ابتناء الرمز في جدليّة الحبّ والموت
تتتبدّى الرواية قراءة للإمكانات الكامنة في التاريخ في صيرورته، بحثًا عمّا يبلغ المرحلة الإنسانيّة العليا، ولعلّ قلق الإنسان ناتج من كونه في وثبة دائمة نحو المستقبل؛ فالماضي لا غنى عنه في اختيار وجه/ وجهة الآتي من الأيام بوصفه ما ينبغي تغييره. وما البحث التأويلي سوى الحفر في هذا الفضاء البَينيّ؛ حيث “تحدث قراءة الكتابة وكتابة القراءة.
تطالعنا المتون الرّوائيّة الثلاثة “أول النهار”، و”ليل أوزير”، و”وشم وحيد” لسعد القرش بكمّ من الأسئلة المتواترة على ألسنة الشّخصيّات تتمحور على الذّات والهويّة؛ أسئلة تحفر في الاتّجاهات الزّمنيّة جميعها: الحاضر ورجوعًا نحو الماضي، وقلقًا إزاء المستقبل، بدءًا بالعناوين التي تختزن إشارات رمزيّة ترهص بعلاقة جدليّة لحركة الزمن، وليست تعاقبيّة وحسب.
إذ غدا العنوان مفتاحًا لاستنطاق النصوص وتأويلها قصد اكتشاف منطوقاتها الدلالية. سيرتكز التأويل على مقولات الهيرمينوطيقا، بوصف مفهوم الدّائرة التّأويليّة “علاقة “بين ذاتيّة” تربط “خطاب النّصّ” “بخطاب التّأويل” ربطًا جدليًّا يحيل كلّ منهما إلى الآخر، وإلى أفقه الخاصّ به..
هذه “الدّائريّة بين “أنا أتكلّم” و”أنا موجود” تعطي الدّور الأساسي للوظيفة الرّمزيّة. فكيف ابتنيت علاقة الحضور والغياب الجدليّة في السّرد، بما له ارتباط بفضاء الذات وتجربة القلق الوجودي لدى الشخصيّات؟
- التأسيــس في “أوَّل النهـار”
تنفتح رمزيّة هذا العنوان على دلالات الزمكانيّة؛ حيث البدء يعيّنه لفظ الأوّل، والوقت الممتدّ من بزوغ الفجر إلى غياب الشمس، يؤشّر إليه لفظ النهار. وتأويل “الأول” يحيل إلى الرجوع إلى الإسّ والجذر لأي شكل ممكن يتناسل منه، وأي صورة تتولّد عنه. من هذه الذرّة يكون الاشتقاق والتكاثر والانتقال إلى مشاهد متنوعة.
فهذا الأوّل هو الثابت الذي يتحوّل ويختفي في تحوّله وحركته؛ فلا نرى سوى الحركة والتحوّل. وهي جميعها تفترض زمانًا ومكانًا، ليأتي النهار مؤكّدًا هذه الدلالة المحمّلة برمزيّة النظام الكوني في تعاقب الضوء والظلمة. النهار ضوء، غير أنّه في قراءة تأويليّة ثانية هو إعلان لولادة وانبثاق حياة، فنموّ واكتمال، ثمّ أفول للحياة وغياب.
هي محاكاة لحياة الموجود الإنساني في سيرورته وصيرورته، لحركة النهار في المسافة الزمنيّة الممتدّة بين الحدّين: البداية والنهاية. هي مسافة تأمّليّة بين الحاضر والماضي، في قراءة زمانيّة ثالثة تتكافأ مع القراءتين السّابقتين، إنّما تحفر عميقًا وتتوسّع في تاريخيّة الوجود في العالم مع الآخرين، حيث إنّ الحاضر يستدعي الماضي- الأوّل المتمثّل بتجارب المؤسّسين ليجيب عن أسئلته.
مدلول العنوان “أوّل النهار” لم ينغلق على أيّة نهاية معلنة، برمزيّة الجواب عن أي سؤال هو ضمنًا سؤال مفتوح. هو المنطلق يضمر طيّه بحثًا عن البداية والزمن الأعلى للوجود. فأيّة زمنيّة يعلنها، وانطلاقًا من أيّة لحظة حاسمة عادت بالذات إلى الأصل والمنشأ ليكشف لها الزمن من تكون؟!
– الهدم والبناء في “ليل أوزير”
مركّب إضافي يختزن تاريخًا، ويحمل في طيّاته عوامل الهدم والبناء معًا، باستلهام الأسطورة لمصر القديمة. والليل يعني الظلام بدلالة انعدام الرؤية، وباستعارة الضّيق والحزن أو الخشية من مصير مجهول. وباشتقاق الظلم من الظلمة بأن يستمدّ ميزاته منها، برمزية الجهالة والشّر وانغلاق الفهم.
يستحضر الليل اللون الأسود، وهو إمّا نفي للألوان أو جمع لها. رمزيًّا يؤشّر الأسود إلى نفي أي لون آخر، وإلى السّلبية المطلقة، وإلى حالة الموت بين ليلتين بيضاوين، حيث يجري الانتقال من الليل إلى النهار.
إذا كان اللون الأسود لون الحداد في بعض وجوهه، والخسران النّهائيّ، فباقترانه بأوزير تلك القرية المؤسَّسة على أنقاض قرية أغرقها الفيضان، يتّخذ دلالة الخيبة والخذلان. فبعث لم تكتمل بشائره، وتحدٍّ للطبيعة لم يُقطف نصره، وتأسيس يعقبه هدم وحرائق.
ماء ونار عنصرا حياة واضمحلال، كأنّ أسباب الفناء كامنة في عوامل البناء نفسها. فكيف لا، إذا كان أوزير المعبود المصري قد أُلّه في العديد من المدن، ومنها منف (ممفيس)، رمز الاختلاط السّكّاني؟! كانت تضمّ المصريين واليونانيين والسّوريّين.
إله يتمتّع بصفات الخصب والتناسل والوحي والإنقاذ. وُصف بالسّلطان الخيّر والرّاعي الصّالح. كما تخبرنا الأسطورة بأنّ أوصاله قُطّعت على أيدي قوى الشّر، وجُمعت أجزاؤه ليعود إلى الحياة ثانيةً، فيغدو رمز الانتصار على الموت والانبعاث والخلود.
ليل أوزير حُلكة قد تطول، إنّما سيعقبها وميض. فما الذي سيضيء هذا الليل؟ نيران الحرائق! هكذا ينغلق المشهد الرّوائي، معلنًا نهاية السّواد، ومرهصًا ببداية أخرى، بسواد آخر يجلّله رماد.
- التباس الهوية في “وشم وحيد”
تلتبس دلالة العنوان، في قراءة أولى، في لفظة “وحيد” إن كانت تمثّل صفة للوشم ، أو اسم علم مذكّر، لتنسحب الثنائيّة الدلاليّة على التركيب نفسه للعنوان بتعيينه مركّبًا وصفيًّا أو مركّبًا إضافيًّا.
الوشم علامة المرسوم والمكتوب لما له دلالة الاتّصال بالقوى السّحريّة والخفيّة، في إشارته إلى الوقاية من الإصابة بالعين الشريرة أو السّحر، أو سوء الطالع. إلى ذلك، يحيل الوشم إلى دمج الموشوم في جماعة وشميّة، فيمسي الوشم علامة القبيلة/ الجماعة، وما يرمز إلى هويّتها؛ إذ يحدّد ولاءً وانتماءً.
وهو موغل في القدم ينتشر في ثقافات متعدّدة؛ فيه استحضار وحلول لممثّل الرمز في الجسم الموشوم. فهو إذ ذاك فعل قبل أن يكون أثرًا؛ فعل إبرة في الجسد يمثّل اختراقًا إلى الداخل، بحيث تختلط المادة بالروح. وعليه، يتاتّى السؤال: هل هو وشم الجسد أو الروح، أو الاثنين معًا؟
بالعبور من عتبة النص إلى متنه، تتكشّف هويّة اللفظ “وحيد” بوصفه اسم الشخصيّة المحوريّة، وبدلالة الوحدة والغربة والوحشة، ومن لا أشقّاء له. غير أنّه من العائلة الدلاليّة للواحد الذي لا ثاني له؛ يوحي بالفرادة والاختلاف عن الغير والفاعليّة. هو رمز العموديّة، العلامة المميّزة للإنسان الذي يتّصف بقدرته على الوقوف منتصبًا.
عنوان يختزن مفاهيم الواحديّة والثنائيّة والتعدّدية في آن، ويمزج بين ما هو ماديّ وما هو روحانيّ، وبين الائتلاف والاختلاف، ويرهص تاليًا، بمفارقات في المستويين الوجودي والاجتماعي.
ثلاثيّة روائيّة يتعاقب فيها النهار والليل، ويتوالى التأسيس والهدم، كما ينجدل الزمن الفيزيائي مع الزمن الوجودي، ويتّحد المادّي بالرّوحي في الطبيعة البشريّة. فضلًا عن حضور عناصر الطبيعة الأربعة من ماء وهواء ونار وتراب في الفضاء الرّوائي.
أولى الروايات ترمز إلى الأوّل- البدء والتأسيس، وثانيها، برمزيّة الرقم اثنين الذي يتيح معنى التّكاثر والتضعيف، ويمثّل التفرقة أو الوحدة. فالنظام الكوني قائم على الازدواج والحركة الثنائيّة: ذكر وأنثى بهما يتناسل الجنس البشري، ونهار وليل بهما تكتمل دورة الأرض حول نفسها. هو إيقاع كوني متناغم، لتكتمل الثلاثيّة في ثالث الروايات مع صعود الأسئلة الوجوديّة في بحث الذات عن هويّتها المستلبة.
- بين الموت والمُوات أصالة حبّ
يحاصر الموت، بمناخاته، الشّخصيّات الرّوائيّة من كلّ صوب واتّجاه؛ إذ يمثُل ماضيًا وحاضرًا ويمتدّ في أفق المستقبل هاجسًا يتربّص بها. فأن يغدو الموت شخصيّةً أو بطلًا، أو عنوانًا للغد، يشير إلى الجوّ الخانق أو الضّغطة الّتي تذكي القلق. وسؤال الموت يفضي إلى سؤال الوجود الأصيل في كيفيّة تهريب الراوي أحلام شخصياته في البقاء وتصوّراتها الوجوديّة.
ينظر مبروك، في “أوّل النهار”، إلى السماء ويتساءل عن معنى الموت، عن ضياع بلد بكامله. ويلعن حياة تأتي في لحظة نشوة، وتذهب عبثًا. يأتون من عدم، ويذهبون إلى عدم، فلماذا لا يعفون من هذا العناء؟ أما عمران فينشد يقينًا بعد موت مبروك، يطمئنّ إليه، ولا يقين في الحياة إلّا الموت.
كما يسأل إدريس أباه عامر، في “ليل أوزير”: “أين يذهب الموتى؟” ولا يكفّ وحيد عن طرح الأسئلة في “وشم وحيد”؛ إذ تتداعى إليه مصائر أيام عائلة قبل مئة عام. هي مئة عام من مأسويّة المصائر، وعودويّة الأسماء بتأكيد استمرارالتاريخ فيها. وحيد منح هند اسمها، فمنحها وجهها/ هويّتها وانتشلها من الغياب، مستعيدًا وجه نوّارة أوزير، هند الأولى.
المفارقة أنّ هند الأولى بحبّها قتلت “مبروك”، أمّا هند الثانية فبحبها أحيت “وحيد”، وردّت إليه إنسانيّته، في دعوة إلى حياة كانت معطّلة.
ينكشف الحب مشروع حياة وانتظارًا، لكن الموت يبرز عبثًا إذ ينهي هذا المشروع وذاك الانتظار. من يستدعي الموت حين يحضر الحب؟! في “أول النهار” كان الموت المتمثّل بالأوبئة والأمراض والمصادفات العبثيّة يطارد الحب باستثناء الحب الوحشي لعامر. أمّا في “ليل أوزير” فكان الانشغال بالحبّ الأنانيّ قد استحضر الموت، موت القرية والموات فيها.
أن ينشغل سائسها – عامر- عن شؤون رعيّته وشجونها يبرز عامل تقويض لبنيانها. بالحب الغَيري المتبصّرابتنيت أوزير، وبالحب الأناني اللامبالي، وبحب السلطة والاستبداد بالحكم الذي يستدعي نقيضه، الكراهية المتجسّدة في أعمال منصور وابنه خليفة، تفكّكت واحترقت.
إذا كان هذا السؤال يلحّ في “أوّل النهار” و”ليل أوزير”، فإنّ الإجابة عنه تأتي مؤكّدة نقيضه في “وشم وحيد”؛ إذ حين حضر الحب استبعد الموات المتمثّل في العيش في اليوميّة، في الزمن اللاأصيل بالتعبير الوجودي. اطمأنّت نفس وحيد.
في مسعى وحيد يتبدّى جدل آخر بين النسيان والتذكّر، فبين الوشم والشؤم قرابة لفظيّة. كان نسيًا منسيًّا في حضرة الذكريات، وحضور الماضي الخانق الذي يرسم خطوه في بحثه الذي بدا غير مجدٍ. في رحلة بحثه تشكّلات من مسارات ثلاثة: مسار جغرافي، ومسار زمني، وآخر روحي. مسارات ترسم تحوّلات الهويّة لديه.
فهو يبحث عن قبر لدفن جثة أبيه، وعن عمّه الحيّ، وعن قاتل أبيه. أي إنه يبحث عن ميت وحيّ، وهو ليس بحيّ ولا بميت، حاضره يفلت من بين أصابعه، ظانًّا أنّه، في بحثه سيلقى ذاته، وفي انتقامه سيستردّ هويته/ وجهه، غير أنّه ما لا يبحث عنه وجده مصادفةً: الحب. حبّ هند وجده وأوجده، في لعبة تبادل أدوار في البحث.
عوضًا عن أن يتناول السؤال البحث عن زمن ضائع يجلّله الفقد، أضحى تساؤل الذات عن الحب في زمن ضائع، بل غدا الحب الزمن الأصيل، حين وعى وحيد أنّه كائن حي يستحقّ الحياة.
- زمنيّة المرأة ومبدأ “الأنوثة الأبدي”
مبدأ الأنوثة الأبديّ هو وليد أسطورة المرأة المخلّصة، أمّ الدنيا، منذ عهد قدماء المصريين حتى عهد العذراء مريم في المسيحيّة. إيزيس أعادت أوزير إلى الحياة بجمع أجزائه، مدفوعةً بالحبّ، والسيدة مريم مستنيرة بالإيمان.
تبرز المرأة رمزًا لمبدأ المحبّة والخصوبة والسلام والابتعاث. ليس بعيدًا من هذه التصوّرات، إذ رُسمت شخصيّة “حليمة” الأم المؤسّسة التي تلد جيلًا من دون أن يمسّها إنسان. هي رمز الأمّة- مصر. تماثلها في الدور شخصيّة زهرة زوجة عامر الثانية في “ليل أوزير” في أمومة من غير ولادة لسالم وإدريس.
إدريس الذي عاد إلى أوزير مستنيرًا ثائرًا يحمل صفات الرسوليّة. وهند الأولى التي اكتفت بليلة حب واحدة هي الحياة بأسرها أغنتها عن الحاجة إلى أيّ رجل، هي رمز الحب النّقي وطهارة الذاكرة، ومؤسّسة لذاكرة الأمة.
وهند الثانية بعثت “وحيد” وأنقذته من المُوات مستردًا إنسانيّته، فليلة واحدة معها أنسته عمرًا من العناء، تمامًا كليلة حب واحدة لهوجاسيان مع أمّ هند الأولى قد أغنته عن الاتّصال بأي امرأة أخرى.
يوقظ الموت لدى الرّوائي قلق البحث عن معنى الحياة والوجود، كي لا تبقى الشّخصيّات، محاصرة في دائريّة الزّمن الفيزيائي. فيعلن الحبّ مؤسّسًا وبانيًا ومخلّصًا، الحب بأبعاده ومداراته كافّةً، ممّا يفتح السؤال على أفق التجربة في مستوى القضايا الاجتماعيّة السياسيّة منها والدينيّة.
أيّة كتابة تحمل تجربة جسد ويد وعين؛ إنّها وشم الروح، روح كاتبها. وفي أيّة كتابة رنين صوت ينقش الخصوصيّة؛ فنقش الأسلوب يعني وسمًا يخصّ هذا الروائي دون سواه، ويشهر تأسيس عالمه الروائيّ في هذه الثلاثيّة.
– “الجديد”- لندن- العدد 43-تموز 2018.