ثقافة المشاركة
كنا ونحن تلاميذ في الإعدادي، حين نقرأ كتابا، أو نطل على صورة مثيرة، نأبى إلا أن نتداولها مع زملائنا في الفصل أو الحي. وتظل الكتب والصور تنتقل من يد إلى أخرى، ولو على نطاق محدود، وكانت الفائدة لا تتعدى تلك الدائرة التي نتقاسم معها حب القراءة.
أتذكر الآن واحدة من الروايات التي أعجبت بها أيما إعجاب عالقة في الذاكرة. إنها رواية «قافلة البصرة، أو عدل عمر بن الخطاب» لأديب عون. تأثرت كثيرا بأجواء القصة وعوالمها ولغتها. وكل من أعطيته إياها كان يشاركني الإحساس نفسه، ويقر بأنه لم يهدأ له بال إلا بعد أن أتى على آخرها، إلى أن انتهت إلى يد صديقة فقبرتها عندها مدعية أنها سلمتها إلى إحدى صديقاتها التي لم ترجعها لها. فكان أسفي شديدا عليها.
ومرت السنون، ووجدتها مرة تباع في سوق شعبي، فحصلت عليها، وأعدت قراءتها فلم أجد ما افتقدته فيها إبان قراءتي الأولى.
في مرحلة لاحقة من حياتنا الطلابية، ظل التنبيه إلى الكتب والمجلات المهمة ساريا بين الطلاب المعنيين بالثقافة والمعرفة، إلى جانب أشرطة الأغاني الملتزمة، وإن بدا أن البعض، مع الزمن، صار يحتكر بعض المراجع كيلا يطلع عليها غيره، أو حتى يشير إلى وجودها، ليظل الوحيد الذي يتحدث عنها مزهوا بمعرفته بأعلام وكتب يجهلها غيره.
إن إشراك الآخرين في بعض ما يبدو مهما ومفيدا، من الأمور التي تحقق الوعي المشترك عن طريق التبادل أو التنبيه. ولا يمكن أن يتأتى ذلك إلا في اللحظات التي تبدأ تتبلور فيها يقظة فكرية، أو صحوة اجتماعية. عندما كان التواصل بين المثقفين يتم من خلال المؤسسات واللقاءات كان يسألك أحدهم هل قرأت هذه الرواية، أو شاهدت هذا الفيلم أو اطلعت على هذا الكتاب؟ ومرّ زمان انقطعت فيه الصلات والعلاقات بسبب الانشقاقات والخلافات بين الجماعات الاجتماعية والثقافية، فأصبحت القراءات، لمن بقي عنده قلق المعرفة، محدودا وضيق المجال.
وغدا كل واحد منا يطلع على ما يكتشفه بنفسه، ولا يشترك معه أحد في الهموم الثقافية التي يحملها أو الأسئلة التي يطرحها، فأمسيتَ تسمع في اللقاءات وتقرأ في الكتابات المحلية والعربية بعض المتدخلين، أو الكتاب يقدم مراجع لم يطلع عليها غيره، ولا أحد سواه يشاركه المعلومات والخلفيات، وقد تصدعت البوصلات.
يعود السبب في تفشي هذه الظاهرة إلى الفضاء الشبكي، الذي بات يتيح لكل مهتم أو متابع إمكانية الحصول على ما لا يحصى من المراجع الجديدة، بعد البحث والاستكشاف الذي لا يمكن أن يهم سواه. وصار كل منا متمحورا على ذاته ومواقعه الخاصة التي تسعفه بما لا يهم غيره، منغمسا فيها ومكتفيا بما تقدمه له من وِجادات «جاهزة» ، منتظرا فرصة تتيح له الإطلالة علينا بما كان به متوحدا، ومنعزلا به عن غيره.
لكن الفضاء الشبكي لم يسمح فقط بهذا الوجه الذي يكرس الفردانية. لقد أتاح هذا الفضاء إمكانات أكبر لمساحات كبرى لما نسميه «ثقافة المشاركة»، خاصة عبر الوسائط الاجتماعية الشعبية.
صار كل المسجلين في لائحة اتصالاتك عبر الواتساب أو المسنجر يمدك برسائل نصية أو صور وفيديوهات تعميما للفائدة، أو جلبا لابتسامة، أو إبلاغ تحية. ولما كان المنخرطون فرادى وجماعات يظل ما تتوصل به متنوعا بتعدد الهواجس والاهتمامات. وقلما تجد من يبعث لك رابطا لمكتبات أو إلى دراسة مهمة.
وبذلك صارت هذه الوسائط تكرس الإشراك والمشاركة بصورة لم تتشكل في أي زمن سابق، حتى بات كل منا منغمسا في قلب تبادل الأخبار والمعلومات والقرارات رغم أنفه، ولا يجد نفسه أحيانا إلا أمام ضرورة إشراك الآخرين، أو بعضهم في ما يتوصل به.
يبدو ذلك واضحا في اللغة التي باتت سائدة من خلال صيغ دالة على المشاركة: «بارطاجي، لا تجعله يقف عندك، لا يفوتك أجرها بتذكير غيرك، الدال على الخير كفاعله. لكم أن تدعو من ترونه مهتما إلى»، وما شابهها من العبارات، بل إن بعض منصات الفيديو لا تبدأ في تقديم مادتها إلا بعد الإعلان عن أهمية الإعجاب، والمشاركة.
وبسبب كون وسائط الاتصال جزءا من حياة الناس غدت المشاركة من العادات اليومية الممارسة في كل وقت وحين، مركزة من خلال ذلك على البعد التفاعلي الذي تكرسه هذه الوسائط.
إن المشاركة الرقمية وقد صارت مقوما من مقومات الحياة الجديدة تفرض شروطا خاصة لا بد من تقديرها من لدن المستخدمين كي تحقق المطلوب.
فإلى جانب كون التواصل الذي يتم من خلالها يدفع في اتجاه إبقاء العلاقات قائمة، ولو عن بعد بين الناس، يسهم في جعل التبادل متاحا رغم المسافات. وبما أن المتبادلين متعددين وأحيانا غير معروفين، تطرح قضية الثقة من جهة، والمسؤولية من جهة أخرى.
فلا يكفي أن تثيرنا المادة المتوصل بها لإشراك الآخرين. لا بد من التثبت والتريث والانتقاء، وإعمال النظر. ويتطلب ذلك مناقشة ثقافة المشاركة للارتقاء بالوعي الجماعي المشترك إلى مستوى أعلى لتحقيق التفاعل المنشود.