الهرمنيوطيقا

مات ريكور.. عاشت التأويلية

توفي يوم الجمعة 20 مايو 2005 بول ريكور آخر عمالقة الفكر الفلسفي المعاصر عن عمر يناهز الثانية والتسعين، فقد توقف قلبه عن الخفقان وهو مستغرق في نومه وأسلم الروح في غفلة من نفسه، فقد سرقه الزمن دون أن يدري، هو الذي خص الزمن بمؤلفات عدة ( ثلاثة على الأقل) بحثا عن مضمونه واستكشافا لماهيته وأشكال تحققه. وبمماته يكون الفكر الفلسفي الغربي، والإنساني عامة، قد فقد آخر قلاع التصدي للضحالة والتبسيطية والتعصب والبؤس الفكري.


ولد بول ريكور سنة 1913 بفالانس بفرنسا في عائلة مسيحية بروتستنتية، توفي والداه في الحرب العالمية الأولى، وتربى في حضن جديه. تلقى تعليما فلسفيا أهله ليكون أستاذا للفلسفة في التعليم الثانوي. وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية جُند وأسرته القوات الألمانية وبقي في الأسر إلى نهاية الحرب.


وعندما انتصر الحلفاء عاد إلى الحياة المدنية والتحق بالتعليم العالي مدرسا في جامعات متعددة منها جامعة ستراسبورغ ( عشر سنوات) والسوربون و نانتير ( ضواحي باريس) التي التحق بها مدرسا سنة 1965، وعين عميدا لها عام 1969 ، إلا أنه قدم استقالته احتجاجا على سياسة الحكومة، وتبرما من سلوك الطلبة الذين أهانوه واعتدوا عليه جسديا. بعدها سيختار منفى طوعيا في الولايات المتحدة الأمريكية حيث سيدرس في جامعة شيكاغو لمدة ثلاث سنوات، وظل مواظبا على جامعتها الشتوية إلى مماته.


وعلى الرغم من شهرته الواسعة وغزارة إنتاجه وأصالته، فإنه ظل لفترة طويلة مهمشا بعيدا عن التأثير المباشر في النخب وجمهور الباحثين عامة، ولم يلتفت إلى فكره إلا قلة قليلة من المريدين أغلبهم من ألمانيا وأمريكا. بل كان في فترات عدة موضوع حملات ظلم وتهجم، لم تقف في وجهها سوى صفوة من العقول النيرة.


وربما يكون مصيره في ذلك هو مصير مواطنه دريدا نفسه. فالتفكيكية التي جاهد هذا الفيلسوف طيلة حياته من أجل بلورة مفاهيمها وتدقيقها من خلال الصياغات النظرية المتعددة والتطبيقات الخاصة، لم يكن لها تأثير يذكر في فرنسا، وقليل من الباحثين الفرنسيين يعلن، في السر أو العلن، انتماءه إلى هذا التيار الفلسفي الهام. ووضعها مازال كذلك لحد الآن. فمريدو دريدا وأتباعه وشراحه يوجدون في بلدان أخرى، في أمريكا خاصة ( بول دومان، جونتان كالر، هارتمان وآخرون ).


لقد عرف ريكور بنزعته الإنسانية وتفتحه على كل الثقافات وعلى كل التيارات الفكرية. فقد كان الوريث الشرعي للتراث الهرموسي الألماني ( نقترح هنا كلمة هرموسية لترجمة الكلمة الفرنسية herméneutique )، كما كان الوريث الشرعي للظاهراتية الألمانية في أكثر صيغها أصالة (هوسرل)، كما كان الضيف المفضل على اللسانيات والسميائيات والتاريخ والتحليل النفسي.


إلا أن اسمه سيرتبط بالهرموسية أكثر من ارتباطه بأي شيء آخر. فلا يمكن الحديث عن ” التأويل” و”الرمز” و”المعنى المزدوج ” و” الإحالات المجازية”، دون أن نذكر أعماله التي خصصها لهذه المباحث، فقد أصدر عام 1965 كتابه في ” التأويل، دراسة حول فرويد “، ثم أصدر سنة 1969 كتابه ” تصارع التأويلات “، وأصدر سنة 1986 ” من النص إلى الفعل “.


بالإضافة إلى كتب أخرى لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالتأويل وآلياته وقوانينه وحقوله وبؤره، وعلى رأسها كتابه الضخم الذي كتبه وهو في شيخوخة متقدمة، ويتعلق الأمر بكتابه : ” الزمن والحكي” الذي يقع في ثلاثة أجزاء ( 83-85).


لقد كان النشاط التأويلي عنده ضرورة فلسفية تفرضها تشعبات الوجود الإنساني وغموض نهاياته وضياع أصوله الأولى ذاتها. فهناك ميل داخل الذات الإنسانية إلى البحث عن ” جذور الحياة ” وعمقها وامتداداتها في أصول غابت عنا ولم نعد نعرف عنها أي شيء إلا ما تقوله نصوص مغرقة في رمزيتها رغم وجهها الحدثي المشخص.


فمتى “حدث الذي حدث”، و” كيف حدث” و” لماذا حدث” هي الأسئلة التي قادت إلى التحكم في الزمن وظهور الكم الزمني المتمفصل في وحدات ثقافية تلغي المتصل وتعوضه بحالات افتراضية ( تواضع ثقافي يتم وفقه توزيع الزمن وتقطيعه)، ليصبح صيغة من الصيغ التي يقاس من خلالها ” حجم المعنى” وسمكه وامتدادته.


وهي الأسئلة التي ستقود إلى إسقاط الأبعاد الرمزية على ما يمثل هذا الزمن باعتبار شكله الثابت : أي المحكي،” فلا وجود للزمن إلا من خلال الحكي” كما كان يقول ريكور. ولقد كانت الهرموسية هي منطلق التأويل وشكله الأول. فتفسير النصوص الدينية كان يقتضي تجاوز ” المعطى الظاهري ” والبحث عن ” معان أخرى” مودعة ” سرا” داخل هذه النصوص،


ومن هنا كانت نظرية المعاني الأربعة في النص الديني : المعنى الحرفي ( أو التاريخي )، والمعنى الروحي( أو المجازي) والمعنى الأخلاقي والمعنى المثلي. وهي معاني مرتبطة في كليتها ب ” المجاز المسيحي” وكل المجازات الخاصة بالنصوص المقدسة، أي الغايات غير المعلن عنها من خلال ظاهر النص: العبرة والموعظة.


1ولهذا السبب كانت الهرموسية، في البداية مرتبطة بالنصوص الدينية. فكل نص، في هذا التصور، وثيق الصلة بقصدية أصلية من أجلها كتب ووفقها يجب أن يُفهم”. وهذه القصدية تخفي داخلها معنى كليا ونهائيا ومثبتا في صيغة يجب البحث عنها.


والأصل في هذا الموقف موجود في ظاهراتية الدين ذاته، فهذه الظاهراتية ” لا تخفي الرغبة ( désir) في معنى مزدوج، ولا ترى في الرمز اغتصابا للغة.


إن الرمز في الظاهراتية الدينية تجل لشيء آخر يزدهر في المحسوس والمتخيل والحركة والإحساس. إنه التعبير عن عمق يمكن القول إنه يظهر ويختفي”. (1)

وهذا ما يفسر طبيعة التأويل في النصوص الدينية، فهو تأويل ” موجه” لأنه مقيد بغايات يجب الوصول إليها من خلال ” ترك ظاهر اللفظ إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ” ( لسان العرب). ومن ثمة فإنه عوض أن يقود إلى تفجير طاقات النص وتحويلها إلى ركام من العلامات المتنافرة، كما كانت تدعو إلى ذلك التفكيكية، يقود في حالة الهرموسية الدينية.


على العكس من ذلك، إلى ” الكشف” عن معنى مستتر لا تراه العين المجردة، ولكنه موجود، تماما كما توجد الأسرار في الأساطير والخرافات والحكايات المجازية، وهو بذلك شبيه بالغائية الإلهية التي هي مصدر النصوص الدينية ومنتهاها. ولقد تحدث بول ريكور عن الهرموسية في هذا المجال ” باعتبارها استعادة ( restauration) للمعنى المودع في النصوص”.


إلا أن مداها سيتسع، وستتخلص من قيود النص الديني وغائيته الصريحة لكي تشمل كل النصوص ( لغوية كانت أو غير لغوية)، ولن يظل موضوع التأويل هو النص الديني، بل ستصبح الممارسة الإنسانية في مظاهرها المتنوعة هي مبرر كل التأويلات الممكنة ( في كتابه تصارع التأويلات هناك مقالة واحدة تناقش ” الخطيئة الأصلية” ).


وسيجد في الرمز كما يتم استعماله في التحليل النفسي ( وفي مجالات أخرى) نافذة جديدة ستخرجه من ظاهراتية الدين لكي يلج عالم الرمز كما يتم تكثيفه في الحلم، ( وقد كان يحلو له أن يسمي الحلم ” علم دلالة الرغبة “). (2) ” فالحلم ليس كلمة تغلق، إنها على العكس من ذلك تفتح (…) إن الحلم منفتح على كل المنتوجات النفسية باعتبار تناظراته الموجودة في الجنون وفي الثقافة، كيفما كانت درجة هذه القرابة، فمع الحلم سيطرح ما أسميه علم دلالة الرغبة” (3) .


  • هوامش

1- Paul Ricœur : Essai sur Freud , éd Seuil , p 17

2- de l’interprétation, p17

3- de l’interprétation, p16

سعيد بنكراد

د- سعيد بنكَراد؛ أكاديمي ومترجم مغربي، أستاذ السيميائيات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس. الرباط - المغرب. يُعدُّ من أهم المتخصصين في السيميائيات في العالَم العربي. المدير المسؤول لمجلة "علامات" المتخصصة في الدارسات السيميائية، نَشر عشرات المؤلفات، منها: "وهج المعاني: سيميائيات الأنساق الثقافية" (2013)، و"النص السردي: نحو سيميائيات للإيديولوجيا" (1996). وعدد من الترجمات، منها: "رسالة في التسامح" لفولتير (2015)،و"دروس في الأخلاق" لأمبيرتو إيكو (2010)، و"تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" لميشيل فوكو ( 2005).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى