على مبدأ التفمصل المزدوج، وبالتالي فإن “التفمصل المزدوج ليس عقيدة dogme“. كما أنه ليس كل نظام تواصلي مؤسس على “لغة” ما أقرب إلى أسنن اللغة الطبيعية. وليس من الضروري أن تكون كل لغة ذات تمفصلين ثابتين.

وعلى عكس ذلك يجب -في نظر أ.إيكو- التأكيد على أن كل نظام تواصلي ينبني على سنن code، وأن كل سنن لا يخضع ضرورة لتمفصلين ثابتين (فهو قد لا يملك اثنين فقط وليست تمفصلاته ثابتة). فمن الأنظمة التواصلية ما لا يتوفر سوى على تمفصل واحد كترقيم غرف الفنادق، حيث أن الرقم “20” مثلا يدل عادة على تعيين الغرفة الأولى من الطابق الثاني.

فهذه العلامة التي يطلق عليها أ.إيكو بـ”السيم” sème مجزأة إلى وحدتين: الوحدة ال”2″ التي تدل على الطابق الثاني والوحدة “0” التي تدل على الغرفة الأولى. ونفس الشيء ينطبق على بعض علامات الطرق مثل العلامة التي تحمل دائرة بيضاء بداخلها صورة دراجة عادية ومحاطة بالأحمر.

فهذه العلامة التي تدل على أن الطريق أو المكان ممنوع على أصحاب الدراجات العادية، مجزأة إلى وحدتين أو إلى علامتين: الأحمر الذي يدل على المنع، وصورة الدراجة التي تدل على راكبيها. ومن هذه الأنظمة أيضا ما يخضع بتمفصل مزدوج ما للغة الطبيعية (المونيم والفونيم)، والأرقام الهاتفية ذات الستة أعداد.

فكل زوج من هذه الأرقام يدل على موقع معين (مدينة، حي، طريق…)، والعددان المكونان لكل زوج لا يدلان منفصلين على أي شيء. ومنها ما لا يخضع سوى للتمفصل الثاني، مثل خطوط الحافلة المرقمة بعددين. فالاتجاه رقم 12 مثلا يدل على المسافة بين المكان “أ” والمكان “ب”. فهذا السيم مجزأ إلى العدد “2” والعدد “1” اللذين لا يدلان منفصلين على شيء.

وفي معالجته للصورة السينمائية، يتوصل أ.إيكو إلى أن لغة السينما هي وحدها من بين كل الأنظمة التواصلية التي تنفرد بتمفصل ثلاثي. فهناك أولا الصور figures التي تنتظم في شكل علامات، ولكنها ليست جزءا من مدلول هذه العلامات.

فإذا أخذنا -حسب أ.إيكو- صورة figure منعزلة من العلامة اللغوية “كلب”، فإن هذه الصورة وحدها لا تحيل على جزء من الحيوان/كلب/ وبالتالي، فإن عزل علامة تدخل ضمن انتظام مجموعة من العلامات، لا يدل على جزء مما تدل عليه هذه العلامات منتظمة.

لقد توصل أ.إيكو إلى هذه النتيجة في إطار تعقيبه على الباحث السينمائي بازوليني Pasolini الذي يعتبر اللغة السينمائية ذات تفصل مزدوج. ويحدد هذا التفمصل في:

1-الوحدة الصغرى للغة السينماتوغرافية، وهي كل الأشياء الواقعية التي تساهم في تكوين البعد Plan. وهذه الوحدات الصغرى هي “السينام” التي تقابل “الفونيم” في اللغة الطبيعية.

2-إن “السينام” تشكل انتظاما في وحدة أكبر هي البعد الذي يقابل “المونيم” في اللغة الطبيعية. ويفند أ.إيكو هذا الطرح بالتأكيد على أن:

1-الأشياء الواقعية التي تشكل البعد هي العلامات الأيقونية. وهذه الأخيرة ليست أمورا واقعية، بل حقائق عرفية.

2-مفهوم “البعد” لا يعادل مفهوم المونيم. و”السينام” ليست وحدة تعادل وحدة الفونيم، لأن “الفونيمات لا تشكل أقساما من مدلول مجزأ”.

إن إسناد مفهوم الواقع إلى العناصر المكونة للبعد ناتجة عن تشبث بازوليني Pasolini بمفهوم التماثل بين الصورة السينمائية والواقع المرئي الذي تمثله. وذلك ناتج أيضا عن اعتبار السينما كسيميولوجيا للواقع. وهو ما حذا بـ أ.إيكو إلى الرد على هذا الطرح بإعطاء الخطاب السيميولوجي تعريفا أكثر دقة، إذ يعتبر السيميولوجيا خطابا يتمسك “باختزال الوقائع الطبيعية إلى ظواهر ثقافية وليس بجر الوقائع الثقافية إلى ظواهر طبيعية”(20). ومن ثمة فإن الإشارة gestualité البشرية (ارفع اليد، أضحك، أرقص…) ليست أشكالا طبيعية وإنما هي أشكال عرفية وثقافية، وهو ما يسمح بوجود سيميولوجيا للغة الإشارة والحركة تسمى بالسيميولوجيا الإمائية kinésique.

  • إشكالية اللغة ووظيفتها في خطاب الصورة:

في مقال له بعنوان “من أجل سيميولوجيا للصورة”، يحاول الباحث ج.مونان G. Mounin إعادة النظر في مجموعة من عناصر الخطاب السيميولوجي للصورة، ويطرح أسئلة تتعلق ببعض مظاهر الصورة التي تجعل من الخطاب السيميولوجي خطابا مشروعا لقراءة هذا المتن البصري. وأول هذه الأسئلة تتمثل في ما إذا كانت الصورة وسيلة للتواصل.

إن إسناد الوظيفة التواصلية لخطاب ما يعني أساسا أن هذا الخطاب قد أنتج بغرض تبليغ رسالة ما. وفي حالة الصورة (الرسوم البيانية، الخرائط، الصور الوثائقية..الخ) لا يمكن أن نعدم هذه الوظيفة التبليغية/التواصلية. غير أن هذه الفكرة لا يجب -حسب ج.مونان- أن تعطينا الانطباع المطلق عن امتلاك الصورة لهذه الوظيفة وحدها.

فعندما يكون الشيء المبلغ عن طريق الصورة إحساسا أو انفعالا ما، لا يبقى هناك حديث عن رسالة message بمفهومها الإبلاغي فقط. إن الصورة “تسعى في غالب الأحيان وبشكل واع إلى إنتاج أثر شبه بيولوجي أو صدمة، أي أنها مثير stimulus موجه إلى الحصول على رد فعل، وهي إذن مختلفة تماما عن الرسالة ذي الحمولة الإبلاغية”(21).

ويتعلق التساؤل الثاني في مقال ج.مونان بإمكانية اشتغال الصورة كلغة. هل يمكن الحديث عن لغة للصورة على غرار اللغة الطبيعية التي تشتغل عليها اللسانيات؟ هل يمكن التسليم بوجود تشاكل عام بين الصورة واللغة من حيث انتظام بنياتها؟

يجيب ج.مونان عن هذه الأسئلة بالنفي. فليس كل نظام للتواصل لغة. كما أن اللغات الطبيعية تنفرد بخصائص لا يشاركها فيها نظام تواصلي آخر، وهي التي تحدد طبيعة اشتغالها السيميولوجي.

ويتمثل الفارق الكبير بين اللغة والصورة -حسب ج.مونان في انفراد اللغة الطبيعية بالخاصية الصوتية التي تجبر الرسالة اللغوية على الاشتغال في الزمن، مما يستحيل معه ظهور وحدتين صوتيتين في نقطة زمنية واحدة ضمن السلسلة الكلامية. إن هذه الخاصية التي يطلق عليها اللسانيون “الخاصية الخطية” هي التي تميز اللغة الطبيعية عن مجموعة من الأنظمة التواصلية وفي مقدمتها الصورة. فوحدات الرسالة في الصورة تبرز كلها ملتحمة في المكان وفي اللحظة ذاتها.

يقول ج. مونان: “في الخطاب اللغوي، كل الملفوظات تتتابع الواحدة تلو الأخرى في الزمن، وفي كل مرة نحصل على رسالة واحدة، بينما تظهر الصورة كخطاب كل رسالاته الممكنة متزامنة الحضور على الصفحة. ومن هنا تتنوع المقاربات والقراءات والتأويلات الممكنة”(22).

وإذن، إن كان ثمة قاسم مشترك بين اللغة والصورة، فإنه لا يتعدى بعض المفاهيم مثل الدليل والمدلول والرسالة… وهنا يتوقف النسيج المشترك بين الخطابين. أضف إلى ذلك أن هذه المفاهيم تشكل عناصر مشتركة بين جميع أنظمة التواصل.

غير أن فكرة الخاصية الخطية للغة الطبيعة، إن كانت تشكل فارقا حاسما وأساسيا عند ج.مونان بين اللغة وباقي الأنظمة التواصلية، فإنها عند مجموعة أخرى من السيميولوجيين، ليست مقياسا لهذا التمييز. ويستند هؤلاء في ذلك إلى أنه رغم الحضور المتزامن لخطابات متعددة ضمن الصورة الواحدة، فإن قراءة وتفسير المكونات الخطابية لهذه الصورة، ليست ممكنة إلا عبر قراءة خطية.

ومعنى ذلك أن تركيز البصر على الصورة لا يمكن أن يمدنا دفعة واحدة بكل الرسالات والدلالات الممكنة. إن ذلك يقتضي أن تقوم العين بمجموعة من الحركات (عمودية وأفقية ودائرية..الخ). وضمن هذا الاشتغال البصري ثمة تسلسل خطي لوحدات الرسالة في الصورة. من هنا يقترح الباحث ج.ش. شيبات J.Ch. Chebat قراءة خطية للصورة، ويؤكد أنه انطلاقا من الحركة الخطية للبصر تتشكل بلاغة الصورة(23).

غير أن الحديث عن الصورة كلغة تستقل بعناصرها التي تميزها عن باقي الأنظمة التواصلية الأخرى، ينتج عنه بالضرورة التساؤل عن “قوانين” اشتغال الصورة. هل يمكن الحديث إذن عن “نحو” للصورة، أي عن القواعد التي تشكل نظامها السيميولوجي الخاص بها؟ وهذا يدفع بـ ج.مونان إلى توليد أسئلة أخرى: ما هي الوحدات الوظيفية في الصورة؟ وهل كل ما يوجد في الصورة يشكل وحدة وظيفية؟

إن إجابة قاطعة ودقيقة عن هذه الأسئلة ليست ممكنة. فالصعوبة تكمن في هذا الحديث “الفضفاض” والعام عن الصورة دون تحديد أي نوع من الصور نقصد. ففي الرسوم البيانية والعلامات الطرقية، ثمة بشكل عام وحدات اعتباطية arbitraire. وفي صور أخرى مثل الرسم والصباغة والصور الفوتوغرافية، فإن وحداتها ذات طابع رمزي symbolique بالمعنى السوسيري (نسبة إلى دي سوسير) للمصطلح. وهكذا، فإن السحاب المرسوم (دال) يمثل، في رأي ج.مونان، السحاب في الواقع (المدلول) وصورة كرة حمراء تدل على كرة حمراء.

ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد من الأشكال البسيطة، فهناك -حسب ج.مونان- تحولات لا نهائية ابتداء من العلامة الاعتباطية التامة (الهلال الأخضر الخاص بالصيدليات) مرورا بالرموز الأشد عرفية (شوكة الطعام والسكين بالنسبة للمطاعم) حتى الرموز الخالصة (صورة البيت وهي تدل على أن الأمر يتعلق بـ”هذا البيت”). وتصير المسألة أكثر تعقيدا حين يتعلق الأمر بالصور الأشد كثافة في بنائها الدلالي (لوحات الفن السيريالي مثلا)، حيث يغيب كل مؤشر اعتباطي أو رمزي يمكن أن يساهم في قراءة الصورة وحصر مجالها التأويلي.

إن هذه الصعوبة في خلق نظام سيميولوجي، حذت بأحد الباحثين، وهوأ-بليسي A.Plécy في كتابه “نحو أولي للصورة”(24)، إلى التفكير في إيجاد طرق توجه القراءة “الصحيحة” للصورة. فأمام بعض الصور، يتم إدراك وفهم الصورة تلقائيا وبدون تعلم أو إدراك مسبق، وذلك عن طريق “نقط قوية إليها يتجه النظر بشكل طبيعي”(25).

وهنا يمكن الحديث عن وجود نظام سيميولوجي مدرك. وأمام الصور التي “لا نعرف كيف نقرأها” هناك فيما يبدو نظام سيميولوجي، ولكنه لا يظهر بشكل واع. وفي غالب الأحيان لا يوجد أي نظام سيميولوجي على الإطلاق. وهنا يجب على القارئ خلقه وتشكيله عبر رصد مكونات ومعطيات الصورة. أي عبر معالجة الصورة بتعبير أ.بليسي: “يجب معالجة الصورة لإغناء رؤيتها”(26).


  • هوامش وإحالات:

1 – C.Metz, “Au delà de l’analogie, l’image“, in communicationn°15, 1970, p.1.

2 – الأسنن هنا جمع سنن

3 – ك.ميتز، المرجع السابق، ص4

4 – نفسه، ص 3

5 – نفسه، ص 5

6 – نفسه، ص 3 و4

7 – نفسه، ص 6

8 – نفسه، ص 6

9 – نفسه، ص 7

10 – J.MitryEsthétique et psychologie du cinémaed. Etudes universitaires, 1963.

11 – نفسه، ص 114

12 – نفسه، ص 114

13 – نفسه، ص116

14 – نفسه، ص 107

15 – ش.برادلي، أنظر ج.ميتري، نفس المرجع، ص 110

16 – ج.ميتري، ص 111

17 – نفسه، ص 121

18 – ش.موريس. انظر أ.إيكو،

Sémiologie des méssages visuels“, in Communicationn°15, 1970, p.14.

19 – C.Metz, in Communicationn°4, 1964.

20 – أ.إيكو، المرجع السابق، ص43

21 – G.Mounin, “pour une sémiologie de l’image”, in Communication et langages , n°22, 1974, p.50.

22 – ج. مونان، نفس المرجع السباق، ص51.

23 – Ch.Chebat et B.Gauthier “la rhétorique au service de la publicité” in Communication et langagesn°38, 1978, p.104.

24 – A.PlecyGrammaire élémentaire de l’imageEd. Estienne, Paris, 1968.

25 – نفسه، ص 238

26 – نفسه، ص 168,

محمد غرافي

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى