الهرمنيوطيقاسيميائياتشعر

تشييد نظرية شعرية مُوَّسعة بمنهاجية سيميائية مُركبة

يعتبر كتاب مفاهيم موسعة لنظرية شعرية (اللغة-الموسيقى-الحركة) امتدادا للمشروع النقدي الذي مافتئ الباحث الناقد محمد مفتاح يشيده سافا من فوق ساف سعيا إلى بلورة تصورات متقدمة وتنظيرات دقيقة لمقاربة الخطاب الأدبي بصفة عامة والخطاب الشعري على وجه الخصوص، واقتراح إطار فلسفي ونظري ومنهاجي أعم وأشمل يخص ” الشعرية الموسعة” التي تنهض على الثالوث (اللغة-الموسيقى-الحركة)) باعتباره جذرا تتفرع عنه جذوع وأغصان وأفنان.


ومما يبين أن محمد مفتاح حريص على ملاءمة مشروعه وتجدده وتطوره، علاوة على دعمه بالتقاطعات والتواشجات النسقية، إقدامه ، بجرأة الباحث المتواضع، على تدارك ما تخلله من أوجه التقصير، وعلى تعزيز مكامن قوته حتى يحقق مشروعه الأهداف المرجوة ويؤدي رسالته العلمية على الوجه الأمثل، وعلى بلورة آلة صورية قادرة على تحليل النص الشعري في شموليته، وسياقه التداولي، وعلاقته بالفنون الأخرى.


1-الاعتبارات:

لما استقرأ الباحث محمد مفتاح جهوده العلمية منذ  كتاب ” في سيمياء الشعر القديم” إلى صدور” رؤيا التماثل” لاحظ أن القصور يعتري أساسا الفصول المتعلقة بالشعر، وهو يتجلى في قلة الإيغال في دراسة الإيقاع الشعري، وعدم الانكباب على الإلقاء والإنشاد (طاقة الحركة)، والعناية بالشعر التقليدي دون غيره من القوالب الشعرية الثرة والمتنوعة.

لقد سعى محمد مفتاح في كتابه الأخير إلى تدارك هذا القصور مستثمرا المكتسبات المعرفية والمنهاجية المضمنة في كتبه السابقة، ومتسلحا بأنواع من الآليات الاستدلالية (على نحو الاستقراء والاستنباط والفرض الاستكشافي والمقايسة والتمثيل)، ومتوخيا توسيع النظرة إلى الشعر بطريقة نسقية وشمولية للإحاطة بمختلف مكوناته وعلائقه ووظائفه. ومن بين الاعتبارات التي تحكمت في إقامة تصور موسع لتلقي الشعر وتحليله نذكر ما يلي:

– البحث عن المبادئ الإبداعية والأوليات التأويلية في إطار ما يقدمه العلم المعرفي المعاصر من أدوات علمية.
– إعادة الحياة للقول الشعري بدراسة الحركات التوليدية، وإلإشارات المعبرة، وبالتنبيه إلى النغمات المطربة، والتنغيمات الآسرة في فضاء وزمان معينين.

– توظيف المبادئ المشتركة بين الشعر وغيره من الفنون والعلوم.
– الكشف عن سر الصناعة الشعرية بالانفتاح على نتائج العلوم الدقيقة مثل علم الأعصاب والتشريح ووظائف الأعصاب وعلم النفس وفلسفة الذهن والرياضيات والفلسفة ( الإرث الفيتاغوري والتاريخانية).

– الإحاطة بكل التفاعلات الدماغية والذهنية والمحيطية التي تؤدي إلى الحركة والعمل باعتبارهما لبنتين أساسيتين لبقاء الكون وحياة الإنسان. وهذا ما يجعل الشاعر يتحرك وهو يكتب، ويهتز وهو ينشد، ويتحمس وهو يرى الاستجابة المشجعة؛ حركات الشاعر تكون لحنا تحكمه قواعد شبيهة بقواعد الموسيقى كدرجة الحركة، ومدتها، وحدتها، وتركيبها، ودلالتها، ورمزها”([1]).


2-المبادئ

قدم محمد مفتاح، برهانا على أقواله، معلومات دقيقة عن النسق السمعي والحركي والبصري والذكري اعتمادا على مراجع علمية دقيقة وغنية بغية الاستفادة من فرضياتها ونتائجها في تحليل الخطاب الشعري،وتشييد تأويل على أسس نظرية وعلمية راسخة. وما يهمنا من استجلاء المبادئ المعرفية والحركية والتوليفية، دون التوغل في تفاصيلها ودقائقها ، هو استخلاص الخلفيات التي تحكمت فيها:

أ- الاستفادة من العلوم:

إذا كان العلماء يبحثون في مكونات الظاهرة قصد ضبط مكوناتها وصفاتها ووظائفها، فإن محلل الخطاب يمتح من مناهجهم وتحليلاتهم ما يسعفه في عمله ومسعاه. وفي هذا الصدد قدم محمد مفتاح بعض التنظيرات القوية التي يمكن أن تُنزّل في ميدان تحليل الخطاب، وتدعم إمكانات التوازي والتناظر بين الظاهرتين العلمية والأدبية، وإمكانات قياس النص على الدماغ ومكوناته أو قياس الدماغ ومكوناته على النص:

أولى هذه التنظيرات ثلاثية دافيد ماز التي تتكون من مستويات متداخلة ومتدرجة (المستوى الطبيعي، ثم المستوى الإدراكي، ثم المستوى اللوغاريثمي) تقضي بتحليل المحسوسات إلى معانيها التي توجد في معاجم اللغة الطبيعية، وتحليل محتويات الرسالة والتمثلات الذهنية، وتبني منطق الدرجات والاتصالية في مقابل الثنائية الصارمة والانفصالية.

وثانيها مقترح الفرضية المجزوئية ( نظرية ج.أ. فودور) التي تنطلق من افتراض تكون الدماغ من منطقتين مستقلتين عن بعضهما البعض. وتخلى صاحب هذه الفضية عنها أو كاد بسبب تعرضها لنقد شديد، ونتيجة الإقرار بفرضية الاتصال. وهو ما يتبناه محلل الخطاب لتعليل العلاقة الوطيدة والقوية بين الموسيقى ( تقع في الفص الأيمن) واللغة (تتموضع في الفص الأيسر).

وثالثتها مسألة التنبؤ التي تعتبر عملية تأويلية مفيدة لملء فرجات النص وإعمال الخلفيات المعرفية. ويجد محلل الخطاب نفسه ملزما على توظيف الذاكرة لبناء أطر أو مدونات أو نماذج ذهنية لفهم النص وملء فراغاته.
ورابعتها مسألة السياق التي تقتضي وضع الشعر في سياق الجنس الشعري ونوعه وشكله عبر العصور والأحقاب والأمكنة والفضاء.


ب- تضافر العلوم والبحوث الأدبية:

توجد مبادئ مشتركة بين  الشيء الفيزيائي والجسم البشري والنص الأدبي، وتصح المقايسة بين هذا الثالوث لاشتراكه في بعض العناصر المعروفة أو المفترضة. وبما أن علمي الفيزياء والإحياء متقدمان فهما يعتبران علمين أعليين يقاس عليهما النص الأدبي مع مراعاة خصوصيته. ومن تجليات هذه المقايسة أن النص الأدبي يعد خلية تشتغل وفق قوانين التكرار والتكثيف والتمديد والاستشراف، وتتشظى على مستوى الأحداث والشخصيات والزمن والفضاء والجنس الأدبي.

ج- أهمية المحيط:

يتوفر جميع البشر على نفس الملكات الحسية والإدراكية والمعرفية. فما سبب الفوارق بينهم أكانت قوية أم طفيفة؟ يحتكم محمد مفتاح إلى المحيط الخارجي لما له من دور في تشجيع الملكات الفطرية أو كبتها. إذا كان ثريا وتفاعل أهله معه إيجابا تقدم المجتمع وازدهر؛ وإن كان مضعضعا وتفاعلت الساكنة سلبا معه تقهقر وارتد إلى الدرك الأسفل.

ومن ثمة تكمن قيمة عمل الأشخاص وحركيتهم ومسؤوليتهم للنهوض بأنفسهم والتأثير في محيطهم اعتمادا على ما يتوفرون عليه من طاقات وإمكانات يشترك البشر جميعهم فيها. إن اختلاف البيئات والمحيطات يسهم في تنوع التجليات اللغوية والحركية والإبداعية. كما أن واقعه لا يمكن أن يزحزح عن الاعتقاد بوجود مشتركات إنسانية. وفي هذا المنحى اقترح محمد مفتاح مبادئ طبيعية (الحركة) وبشرية(السمع والبصر والذاكرة) وتوليفية (التوليف والتنظيم) لفهم مقاصد الإنسان وأنشطته وتحركاته وقدراته للتفاعل مع محيطه والتأثير عليه بهدف وضع حلول للتحولات العنيفة والكوارث وضمان التعايش البشري في وئام ومحبة. ومن ثمة يتضح دور الثقافة ( ومن ضمنها أساسا الموسيقى والشعر).

مع مراعاة  المتغير والثابت، والفطري والمكتسب، ومرونة الأنساق الإدراكية، في انسجام الكون وتنظيمه،وتنمية ملكات الأفراد وتحسين قدراتهم على الإبداع والابتكار،  وتكوين الإنسان الكامل بطرق تهذيبية متكاملة ( حسب لسان الدين بن الخطيب). 


د- التناول الشمولي أو النسقي:

لا يمكن أن تفهم مكونات النص وعناصره إلا في علائق بعضها ببعض، وفي إطار شمولي ونسقي يقتضي البدء من الكل إلى الجزء، أو من الجزء إلى الكل، ومن نسق الأنساق إلى أصغر نسق أو من أصغر نسق إلى نسق الأنساق.
هـ النظام والاتصال:

قد يتوهم الباحث أن النص متشظ ومتفرع إلى عناصر لا تربط بينها صلات معينة. في حين تتسم بتداخلها وانسجامها في بنيات متراصة. يعترف محمد مفتاح بوجود أشكال من الكوارث والفوضى والعماء لكنها مؤقتة وظرفية قبل أن تستقر على نظام متسق، وتنضبط لقانون عام يؤطرها ويعبد الطريق نحو مستقبل يرضي جميع الأطراف المتنازعة.

3-الإشكال:

أدلى محمد مفتاح بدلوه لإضاءة العلاقة بين اللغة والموسيقى والشعر اعتمادا على نظريات ومقاربات لها سندها التاريخي والعلمي. وقام، بالنظر إلى تطور العلم، باختزال سيرورة هذه العلاقة في حقبتين أساسيتين وهما الحقبة التقليدية( من العهود الغابرة إلى المنتصف الأول من القرن العشرين) ثم الحقبة المعاصرة.

ولم يكن هم محمد مفتاح التأريخ لهذه العلاقة وإنما تناولها في ضوء علوم العصر بصفة خاصة، وإبراز مدى امتثالها لنظرية التشاكلات بين كل ما في الكون.” وهي انتقلت إلى العالم الإسلامي فتلقاها بعض بالقبول التام، وبعض بالتعديل والتكييف؛ إلا أن ما قبله الجميع هو العلاقة بين الشعر والموسيقى؛ وخير ما يمثلها كتاب ” الأغاني”، وكتاب ” كمال أدب الغناء” حيث يجد القارئ تداخلا بين صناعتي الموسيقى والشعر؛ إذ يصوغ الشعراء قصائدهم على منوال القواعد الموسيقية، ويلحن الموسيقيون بحسب ما تقتضيه التقاليد الشعرية الراقية”([2]).

وقد أسهمت هذه العلاقة بين الشعر والموسيقى في نهاية القرن التاسع عشر إلى إحداث تحول حاسم في الذائقة الموسيقية-الشعرية ، أفضى إلى انحسار القصيدة التقليدية وظهور قصيدة النثر والنثر الشعري المتحرر من قيود الوزن، وإلى الاعتماد على حاستي السمع والبصر حتى تكتسب القصيدة حيويتها من عملية الإنشاد والعزف، ويستثمر فضاؤها أشكالا متعددة مما كان له أثر في فن التشكيل.

وما يعاب على الحقبة التقليدية اعتماد الشعراء والموسيقيين على الحدس والتفلسف أكثر من استنادهم إلى العلم الخاص. ومما تميزت به الحقبة المعاصرة هو استناد العلوم المعرفية (طب التشريح/ وظائف الأعضاء والعلوم العصبية/ علم النفس والأصوات) إلى أسس علمية راسخة قوامها ما يوجد في الدماغ من باحة خاصة بالموسيقى في الجهة اليمنى وأخرى خاصة باللغة في الجهة اليسرى.

إن التحقيب المقترح غير مشيد على القطائع المطلقة إذ يوجد خيط رفيع يربط بينها ” وهو البنية العميقة اللاواعية المتجذرة في الدماغ/ الذهن البشري؛ وعناصرها التفكير بالمقابل، والتجزيء، والتدريج، والتنظيم، والتوليف”([3]). ومما استنتجه محمد مفتاح من التحقيب أن الشعر العربي، من أقدم العصور إلى العهد الحديث، ظل يدور في فلك التصورات القديمة والوسيطة.

ولما جاءت الحقبة الحديثة انفتح، بدرجات متفاوتة، على المستجدات الشعرية / الموسيقية الحديثة و المعاصرة. وهذا ما حفز محمد مفتاح على استيحاء المعطيات والمفاهيم الملائمة من إبدالي التوافقية/ اللاتوافقية لتحليل عينات من الشعر العربي المعاصر.

4-النظريات الموسيقية:

استند محمد مفتاح إلى أربع نظريات تبين العلاقة الوثيقة بين اللغة والموسيقى، وتتدرج من العام إلى الخاص، ومن الكلي إلى الجزئي، وهي: النظرية التوليدية للموسيقى التوافقية لراي جاكيندوف R.Jackendoff وفريد ليردال F.lendahl، ثم نظرية التعبير الإيقاعي، ثم النظرية الإيقاعية، ثم النظرية الموحدة. ومن غايات النظرية التوليدية للموسيقى التوافقية، نذكر أساسا ما يلي:

-تخليص الموسيقى من التقسيمات والتشتت وكثرة المقامات، وإحلال البنية التجميعية التي تنهض على التوليف والتحليل في آن واحد.” أي الانطلاق من النواة فالخلية فالمكرورة.. فإلى المقطوعة، أو من المقطوعة فإلى القسم.. فإلى النواة”([4]).
* وجود نواة بمثابة المنطلق والمنتهى، والإقرار بمهيمنة هي ذروة التوتر الذي ينحل بالرجوع إلى الأساس (الاستقرار أو الاسترخاء).

* الاعتماد على علم النفس الخاص بدراسة الأشكال التي أثرت في كثير من النظريات المعاصرة ( مثل النظرية البنيوية ونظرية الأنساق ونظريات الاستعارة والنظرية الموسيقية) التي ترفض التعامل مع الظواهر على نحو مفرق ومشتت، وتدرس “جواهر” هذه الظواهر لاستخلاص الصفات المشتركة ( النظرية الظاهراتية).

* العناية بالتحويل باعتباره مكونا أساسيا لتوليد محدثات عديدة من نواة صغيرة. و ما يهم مفتاح هو التحويل على مستوى البنيات السيميائية العميقة وعلى المستويات السطحية في النصوص الشعرية وفي القطع الموسيقية بصفة أساسية، وفي اللوحات التشكيلية للاستئناس والتمثيل.

* اللجوء إلى الاستنباط (الإستراتجية التنازلية) لتفادي تحكم معطيات التجربة في التحليل.
واستنتج محمد مفتاح من هذا الكتاب وجود علاقة وثيقة بين البنية الشعرية والبنية الموسيقية، إذ أن كلا منهما يتولد من نواة فخلية فمكرورة فموضوعة فمقطوعة فقصيدة وذلك على الرغم من اختلاف مكوناتهما وعناصرهما واستقلال بعضهما عن بعض.

ويعد هذا الكتاب خطوة موفقة أولى في اتجاه إبراز ما يجمع بين الموسيقى والشعر، ولبنة اعتمد عليها باحثون آخرون للضرب على المنوال نفسه أو لتصحيح مكامن الخلل. وفيما يلي بعض الأسس التي استندت إليها النظريات الثلاث الأخرى لتأكيد العلاقة الوطيدة بين الشعر والموسيقى، وتعزيز ما دعت إليه النظرية التوليدية للموسيقى التوافقية:

* العناية بالمكونات الإيقاعية الثلاثة : أولها الوزن الذي يعد بمثابة الاستجابة الإيقاعية لنبضات مطردة في  وسيط حسي ومتجذرة في الانتظام البيولوجي للكائن، وثانيها التجميع بوصفه عملية تجزئ النص إلى مجموعات صغيرة متراتبة ومتساوية، وثالثها التمطيط الذي يقر بتوفر كل جهة من جهات النص على ذروة الوصول/ الانطلاق البنيوي.

* مقايسة الإيقاع الشعري على الإيقاع الموسيقي اعتمادا على مفاهيم منتقاة من نظريات متنوعة ، ومن ضمنها نظرية الاختزال الإيقاعي، ونظرية التجميع الإيقاعي، والنظرية الإيقاعية. وهذا مما أسهم في سد بعض النقص الموجود في النقد الأدبي الذي أهمل الترابط الحاصل بين الإيقاعين الشعري والموسيقي.

* تأكيد جوهرية النواة الموسيقية التي تتولد منها اللغة. فهذه النواة تعد بمثابة عماد اللغة وقطب رحاها. وبمراعاة قواعدها يحصل تناسب الأصوات، وبإغفالها يحدث التنافر.

* وجود ملكة عميقة تتحكم في النسق الإدراكي الذي يبحث في مبدأي البساطة والمشابهة. يُعنى بالبساطة القدرة على اختزال المعقد إلى عناصر بسيطة يسهل استيعابتها، ويفيد مبدأ المشابهة ضم النظير والمماثل إلى صنويهما قصد حل مشكل الإبهام.

* بيان دور السياق الثقافي واللغوي في تطوير الموهبة الموسيقية والحس الثقافي المرهف.
* اقتراح قواعد التشكيل السليم للتجميع. ومن ضمنها المجاورة ( يجب على عناصر المجموعة أن تكون متجاورة) والذروة ( وجوب توفر المكونات الضعيفة على مكون واحد قوي) وسحرية العدد سبعة(توفر المجموعة على سبع مكونات) والجذر( إن النص مجموعة منبثقة من شيء ما) ([5]).

* تأويل حركات الشاعر يحتاج إلى التعرف على هندسة الدماغ/ الذهن. وتلعب الحركة دورا أساسيا في إيضاح معنى القصيدة.

إن النظريات الموسيقية المعتمدة تجلي المبادئ الأربع التي تهم نشاط الكائن البشري، وأداءه في الحياة، وقدرته على التوليف والتنظيم والإبداع ، وتقدم تصورات متقدمة ومتكاملة لتعليل الترابط الوثيق بين الإيقاعين الشعري والموسيقي، وإمكانية الدمج بين القواعد الشعرية والموسيقية لضبط إيقاع السواد والبياض معا.


5-المنهاجية:

يعتمد محمد مفتاح، في معظم أعماله، على مناهج متعددة سعيا إلى الإكباب  على الظاهرة الأدبية في تعقدها وشموليتها من جهة وتشابكها وتعالقها بظواهر مماثلة من جهة ثانية. وهو ما نهجه في هذا الكتاب متوخيا اقتراح نظرية شاملة وعامة لمقاربة الشعر بطريقة شعرية موسعة (الآلة الصورية) تهم الثالوث اللغة- الموسيقى- الحركة، وتقوم على مبادئ ماورائية (المعرفة والحركة والتوليف والانتظام)، وتعتمد على تصورات ونظريات ومناهج مستقاة من العلوم المعرفية، وتمتح موادها وعناصرها من المكتسبات المعرفية والشعرية العربية والغربية قديمها وحديثها.

وتستند هذه النظرية إلى المنهاجية السيميائية بدعوى أنها متجذرة في الطبيعة البشرية، ومتعالية على الزمان والمكان والأشخاص، وقادرة- بحكم استنادها إلى الأوليات المنطقية والرياضية-على استثمار مكاسب العلوم المعرفية ( بما تحتوي عليه من علم الأعصاب وعلم تحصيل المعرفة واللسانيات وفلسفة الذهن وعلم النفس وعلم الاجتماع) وتدبيرها على الوجه الأحسن.

ومن بين الاعتبارات التي حفزت محمد مفتاح على إرساء النظرية الشعرية الموسعة على أسس سيميائية نذكر ما يلي:

1-أن توظف المبادئ المجردة المشتركة بين مجالات متعددة ( العلوم الخالصة، والعلوم الاجتماعية والإنسانية) لدراسة الشعر بفاعلية وشمولية ونسقية(النظرية الاتصالية) عوض الاقتصار على عناصر جزئية مفصولة عن بعضها البعض ومعزولة عن سياقاتها، أو مقاربتها بطريقة مختزلة وعشوائية.

2-أن يدرس الشعر ضمن الفنون الأخرى التي تتقاطع في بعض السمات المشتركة، وتتبادل التأثير فيما بينها(المسرح والسينما والتحت والرسم والتشكيل). ومما يجعل شعر التفعلة ظاهرة معقدة وعويصة، هو أنه – علاوة على انفتاحها على الثقافات الأخرى- يدمج فنونا متنوعة (ما اصطلح عليه محمد مفتاح بالتفان) في بنية متراصة ومفرغة. وهذا ما يقتضي استثمار  المفاهيم الملائمة لمقاربة الفنون والمكونات المتداخلة والكشف عن المبادئ المشتركة بين اللغة والموسيقى واللغة بطريقة موحدة ومتصلة ونسقية.

3-أن يدرس الإنسان في تفاعله مع المحيط بالحواس الخمس والتذكر مع مراعاة ما يتوفر عليه من مؤهلات دماغية وذهنية لتنفيذ مشروعاته الشخصية والجماعية، وتحسين عمله وإتقان حركاته حتى يكون عنصرا فاعلا في المجتمع، ومسهما في تقدم مجتمعه وازدهاره.

اضطر محمد مفتاح إلى انتقاد مكامن الخلل والقصور في النظرية السيميائية البارسية حرصا على إنشاء نظرية سيميائية معاصرة ومركبة.

  • – النظرية السيميائية المعاصرة:

حاول السيميائيون تدارك نقائص نظرياتهم بإحداث تعديلات وتحويرات عليها لكنهم ظلوا أسارى منطلقاتهم الميتافريقية. وهذا ما حفز محمد مفتاح على اقتراح مفاهيم وجيهة لتعزيز النظرية السيميائية منهجا وأداء.؛ وهي كما يلي:

– الاتصال: إن كل شيء يشبه كل شيء بجهة من الجهات، ويختلف معه في جانب من الجوانب. وهذا ما يجعل الكون عبارة عن متصل يقطع إلى أجزاء متنافرة، ويجعل اللغة جماعا من العناصر المتشابهة والمختلفة.

– التدريج: كل شيء يمكن أن يدرج إلى مراتب. ويعد المنطق المتدرج لب الحياة وحافزا للتغلب على تعقدها.

– التحركية: انتبه السيمائيون إلى نواقص الدورية المبتذلة أو الحركية الخطية لكونها لا تعير اهتماما للتحولات المفاجئة التي يمكن أن تغير مسار الحركة جذريا. وهذا ما  جعلهم يتبنون ” تحركية فوضوية مستعنين بمفاهيم نظرية الكوارث؛ مثل كارثة الصراع التي تعني الانشطار الثنائي، وكارثة التشعب العادي الذي يتعدى الثنائية، وكارثة التشعب الفراشي؛ ومن الفروض أن ينتج عن الانشطار والتشعب صيرورة غير خطية متوقفة أو غير متوفقة..”([6]).


  • – المنهاجية المركبة:

يزاوج محمد مفتاح بين السميائيتين الأمريكية والأوروبية مستمدا منهما المفاهيم الملائمة (على نحو  التحليل بالمقومات ، والتشاكل، والمربع السيميائي، والأيقون، والمؤشر، والمؤول، والرمز، والصيرورة الدلالية اللامنتهية، وخاصة الاستعارة  لمقايسة مجال بمجال )، ويعتمد أيضا على اللسانيات والشعريات وتحليل الخطاب سعيا إلى اقتراح نظرية شعرية أوسع تسعف على الكشف عن المكونات الظاهرة والخفية التي تجمع بين الموسيقى و الشعر من جهة وبين الشعر والمكونات الأخرى من جهة ثانية،

وتقدم تصورات متقدمة لاستيعاب الملكات اللغوية والموسيقية والحركية اعتمادا  على نتائج البحوث العلمية المعاصرة فيما يخص هندسة الدماغ/ الذهن، وتكشف عن المبادئ الموحدة والبنيات المتقاطعة، وتعلل النسق الموحد والمعالجة المتعاونة التي تنهض على تضافر  الأنساق(النسق الصوتي والنسق التركيبي والنسق الدلالي)، وتقاطع عملياتها وتفاعلها تحقيقا لأهداف مشتركة.

6- التنزيل:

خصص محمد مفتاح الجزء (أنغام ورموز) الثالث لدراسة متن يشمل عينات من شعر التفعلة، ويمتد على ما يزيد على أربعين سنة، ويخضع لتحقيب يجري مجاري العادات الإبداعية الإنسانية([7]) دون الفصل المطلق بين أنواع الشعر وأشكاله، وإحداث القطيعة الجذرية في الإبداع الشعري والموسيقي.درس محمد مفتاح في القسم الأول من الجزء الثاني دواوين شعراء مغاربة معاصرين ، معظمهم ينتمي إلى التيار التقليلي ( المهدي أخريف، حسن نجمي، عبد الرحمن بوعلي، رشيد المومني)؛ في حين أن واحدا  منهم ينتسب إلى  النزعة التكثيرية (محمد بنيس).

و لا يحجب هذا التصنيف السمات المشتركة التي  يتقاسمها الشعراء فيما بينهم ؛ ومن ضمنها الانفتاح على الثقافة الكونية، والاشتراك في بعض الأطروحات الفكرية والمظاهر الشكلانية.  تتفق الدواوين كلها  في إثارة جملة من القضايا تهم الصنعة الشعرية من قبيل هوية الكتابة، والموقف من اللغة،و المزج بين الفنون في القصيدة الواحدة، وتشييد أشكال هندسية من تلاقح البياض والسواد. ومن بين الأمور التي روعيت في تحليل المتن نذكر أساسا ما  يلي:

– التوفيق بين الكليات الجامعة والتجليات الخصوصية، والمواءمة بين المعطيات الكونية والاعتبارات الاجتماعية والذاتية،  والمزاوجة بين التحليل الجمالي وبين الكشف عن المحددات الأساسية للنص الشعري.

– استجماع المعطيات الدلالية والإيقاعية والموسيقية، وتحليلها بطريقة نسقية، واعتماد حقائق علمية(عضوية الكائن البشري) وأطروحات فلسفية(فلسفة انتظام الكون)، وطرق إجرائية مستقاة من علم الموسيقى.

-إعادة النظر في كثير من المفاهيم المتداولة في تحليل الخطاب الشعري لعجزها عن تفسير بعض الظواهر الشعرية المعقدة، وعدم قدرتها  على تنظيم الفوضى، وعقلنة الهذيان،  والاقتراب من الشعر واقتحام حماه.

– توليد المفاهيم ونحتها ( من قبيل التبايض والتساوض والتفان والبصعمة والصومتة والتذاكر والشعسقى) لتفسير  المكونات المتداخلة والمتشابكة،  والتغلب على حل المشاكل العويصة، واستجلاء تفاعل النص مع نصوص مختلفة ومع المحيط الاجتماعي والثقافي.

تتضمن الأشعار  المحللة على توافقات موسيقية ظاهرة أو مختلفة. وهي، في مجملها، محكومة بأوليات موسيقية. وهذا ما يبين فرضية قوية مفادها أن “الشعر موسيقى في لغة طبيعية”. فعلاوة على استضمار الشعر للقواعد العروضية، يتوفر أيضا على مكونات التأليف اللحني. ومن ضمنها على سبيل المثال التنميط، وقواعد التقطيع والبروز، والسلم الكبير، والسلم الصغير، والسلاليم المترادفة، والاختزال..الخ. 

وهو ما يجعل النص الشعري مشرعا  على قراءات محتملة.إما أن يقرأ مقاميا أو توافقيا أو تسلسليا. وهكذا فهو لا يمتثل لنموذج ثابت من التأليف، وإنما يستوعب تشابكا وتداخلا على مستوى الإيقاع العميق. وبناء على حرص محمد مفتاح على فرضيتي التركيب والإدماج، كان يمد الجسور بين الشعر والموسيقى، ويحدث تفاعلا ديناميا  بينها بالمفاهيم المترحلة والمقايسة، ويقطع النص الشعري بطريقة متدرجة مستندة إلى التناسب الرياضي الموسيقي، ورصد مختلف المراحل التي ينمو فيها الشعر بالتوتر، والاسترخاء، والقوة والضعف، والتقدم والاستباق، وصولا إلى الذروة وارتدادا منها..

وكل هذه المراحل تسعف النص الشعري على إقامة التوافقات بين المكونات المختلفة، وإثراء  البنيات الإيقاعية والموسيقية وتنوعها.

درس محمد مفتاح في القسم الثاني متنا مكونا من : قصيدة” الرأس والنهر” لأدونيس، ثم قصيدة ” أحد عشر كوكبا  على آخر  المشهد الأندلسي” لمحمود درويش ، ثم ديوان” هناك تبقى” لمحمد بنيس.

سعيا إلى اقتراح منهجية تأليفية منتقاة من علم الموسيقى، استند محمد مفتاح، في تحليل قصيدة أدونيس، إلى قواعد الموسيقى التوافقية، وبين أنها، على نحو مثيلاتها، تنمو من نواة تتوالد منها  جمل منتظمة في عمليتي التوتر والاسترخاء ومحكومة بإيقاع موسيقي. ومن بين العناصر المعتمد عليها نذكر  التجميع الاختزالي (ترابط المكونات وتتابعها) والاختزال التمطيطي (إبعاد المستويات غير المهمة حرصا على بقاء النواة الصلبة) واختزال المسافة الزمنية (القوة والضعف) والتراتب الاختزالي (التوفيق بين التوتر والاسترخاء). ووظف محمد مفتاح استراتجيات متعددة لتحليل القصيدة من جوانب وزوايا مختلفة. ومن ضمنها: الإستراتجية التنازلية (استخلاص دلالات النص انطلاقا من العنوان).

والإستراتجية الاتصالية(تدرج موضوعات النص من البداية إلى النهاية وتوطد علاقاتها بالمستويات الفنية)، وإستراتجية التهويل(هيمنة موضوعة الكارثة العظمى في القصيدة). ورغم  الطابع الشذري للقصيدة فهي  متراصة في شكل بنية شاملة تستوعب العلائق الظاهرة والخفية بين مختلف الفنون، وخصوصا الموسيقى والمسرح والشعر والتشكيل. ولم يعر محمد مفتاح، انسجاما مع طبيعة موضوعه، أكبر اهتمام إلإ للخلفية الموسيقية مستندا إلى النظرية التوافقية لقياس القصيدة على التأليف السمفوني لوجود قواسم كثيرة بنيهما، مثل كيفية التأليف، والإيقاع، والتناص، والدلالة.

ركز محمد مفتاح ، في تحليل قصيدة محمود درويش، على بنية التقريب(مقارنة وضع العرب في الأندلس بوضعهم في فلسطين)،والرمزية الصوتية، والبناء الموسيقي(تجليات الموسيقى المقامية والتناظرية والتوافقية والتسلسلية والتقليلية في القصيدة)، والبنيات الدلالية والرمزية. ومن بين الأمور، التي توقف عندها في تحليل المكون الموسيقي، نذكر ما يلي:

– يقلد الشاعر التوليفات الموسيقية.

– تتيح الموسيقى للشاعر إمكانات وفرصا متعددة لتنويع البنيات الإيقاعية.

– يصرف اهتمامه عن الصخب الإيديولوجي والتعقيد والاصطناع ليولي أهمية قصوى لجوهر الشعر  وتحالفه مع الفلسفة.

انطلق محمد مفتاح، في مقاربة ديوان محمد بنيس، من افتراض وجود توحيد ووحدة عميقة (ما عبر عنه بالاتصالية) تقي الفرد من الانخداع بالتشرذم والتشظي الظاهرين. وبرهن على ذلك من خلال اللحن والإيقاع والدلالة مستوحيا عدته من علم الموسيقى. ورغم استثمار الشاعر لنغمات وطنينات موسيقية فهو ليس موسيقيا بالتعلم والاكتساب، وإنما استلهم القواعد الموسيقية بالفطرة والغريزة. وهي راسخة في دماغه يحينها، كلما اقتضت الضرورة ذلك، في نظم الشعر وتأليفه، وفي تعزيز الوحدة المتكثرة التي تبدد مظاهر العماء والفوضى والتشظي وتجلياتها في الوجود.

يعبر ديوان محمد بنيس عن المضامين الثرة بشعر التفعلة الواحدة الذي يمكن تسميته بالشعر المعبور، وبتعدد التفعلات في الشعر المسطور، وبالمنثور المنصاف المرصوف، أو المشتت الأصوات المتشظي. وبعد أن حلل نماذج من المعبور والمسطور  قارب مقطوعة من المنثور، وتوقف عند مشاكل الوقف التي تؤثر سلبا في إنشاد الشعر أو قراءته.

وبناء على التحليل المستند إلى الإيقاع استخلص ما يلي: ” في ضوء هذا يمكن أن يكون هناك تضافر بين الأوزان، والإيقاع، والتركيب ، والمعنى، لاقتراح أوقاف دقيقة تعتمد على المسافة الزمنية، وأوقاف تقريبية تستند إلى الجمل، والمعنى، ذلك أن الاعتماد وحده على الجمل إذا  وجدت يبخس الشعر خصائصه، والاستناد إلى الإيقاع وحده يخل بالتواصل الذي هو هدف كل رسالة، ويعدم هوية الشعر فيصير كأنه مجرد أصوات منظمة شبيهة بموسيقى ما”([8]).


7-الآفاق:

يفتح كتاب محمد مفتاح آفاقا متعددة للبحث العلمي مقترحا آلة صورية (مبادئ معرفية وتركيبية وتنظيمية وحركية) لإنجاز نظرية شعرية موسعة قادرة على تفكيك بنية النص الشعري المعقدة، واستخلاص كليات بشرية وخصائص نوعية منه، ومقاربة طبيعته ووظيفته وعلاقته بالعلوم والفنون. وفيما يلي بعض الآفاق التي يقترحها الباحث محمد مفتاح على غيره من الباحثين في مجال النقد والأدب والموسيقى والتربية قصد الإفادة منها ومناقشتها وتطويرها:

– استند محمد مفتاح إلى منهاجية سيميائية عامة ومركبة (مشيدة على أسس العلوم المعرفية المعاصرة، ومستقاة من اللسانيات والشعرية وتحليل الخطاب لاقتراح نظرية أوسع تسعف على تحليل النص الشعري في شمولية ونسقية إلماما بمختلف عناصره القاعدية والأساسية من جهة، وتمكن من الكشف عن مكوناته العميقة والسطحية التي تجمع بينه والموسيقى من جهة ، وبينه و الفنون الأخرى من جهة ثانية.

وإن كان محمد مفتاح، في مؤلفاته السابقة، يعير اهتماما كبيرا للشعر العمودي، فهو، في مؤلفه الجديد، اختار عينة من شعر التفعلة لشعراء معاصرين، مغاربة ومشارقة، للتدليل  على استفادتهم، بدرجات متفاوتة، من الحقبة الموسيقية المعاصرة التي انبثقت ضمن العلوم المعرفية المعاصرة. ويتضح من التحليل أن محمد مفتاح ظل وفيا للنموذج الذي سبق أن اقترحه في  كتابيه ” تحليل الخطاب الشعري”([9]) و”دينامية النص” ([10]) لمقاربة النص الشعري انطلاقا من المحورين الأفقي والعمودي اللذين يستوعبان عناصر جديدة، ويغيران مواقع عناصر أخرى أو يستغنيان عنها تبعا لخصوصية النص وتعقد بنياته.

ويضطر محمد مفتاح في كل مؤلف على حدة إلى إضافة عناصر جديدة بحجة استحالة وجود نص أدبي نقي ( ما اصطلح  عليه محمد مفتاح بالتفان)([11])، ووجود عناصر فوق تاريخية، وبالنظر، أيضا، إلى مقصدية المبدع ومحيطه وتفاعله مع الثقافة الكونية، وتقدم العلوم واكتشافاتها.

– اعتمد محمد مفتاح ، على جري عادته، على النظرية الاتصالية لقياس انسجام النص على تماسك الكون واتساق مكوناته، وبيان أن كل ما في الوجود يستمد نسغه ودلالته بالتنظيم، وإبراز دور الموسيقى في تواصل الناس فيما بينهم، و في تغليب كفة التناسب والاتصال على كفة التنافر والانفصال. واستند محمد مفتاح، في هذا المضمار، إلى فرض المصدر المندمج التركيبي المشترك لتعليل مدى تضافر مكونات الدماغ وفصوصه (ما يخزنه من تمثلات تركيبية وموسيقية ولسانية) في أداء وظائفها المشتركة رغم انفصالها ظاهريا.

وهذا ما يتشخص في أفعال البشر الناجمة عن المصادر العصبية المسؤولة عن تنشيط التمثلات التركيبية المخزنة.  وبعد أن شغل محمد مفتاح فروضا متباينة في صدقيتها ( مدى قوتها أو ضعفها أو هشاشتها)([12]) اقترح فرضا خاصا يقر بأن اللغة موسيقى. ويفضي التسليم بهذا الاقتراض إلى أن الشعر موسيقى. إن استفادة محمد مفتاح من منجزات العلوم المعرفية المعاصرة ومكتسباتها جعله يمعن النظر في الصلات الدقيقة بين الفصوص الدماغية لإبراز دورها المشترك في حفز الإنسان على القيام بأفعال وحركات منسجمة، والانجذاب إلى اللغة باعتبارها موسيقى.

وهو ما يندرج في إطار سعيه إلى  تقدم المجتمع ، وحرصه على انسجامه وتماسكه درءا لكل الأخطار المحدقة والمفاجئة التي يمكن أن تفضي به إلى الفوضى والتفرقة والعماء.

– استنتج محمد مفتاح من النظرية الشعرية الموسعة خلاصات تربوية تقضي بمعاودة النظر في البرامج التعليمية لتدارك نقائصها وسد ثغراتها بالمستحدثات المعرفية والعلمية الجديدة. ومن ضمنها نذكر ما يلي:

– إن اعتبار الموسيقى أم العلوم، بما تتضمنه من أبعاد تربوية وتهذيبية وأخلاقية وعلاجية، يحتم إدماج حصص تعليمية في المنظومة التربوية يتولى تلقينها مختصون في الموسيقى. إن مثل هذا التجديد التربوي سيبعد العقم عن منهاج اللغة العربية، ويخلص العروض مما لحق به من تمحلات وتفريعات غير مجدية كالزحافات والعلل.” لقد أدى هذا الزعم إلى ما أدى إليه، وخصوصا التحجير، والتحجر، اللذين لا سبيل إلى القضاء عليهما إلا بنظرية تناغمية تجعل الهجانة، والتضاد، والتقابل، من مكونات الخطاب الموسيقي، ومن سبل إغنائه ، وإثرائه، وتفسح المجال أمام التمزيج بين التفعلات، والأوزان” ([13])

– تزويد المتعلم بمعلومات تتعلق بعلم الأعصاب وعلم التشريح وعلم الوظائف حتى يتسنى له تعرُّف أن الخطاب الشعري وليد مكونات دماغية متشابكة ومتصلة ( ما يدرك بنسق السمع والبصر، وما يخزن في الذاكرة)، وأن الشاعر مزود بمورثات تتفاعل إيجابا أو سلبا مع المحيط، فإما يعمل على تطويرها أو كبحها. 

– لم يحلل محمد مفتاح المكون الموسيقي فحسب، وإنما بين مدى تفاعله مع مكونات أخرى ( على نحو التخييل والتمثلات والتفانّ والموضوعات وحركات الشاعر..) لتبديد بلاغة غموضه، وتقريب معانيه العويصة من القراء، وبيان تفاعله مع الثقافات الكونية، وقدرته على المزاوجة بين الكليات البشرية والخصوصية الاجتماعية والثقافية.

إن طبيعة النص المعقدة وتشابكه مع فنون أخرى حفزا  محمد مفتاح على عدم التقيد بمميزاته البنيوية حرصا على بيان ديناميته، وسياقه التداولي، وخلفياته المعرفية، وعلاقته بالمبدع والمحيط، وتحاوره مع نصوص سابقة (التناص الداخلي والخارجي).

وقد عمد ، سعيا إلى تحقيق أهدافه العلمية، إلى المزاوجة بين البعدين النقدي ( النقد المعرفي الذي يعنى بمضامين النصوص وثمثلاتها وتفاعلها مع نصوص وثقافات أخرى) والشعري ( شعرية موسعة تبحث في العلاقة بين اللغة (الشعر) والموسيقى والحركة) اعتمادا على مفاهيم سيمائية متجددة.


الهوامش:

[1] – محمد مفتاح، مفاهيم موسعة لنظرية شعرية اللغة-الموسيقى-الحركة ، الجزء الأول مبادئ ومسارات، المركز الثقافي العربي، ط1، 2010، ص20.
[2] – محمد مفتاح، مفاهيم موسعة لنظرية شعرية اللغة-الموسيقى-الحركة ، الجزء الثاني  نظريات وأنساق، المركز الثقافي العربي، ط1، 2010، ص/ص 40-41.
[3] – المرجع نفسه ص48.
[4] – المرجع نفسه ص69.
[5] –  فيما يخص تفصيل ” قواعد التكوين السليم للتجميع” ، انظر المرجع نفسه ص/ص 105-106.
[6] – محمد مفتاح، مفاهيم موسعة لنظرية شعرية اللغة-الموسيقى-الحركة ، الجزء الثالث  أنغام ورموز، المركز الثقافي العربي، ط1، ص 33.
[7] –  لعل ما يتبنى هو تجزيء الشعر العربي الحديث والمعاصر إلى أمدين بعيدين: أولهما أمد التفعلة التي صيغ فيها الشعر العمودي وغيره من الأنواع الأخرى ( على نحو الموشحات والأزجال والعاميات المختلفة)، وثانيهما حقبة (الشعثرة) و(النثيرة) و(الصواف). المرجع نفسه ص38.
[8] – المرجع نفسه ص303.
[9] -“استقينا عناصره من بنية شديدة التعقيد وهي الشعر، فأنواع الخطاب الأخرى غير المعقدة مثل النحو والفلسفة والفقه…وما  شاكلها من ضروب الخطاب”العلمية” لا يعار فيها الاهتمام للعنصر الصوتي، ولكن المعجم واسترسال المعنى وخطيته ومنطقية التركيب تكون هي الأساس. ومعنى هذا أن العناصر الأفقية تختلف نسبة وجودها في فنون الخطاب، لأنها محكومة بالمحور العمودي(المقصدية -المجتمعية) أي أن المتكلم وحالاته العقلية المشعور بها(الرغبات والمعتقدات) وغير المشعور بها (النرفزة والاكتئاب اللامباشرين)، ومحيطه العام يوجهان فعله وعمله الكلاميين….وهكذا فان العملية الكلامية بمختلف وظائفها تعكس مواقف الذات وأفعالها وحالاتها العقلية وتمثل في الوقت نفسه العلاقات الإنسانية المتفاعلة” . انظر محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري (إستراتجية التناص)، ط2، المركز الثقافي العربي، 1986، ص 169.
[10] – “على أن هذه المفاهيم جميعها هي عمودية بالنسبة إلى عناصر الخطاب الشعري التي هي : الأصوات، والمعجم، والتركيب، والمعنى والتداول. ولكن هذه العناصر ليست خاصة بالخطاب الشعري إذ كل خطاب يحتوي عليها، ولهذا ، فإننا ملزمون بإنجاز عملية فرز وبتحديد خصائص بنيوية مميزة لكل خطاب . وهذه العملية مستحيلة لعدم وجود أي جنس أدبي نقي، ولتحطيم المبدعين المعاصرين قيود الأجناس الأدبية ومواصفاتها، ومع ذلك ، فإنه لابد من التسليم بوجود خصائص فوق تاريخية تكون مرئية أحيانا ، ومحتاجة إلى استنباط أحيانا أخرى”.محمد مفتاح، دينامية النص [ تنظير وإنجاز]، ط1، المركز الثقافي العربي” 1987، ص 54..
[11] –  وذلك نظرا لاستحالة استخلاص سمات مميزة للخطاب بدعوى انفتاحه على خطابات أخرى وتداخله معها.
[12] – ” اشتغلنا بفروض ، أحدها قوي يدعي أن كثيرا من قوانين الموسيقى ، وقواعدها، هي ما يحكم اللغة الطبيعية؛ ثانيها ضعيف يفترض أن هناك مصدرا عصبيا مندمجا مشتركا بين  الموسيقى واللغة معا؛ وثالثها أضعف يسلم بكليات جامعة بين اللغة والموسيقى، لكن مواد كل منهما مختلفة عن الأخرى كل الاختلاف” محمد مفتاح،  مفاهيم موسعة لنظرية شعرية، الجزء الثالث، م.سا ص 321.
[13] – محمد مفتاح، الجزء الثالث أنغام ورموز، م.سا ص346.

محمد الدّاهي

باحث أكاديمي مغربي، أستاذ سيميائيات السرد والسرد الحديث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، مكلف بفحص وتقويم وتحكيم أعمال علمية وأدبية قصد المُدارسة والنشر، عضو في فرق البحث والمختبرات ذات صلة بالتخصص، عضو في عدد من المَجلات العربية: الثقافة المغربية، فكر، كتابات معاصرة، الخطاب، سمات، المقال..، عضو اللجنة الوطنية للتقويم والمصادقة التابعة لوزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي (مادة اللغة العربية)، عضو اللجنة المُكلفة باختيار المؤلفات الخاصة بمادة اللغة العربية في التعليم الثانوي التأهيلي. صدرت له عدَّة مؤلفات في النَّقد الأدبي وفي البيداغوجية. حاصل على جائزة المغرب للكتاب لسنة 2006 في صنف الدراسات الأدبية والفنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى