إذا كان من الطبيعي أنّ مركزية النص الديني في حياة الإنسان تجعله في حاجة دائمة إلى “قراءة” وتفسير الشيء الذي يبرّر تعدد الشروحات وتنوعها من حوله؛ فإنّ هذه الحاجة غالباً ما تصطدم بالعديد من المؤثرات التي تتدخل في توجيه عملية فهم وقراءة هذا النص، بعضها مرتبط بما هو إيديولوجي وبعضها الآخر بما هو ذاتي، ممّا يجعل النص رهين هذه الفُهوم المطوّقة بهذه المؤثرات التي تشكل سلطة على المفسر ـ القارئ ـ حيث يجد نفسه خاضعاً لها بشكل أو بآخر.
إنّ هذا التعدّد التفسيري الذي يكون نتيجة للتفاعل بين العقل الناظر والنص يخضع “لمتغيرات عديدة متنوعة، وأوّل هذه المتغيرات طبيعة العلم الذي يتناول النص، أي المجال المعرفي الخاص الذي يحدد أهداف التأويل وطرائقه، وثاني هذه المتغيرات الأفق المعرفي الذي يتناول العالِم المتخصص من خلاله النص، فيحاول أن يفهم النص من خلاله، أو يحاول أن يجعل النص يفصح عن نفسه.”[1]
ولا يخفى أنّ مركزية النص الديني في الثقافة التي ينتمي إليها تجعل منه دائماً عرضة لـ”ظاهرة سوء الفهم (La mécompréhension)، أي أننا عرضة لسوء الفهم أكثر من كوننا نفهم بطريقة صحيحة، وسوء الفهم هو الذي يولّد الحاجة إلى الفهم الصحيح، أي يولّد الحاجة إلى ضرورة تأسيس (فن للتأويل) يعصمنا من الخطأ.”[2]
وقد تأسّس المشروع الهيرمنيوطيقي في بدايته الأولى على قاعدة الرغبة في “فهم” النص الديني بالأساس، وذلك بتجاوز عوائق سوء الفهم، ولا شكّ أنّ هذا “الفهم” حاجة إنسانية عامة، تعكس تطلّعاً وتشوّقاً إلى استنطاق هذا النص وفك رموزه، وهذه هي الوظيفة المركزية والتقليدية لفن التأويل، ولعلّ اشتهار هذا المفهوم داخل ميدان العلوم الإنسانية، كان من وراء طغيان همّ التأصيل والبحث له عن مرجعية معرفية تاريخية قديمة قدم النصوص الإنسانية ذاتها. وهذا ما جعل بعضهم يلاحظ نوعاً من “الارتباط في الجذر المعرفي بين الهيرمنيوطيقا وبين “هرمس” رسول الآلهة عند الإغريق، وقد يرجع هذا الارتباط إلى طبيعة الرسول بوصفه وسيطاً يقوم بمهمّة الشرح والتوضيح لمضمون النص إلى المخاطب به، ممّا يجعل الأمر يدور بين نص ومفسّر لهذا النص.”[3]
من الواضح أنّ الاتكاء على مجرد التقارب بين حروف كلمة هيرمنيوطيقا وهرمس وتأسيس الارتباط المعرفي بينهما يعتبر مغامرة، ذلك أنّنا “نجد في الاستعمال القديم للفظ نوعاً من الالتباس، فقد اعتبر هرمس Hermes رسول الآلهة إلى البشر، كما أنّ الأوصاف التي دلّ عليها هوميروس تظهر غالباً أنّ هرمس يبلّغ حرفياً وينجز كاملاً ما وُكّل بتبليغه. لا توجد دون شك أيّة صيغة لفهم التقارب بين فن التأويل والفن التكهني.”[4]
إنّ الذي ينبغي التأكيد عليه ههنا هو أنّ ربط الهيرمونوطيقا بتفسير النص الديني يجعل منها “قضية قديمة جديدة في الوقت نفسه. وهي في تركيزها على علاقة المفسر بالنص ليست قضية خاصة بالفكر الغربي، بل قضية لها وجودها الملحّ في تراثنا العربي القديم والحديث على السواء.”[5] ذلك أنه “مهما اختلفت التأويلات باختلاف الأديان والأجناس والأمم والجماعات والأفراد فإنّ أصل نشأته وسيرورته وإجرائه يرجع إلى مقولتين: أولاهما غرابة المعنى عن القيم السائدة، القيم الثقافية والسياسية والفكرية، وثانيهما بثّ قيم جديدة بتأويل جديد؛ أي إرجاع الغرابة إلى الألفة، ودسّ الغرابة في الألفة.”[6]
على أنّ هذا الارتباط بالنص الديني لم يمنع التأويلية من أن تخضع تدريجياً لتطور دلالي أخرجها من دائرة الارتباط بالنصوص الدينية إلى دائرة الوجود الإنساني عامة، وتعريفها باعتبارها نظرية في تفسير الكتاب المقدس “هو أقدم تعريف لها وبه عرفت، واللفظة إنما دخلت في الاستعمال الحديث عندما ألحت الحاجة إلى مبحث جديد يقدّم القواعد اللازمة للتفسير الصحيح للكتاب المقدس. وإذا كان هذا التعريف قد نشأ في حقل اللاهوت ونما بمقتضياته، فقد اتسع ليشمل الأدب ويشمل النصوص بمختلف أنواعها.”[7] ولعل هذا الذي جعل تعريفها التقليدي “فن تأويل وترجمة الكتاب المقدس (الأسفار الخمسة) بدقة، فهو في الواقع مشروع قديم أنشأه وأداره آباء الكنيسة بوعي منهجي دقيق.”[8]
ويمكن القول إنّ من ثمار التطور الدلالي لهذا المفهوم الذي تحرّر من الطابع العقائدي، هو الانتقال من هدف الرغبة في “فهم النص” إلى هدف آخر وهو “فهم المؤلف أحسن مما يفهم نفسه.”[9] وعندما حاول شلايرماخر أن يجعل منها فناً مستقلاً يقوم على قواعد وضوابط محددة، فقد انطلق من قاعدة أنّ “الفهم” المثالي “لا يتأتى إلا بالانطلاق من منهجين متوازيين: المنهج الوضعي اللغوي، والمنهج النفسي، لأنّ القارئ أو المؤول لا يغوص على مراد النص إلا بِمَلَكَة لغوية ثريّة، وقدرة على استبطان النفوس البشرية، وهذا التكامل المنهجي المشروط يتناغم ومنظور شلايرماخر إلى اللغة التي تعدّ متنفّساً للفكر والوجدان والخاطر جميعاً، إنها بعبارة أدق وأحكم: تشكيل لغوي ووجداني مستقل عن فكر المؤلف، وهذا الاستقلال ييسّر عملية الفهم، برفد من عامل آخر وهو تواطؤ المخاطَب والمخاطِب على تشكيل هويّة اللغة.”[10]
لقد كان مطمح شلايرماخر هو تجاوز حالة “سوء الفهم” التي يكون النص عرضة لها، على أنه “ورغم النقلة الهامة للهيرمنيوطيقا على يد شلايرماخر لتكون (فناً) مستقلاً بذاته عن أي مجال؛ فإنّ كلاسيكيته تتبدى في حرصه على وضع قوانين ومعايير لعملية الفهم ومن ثمّ لعملية تفسير النصوص. ولكنه في هذه المحاولة لتجنب “سوء الفهم” يطالب المفسّر مهما كانت الهوّة التاريخية التي تفصل بينه وبين النص أن يتباعد عن ذاته وعن أفقه التاريخي الراهن ليفهم النص فهماً موضوعياً تاريخياً. إنّه يطالب المفسّر أولاً أن يساوي نفسه بالمؤلف، وأن يحل مكانه عن طريق إعادة البناء الذاتي والموضوعي لتجربة المؤلف من خلال النص، ورغم استحالة هذه المساواة من الوجهة المعرفية فإنّ شلايرماخر يعتبرها الأساس الهام للفهم الصحيح.”[11]
على أنّ فن التأويل عند شلايرماخر، كما لاحظ بول ريكور، لم يستطع التحرّر “من الجوّ المعكّر للأدب التأويلي كما تبلور في العصور القديمة، مثل أعماله الفلسفية التي التزمت بأشباح كبار مفكري المثالية. لم يكن شلايرماخر سوى خطيب حتى وهو يمارس الفلسفة، مساهمته في فن التأويل هزيلة للغاية. لقد أصبح فن التأويل قاعدة لكل العلوم الإنسانية التاريخية وليس فقط اللاهوتية. الشيء الذي اختفى هنا هو الافتراض العقائدي للنص باعتباره المرجعية الأصلية، والذي عمل دوماً على توجيه نشاط الوساطة في المشروع التأويلي والمتمثل في اللاهوتي والفيلسوف الإنساني، هكذا أصبح للتاريخانية مسار حرّ دون عوائق تمنعها من التحقيق”.[12] ويمكن أن نلاحظ في فكر شلايرماخر التأويلي مسألة مهمة وهي “تسرّب النزعة السيكيولوجية إليه، لقد شغله غموض الآخر عن غموض التاريخ على حد تعبير جادامير، وشغلته سيكيولوجيا الحوار عن تاريخية التأويل.”[13]
لقد حمل دلثاي (1831/1911م) هَمّ “الفهم” عن سلفه شلايرماخر، وحاول أن يطوّر ما قاله شلايرماخر، ومن ثمة نجد أنّ عملية الفهم عنده ترتكز على “الانتقال والتسرب إلى نفسية المبدع، التي تحتفظ بالمعنى أو قد تكون هي ذاتها المعنى الذي نبحث عنه، فكل التعبيرات الإنسانية لغوية أو غيرها، هي في الواقع تجلٍّ لنفسية المبدع، ولا يمكن الوصول إلى ذلك الإبداع إلاّ من خلال الوصول إلى تلك النفسية التي أوجدته، فيتحوّل التعبير بذلك إلى مظهر خارجي تنكشف قيمته الحقيقية من خلال المعنى النفسي الداخلي، وبذلك تصبح الدلالة النفسية غير مستقلة عن الدلالة النفسية التي أوجدتها، فلا يمكن إعادة بناء النص بعيداً عنها.”[14]
لقد أضاف دلثاي بعداً ثالثاً إلى البعدين اللذيْن قال بهما شلايرماخر، وهذا البعد هو “التجربة التي يعايشها متلقّي النص، وينصهر في أتونها، إذ بين المؤلف والمتلقي حبل فكري موصول غير مقطوع هو تجربة الحياة، وهذه التجربة تذكي جذوة الحوار والتفاعل بين ذاتية المتلقي وموضوعية النص، وهو ما يسمّيه دلثاي بظاهرة اكتشاف “الأنا” في “الآخر”، وبعبارة أوضح: إسقاط التجربة الذاتية للقارئ على تجربة المؤلف.
على أنّ استحضار تجربة المتلقي في “الفهم” جعله يخلص إلى نتيجة وهي “أنّ فهم النص منوط بالتجاذب الحيوي بين أفق النص، بوصفه عصارة لتجارب الحياة ومستودعاً لقيم التعايش، وأفق المؤول الذي ينفتح على تجارب شتى، ويتفاعل معها.”[15] ثم إنه في الوقت الذي لفت فيه دلثاي الاهتمام بشدة إلى الأفق الراهن (تجربة الحياة) للمفسّر، فإنّه علينا “ألاّ ننسى أنه ضحّى في سبيل ذلك بذاتية المبدع.”[16]
وعندما نأتي إلى جيورج جادامر نجد أنّ الأبحاث الهيرمنيوطيقية قد دخلت طوراً جديداً، ذلك أنه حاول أن يتجاوز مساوئ هيرمينيوطيقا شلايرماخر ودلثاي على السواء، حيث اعتبر أنّ “فهم النص مرتبط بإدراك قوانين التفاعل بين التجارب المتراكمة، والحقيقة التي يفصح عنها النص، وقد شبّه هذه العملية التي تبدأ بالمؤلف اللاعب، وتنتهي إلى المتلقي المتفرج، من خلال وسيط محايد هو الشكل التي يتيح عملية التفاعل، ويجعل التلقي ممكناً وموصولاً عبر تراخي العصور، وهذه الإمكانية المتاحة تؤسس للقول إنّ النص لا ينطوي على حقيقة ثابتة، لأنها تتغير من عصر إلى عصر بحسب أفق المتلقي، وتجربة القراءة، واختلاف مدارك المتلقين في كل زمان ومكان.”[17]
ولعل الإضافة التي أضافها غادامير إلى مجال الهرمنيوطيقا هو: “أنّ المواقف الذاتية والنوازع الشخصية تصوغ كيان المتلقي وفهمه المستقلّ للماضي والحاضر، حتى ولو حجبت أو ألجمت بدعوى تحرّي الموضوعية، فإنها لن تنثني عن ممارسة دورها الوظيفي تحت هذا الدثار أو ذاك. وقد كان هذا التصوّر الجديد لتوظيف النوازع الذاتية في التلقي بداية غارة شعواء على دعاة تطبيق المنهج ممّن يحرصون على الصرامة العلمية، وموضوعية الفهم. بيد أنّ نفي الحقيقة الثابتة في النص بدعوى إمكانية التلقي عبر تراخي العصور، يفضي إلى تصحيح جميع التأويلات والتفسيرات التي تحوم حول النصّ الواحد وإهدار المرجع المعياري الذي يحتكم إليه في القراءة، ويبدو أنّ هرمنيوطيقا غادامير تفتح الباب على مصراعيه لاغتيال المؤلف ونسف مقاصده، إذ يصبح النص لعبة المتلقي.”[18]
إنّ رحلة التأويلية في نسختها الغربية كانت تتأطّر بسؤال الفهم. ولا يخفى أنّ معايير وقواعد الفهم التي سطّرها شلايرماخر ومن أتى بعده قد ركّزت بالأساس على المتلقي لا على المتكلم، فإذا “كان الفكر الديني يجعل قائل النصوص -الله-هو محور اهتمامه ونقطة انطلاقه، فإننا نجعل المتلقي -الإنسان-بكل ما يحيط به في واقعه الاجتماعي التاريخي، هو نقطة البدء والمعاد.”[19] وقد أدى هذا المسار الذي ذهبت فيه التأويلية الغربية إلى الإعلان “عن موت المؤلف والمتكلم، وإلغاء لمقاصد المؤلف والمتكلم، وإحلالاً “للدلالة” التي هي الفهم الذاتي للقارئ، محلّ “المعنى” الذي قصد المبدع إبداعه في النص، والحكم على النص ومعانيه بالتاريخية والنسبية، أي جعل التطور التاريخي إلغاء لمعاني هذا النص وأحكامه ومقاصد مبدعه، وإحلال القارئ محل المؤلف، وجعل هذا القارئ هو منتج النص، وفتح الأبواب لتعدد الدلالات، بتعدد القراء للنص الواحد.”[20]
وعندما أضحت قراءة النص القرآني “أحد أهم انشغالات وتحديات النخبة الحداثية العربية خلال العقود الثلاثة الماضية، وذلك لما يتمتع به القرآن الكريم من دور وتأثير مركزي في تشكيل العقل العربي الإسلامي، وذلك باعتباره -على حد اعتقادهم ـ أحد أهم العقبات المعرفية التي تقف عائقاً أمام تحقيق النهضة والتقدم والتحرر،”[21] فإنّ ذلك فرض على هذه النخبة العمل على محاولة “تبيئة” الهيرمنيوطيقا والبحث لها عن سند ومرجعية داخل المنظومة الفكرية الإسلامية، باعتبارها مشروعاً إنسانياً معرفياً يروم التأسيس لقواعد الفهم؛ فتمّ اعتبارها في مقابل التفسير بالرأي أو “التأويل” كما شاع قديماً، وإن كان هذا النوع من التفسير “قد نُظر إليه على أساس أنه تفسير غير موضوعي، لأنّ المفسر لا يبدأ من الحقائق التاريخية والمعطيات اللغوية، بل بموقفه الراهن محاولاً أن يجد في القرآن (النص) سنداً لهذا الموقف.”[22]
ومهما يكن فإنّ “المشروعات الفكرية الحديثة في قراءة النص هي استجابة للتحدي الحضاري الذي فرضه الصدام مع الحضارة الغربية، بمقولاتها ومنتجاتها الفكرية والاجتماعية والسياسية التي تحوّلت إلى مكوّن رئيس من مكوّنات فكرنا العربي الحديث”.[23] وقد كان من أهم دوافع ظهور هذه المشروعات الجديدة “تعدد نسخ الكتب المقدسة وتضارب الدلالة والمعنى الذي تحمله هذه النسخ. فقد أسفر نقد الكتاب المقدّس بأنواعه وأشكاله ومستوياته عن نتائج في غاية الأهمية والخطورة. ومن هذه النتائج: وجود عدّة نسخ للكتاب المقدّس واختلافها من حيث الكمّ والكيف، وهو ما أدّى إلى غياب الثقة في القراءة الوحيدة للنص المقدّس بسبب تباعد الدلالة اللغوية للألفاظ التي جاءت في هذه النسخ في وضعها الأصلي وما أخذت توحي به هذه الألفاظ من معانٍ جديدة.”[24]
من البيّن أنّ الخطاب التأويلي الغربي قد انتهى إلى إحداث خصومة ونزاع بين النص والقارئ، على أنّ هذه الخصومة قد تكون مبررة من جهة أنّ “العلوم الإنسانية والاجتماعية لا تستطيع أن تكون علمية بالمعنى الموضوعي والمنهجي الدقيق للكلمة، بسبب العوائق الإبستيمولوجية المختلفة المرتبطة بطبيعة موضوعات البحث وبطبيعة المناهج المطبقة، فكثيراً ما تتدخل الإيديولوجيات والقناعات الشخصية والخلفيات الثقافية والانتماءات الطبقية في توجيهها.”[25]
لكن عندما نرجع إلى خصوصية وطبيعة النص القرآني فإنّ “التنازع الذي يحدث بين سلطة القارئ وسلطة النص في تأويل النصوص العربية قد يرجّح إحدى الكفتين، لكن حين يكون النزاع في النص القرآني فله قواعد أخرى، منها كون النص يمتلك امتياز الصحة والبيان، فهو يفرض قواعده وأساليبه وأدواته التعبيرية دون مراجعة من القارئ، وعلى القارئ أن يصحّح من سليقته وينقاد للنص لسانياً، فقدسيّة النص تأتي من داخله وليس من خارج النص، سواء كانت فلسفية أو تاريخية، وقدسية النص تعني سلطته التامة على القرّاء.”[26]
فإذا كان خطاب التنوير الغربي استطاع أن “يرفع غطاء القداسة عن الخطاب الديني القديم والحديث على السواء، واستطاع بذلك أن يضع بذور التعامل مع التراث بكافة جوانبه، بوصفه ظاهرة تاريخية متطورة، والأهم بوصفه قائماً على التعدد والصراع بين تياراته واتجاهاته وكان هذا إنجازاً حقيقياً لا سبيل إلى التراجع عنه”،[27] فإنه ممّا لا شك فيه أنّ الرغبة في الفهم قد تحوّلت مع الخطاب الحداثي العربي إلى رغبة في ممارسة “النقد”، وقد تسرّب هذا النفس إلى الخطاب العربي بفعل حملة التشكيك التي خضع لها الكتاب المقدس وبفعل المراجعات التي أقيمت حوله، فكان المطمح هو عكس تجربة الكتاب المقدس على النص القرآني.
ولأجل هذا فإنّه من “المهام العاجلة التي تتطلبها أيّة مراجعة نقدية للنص القرآني، ينبغي أولاً إعادة كتابة قصّة تشكّل هذا النص بشكل جديد كليّاً. أي نقد القصة الرسمية لتشكيل القرآن، هذا يتطلب منا الرجوع إلى كل الوثائق التاريخية سواءً أكانت ذات أصل شيعي أم خارجي أم سُنّي، هكذا نتجنّب كل حذف تيولوجي لطرف ضد آخر، بعدها نواجه ليس فقط مسألة إعادة قراءة هذه الوثائق، وإنما أيضاً محاولة البحث عن وثائق أخرى ممكنة الوجود كوثائق البحر الميت التي اكتشفت مؤخراً”.[28]
إنّ هذا ما جعل التأويلية العربية تتحوّل إلى “مشروع نقدي”، فإذا كانت التأويلية الغربية قد انساقت نحو الارتباط أكثر بالمتلقي، فإننا نجد في المقابل التأويلية العربية قد ركّزت على “النص” من أجل ممارسة النقد عليه، وقد كان هذا على حساب المعنى والدلالة، وإن كانت رفعت راية الرغبة في “الفهم”، ذلك أنّها حاولت إعادة النظر في مجمل الإنتاج الفكري الذي تشكل حول النص، وذلك من أجل إنتاج “فهم” آخر جديد للنص بعيداً عما لصق به من شروحات ماضية أضحت تقليدية، وجب تجاوزها من أجل بناء دلالة جديدة وعصرية للنص.
حاصل القول إذن؛ إنّ الهرمنيوطيقا قد أضحت “عنقاً فسيحاً في مناهج التأويل، وأصبحت رؤية مستقلة للكون والإنسان والتراث، تنبئ عن منهج القارئ في استبطان النص بوصفها وجوداً تاريخياً، ويعكس فلسفة خاصة في النظر إلى الذات والأشياء.”[29] إنها رؤية للوجود لها طابعها الخاص، تستبطن محاولة للتحرر من سلطة وقيود النص أيّاً كانت طبيعته، لتجعل السلطة للعقل على ما سواه، حيث لا “معنى” ولا دلالة للنص إلا ما يضفيه عليه العقل أو يخلعه عنه، فإذا كانت الهيرمنيوطيقا قد انطلقت في سياقها الغربي من مبدأ الرغبة في الفهم، فإنّ نقلها إلى دائرة النص الإسلامي جعلها تصطدم بالعديد من العوائق المعرفية والمنهجية، التي كشفت عن قصور في إدراك الـ”بيان” الحقيقي لهذا النص، وفق ما تفرضه طبيعته ومقاصده، وذلك بسبب تحوّلها إلى مشروع معرفي نقدي قَطع مع هَمّ الفهم.
[1] مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي الطبعة الخامسة 2000م ص 9
[2] الأنسنة والتأويل في فكر محمد أركون، أطروحة دكتوراه، مصطفى الكيحل إشراف إسماعيل زروخي، جامعة منتوري، قسطنطينة، 2007/2008م ص 84
[3] الهرمنيوطيقا في الواقع الإسلامي، بين حقائق النص ونسبية المعرفة، معتصم السيد أحمد، دار الهادي، ط1، 2009م، ص 19
[4] فلسفة التأويل، الأصول، المبادئ، الأهداف، هانس غادامير، ترجمة محمد شوقي الزين، المركز الثقافي العربي، ط2، 2006م ص 61-62
[5] إشكالية القراءة وآليات التأويل، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، ط7، 2005م ص 13-14 بتصرف.
[6] التلقي والتأويل، مقاربة نسقية، محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي ط1، 1994م، ص 218
[7] فهم الفهم، مدخل إلى الهرمنيوطيقا، نظرية التأويل من أفلاطون إلى غادامير، عادل مصطفى، رؤية، ط 1، 2007م، ص 68
[8] فلسفة التأويل، جيورج غادامير، ص 63
[9] من النص إلى الفعل، أبحاث في التأويل بول ريكور، ترجمة محمد برادة، حسان بورقيبة، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، ط1، 2001م، ص 110-111
[10] النص القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبر، ص 258، انظر كذلك إشكالية القراءة وآليات التأويل ص 22 وما بعدها.
[11] إشكالية القراءة وآليات التأويل، ص 23
[12] فلسفة التأويل بول ريكور، ص 71-72 بتصرف.
[13] فهم الفهم، ص 111
[14] الهيرمنيوطيقا في الواقع الإسلامي، ص 37
[15] النص القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبر، ص 259 بتصرف.
[16] إشكالية القراءة وآليات التأويل، ص 29
[17] النص القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبّر، ص 260. وانظر كذلك إشكالية القراءة وآليات التأويل، ص 37 وما بعدها
[18] المرجع نفسه، ص 261
[19] نقد الخطاب الديني، لنصر حامد أبي زيد، ص 200
[20] قراءة النص الديني بين التأويل الغربي والتأويل الإسلامي، لمحمد عمارة، مكتبة الشروق الدولية، ط1، 2006م، ص 14
[21] الخطاب القرآني والمناهج الحديثة في تحليله، دراسة نقدية، لصليحة بن عاشور، مجلة الأثر، ص 3
[22] المصدر نفسه، ص 15
[23] قضية قراءة النص القرآني، لمحمد رحماني، ص 27، طبعة دون تاريخ.
[24] الإشكال المنهجي في مشاريع القراءات الحداثية للنص القرآني لمحمد بن عمر، ص 6
[25] الأنسنة والتأويل في فكر محمد أركون، أطروحة دكتوراه إعداد مصطفى الكيحل، إشراف إسماعيل زروخي، جامعة منتوري، قسطنطينة، 2007/2008م، ص 45
[26] تأوبل القرآن، سلطة القارئ أم سلطة النص، حمزة فاضل يوسف، مجلة القادسية في الآداب والعلوم التربوية، العددان 1-2 المجلد 7/2008م ص 7
[27] نقد الخطاب الديني، لنصر حامد أبي زيد، سينا للنشر، ط2، 1994م، ص 200
[28] تاريخية الفكر الإسلامي، لمحمد أركون، ترجمة هاشم صالح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 1998، ص 118
[29] النص القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبر، ص 275