“حمّاد الراوية” و”خلف الأحمر” المملوكان اللّذان عاثا في الشعر العربي فسادا
ما من مفارقة يجد كل دارس للأدب العربي، بُدا من التعايش معها، مثل المفارقة الماثلة في حقيقة أن كلا من حماد الراوية وخلف الأحمر، هما فرسا الرهان في الشعر العربي القديم؛ الجاهلي والمخضرم، وأنهما يستأثران بإجماع العلماء على علو كعبهما من جهة وبتواتر الأخبار عن سوء سيرتهما الأخلاقية واجترائهما الشديد على تلفيق الأشعار من جهة ثانية! وحرصا مني على ترتيب مقدمات هذه المفارقة، فدعني – أيها القارئ العزيز- أصوغها على النحو التالي:
1- من الثابت أن حماد الراوية الكوفي وخلف الأحمر البصري، يتحدران من أصول غير عربية؛ فالأول منهما فارسي والثاني منهما أوزبكستاني. كما أن كلا منهما كان مملوكا وأُعتق!
يستأثر حماد الراوية وخلف الأحمر بإجماع العلماء على تواتر الأخبار عن سوء سيرتهما الأخلاقية واجترائهما الشديد على تلفيق الأشعار
2- مع ضرورة النظر بعين الاعتبار الشديد لحقيقة أن حماد الراوية قد كان لصا يسطو على البيوت! وأنه عثر في إحدى غاراته بصفحات من شعر الأنصار فأعجبته وغدت رفة الفراشة التي نقلته من عالم اللصوصية إلى عالم الشعر وروايته، فضلا عن ثبوت معاناته من اللحن رُغم غزارة محفوظه، فإن من الضرورة بمكان أيضا التنويه بحقيقة أن الاثنين (حماد وخلف) كانا شاعرين مجيدين جدا، وأنهما كانا يتكسبان بشعرهما.
3- رغم التنافس التاريخي بين مدرسة الكوفة التي كان يمثلها حماد الراوية ومدرسة البصرة التي كان يمثلها خلف الأحمر، إلا أن علاقة وثيقة طريفة ربطت بين الاثنين، إلى درجة أن خلفا كان يشد الرحال إلى حماد فيسمع منه أشعار الجاهليين والإسلاميين ثم يُسمعه – باعترافه هو- الأشعار التي لفقها لشعراء الجاهلية وصدر الإسلام، فيرويها حماد عنه ويذيعها بين الناس! والأطرف من هذا أن علماء الكوفة صاروا يشدون الرحال إلى خلف الأحمر في البصرة – بعد وفاة حماد- ليسمعوا منه ما كان قد سمعه من حماد!
4 – من الثابت أن حماد الراوية كان سكيرا عربيدا ملازما لمجموعة من الزنادقة الخلعاء (حماد عجرد وحماد الزبرقان ومطيع بن إياس) كما أن خلف الأحمر كان ملازما لوالبة بن الحباب الذي يتحمل وزر إفساد العديد من الشعراء وتشجيعهم على المجاهرة بشرب الخمر والمجون، وعلى رأسهم أبو نواس.
وعلى كثرة القصائد والأبيات التي أقر خلف الأحمر بإقدامه على تلفيقها، فإن إقراره السافر بأنه وضع (لامية العرب) المنسوبة للشنفرى، يكفي للتطويح بمصداقيته العلمية كلها من جهة، ويدعونا للشعور بالرثاء لآلاف الباحثين العرب والأجانب الذين أنضوا أقلامهم في تحليل قصيدة لم يقلها الشنفرى من جهة ثانية!
ويدفعنا إلى أن نبكي ونضحك في آن واحد؛ لأن الناس فاجأوا خلف الأحمر بعدم تصديقهم لاعترافه بتلفيق هذه القصيدة وغيرها، فاضطر إلى التوقف عن رواية الشعر تكفيرا عن ذنبه، وكأنه لم يصدق أن كذبته قد تحولت إلى أسطورة يعجز عن تبديدها، فراح يواظب على تلاوة القرآن الكريم ليلا نهارا حتى توفي، على ذمة بعض الرواة! وأما حماد الراوية الذي انفرد برواية ونشر القصائد السبع الطوال التي عُرفت فيما بعد بالمعلقات،
فإن الشك يحيط بكثير من أبيات هذه القصائد إلى درجة أن المقبول منها في بعض القصائد لا يتجاوز بضعة أبيات فقط، ويمكن لمن أراد التوسع في هذا الشأن العودة إلى ما أورده العلامة شوقي ضيف من ملاحظات لامعة بهذا الخصوص!
5- من الثابت أن حماد الراوية كان مقدما عند الأمويين وولاتهم، وأنه ظفر بمئات الآلاف من الدراهم، مكافأة له على روايته لأشعار الجاهليين والإسلاميين، إلى درجة الزعم بأنه كان يروي مئة قصيدة على كل حرف من حروف اللغة العربية. والمشهور أن المفضل الضبي أثبت بما لا يدع مجالا للشك كذب حماد الراوية في مجلس الخليفة العباسي المهدي،
فما كان من الأخير إلا أن وهب المفضل خمسين ألف درهم لعلمه ووهب حمادا عشرين ألف درهم لإجادته في نظمه الشعر، وأمر المنادي بأن ينادي بأن الخليفة يأمر من يطلب الرواية الصحيحة للشعر بالاستماع للمفضل الضبي، ومن يطلب الشعر الجيد بالاستماع لحماد الراوية!
سادسا: حتى تبلغ هذه المفارقة مداها الأقصى، فإن كل المصادر تجمع على علو كعب الاثنين وسعة علمهما ومعرفتهما الدقيقة بطرائق العرب في الكلام، ثم تستدرك على نحو كوميدي وخاصة في معرض الكلام على خلف الأحمر، بأنه لم يعبه إلا اقتداره على نظم الشعر وتلفيقه لشعراء الجاهلية!
وكأن هذا العيب المشين لا يكفي للطعن في مصداقيته! وأيا كان الأمر فإن من حسن حظ الاثنين – ولا أشك في أن حظهما قد كان وافرا جدا- أنهما حظيا بتلاميذ أوفياء، لم يدخروا وسعا لتعظيم حسناتهما وتهوين سيئاتهما، حتى صار كل واحد منهما أشهر من نار على علم، وأي نار وأي علم!
من حسن حظ العرب أن مصادر الشعر العربي القديم اضطلع بتحريرها ثلاثة من الرواة الخلص: الضبي والأصمعي والقرشي.
ولا يسعنا بعد هذه المرافعة، إلا أن نتساءل: كيف ولماذا تقبل الأمويون المتعصبون للعرب والعربية حقيقة اضطلاع مولى فارسي مثل حماد الراوية بمهمة حراسة ديوان العرب؟ وكيف ولماذا تهاون العباسيون في توبيخ مولى أوزبكستاني مثل خلف الأحمر بعد أن ثبت لهم كذبه وتدليسه؟
وكيف ولماذا نجح هذان المملوكان المعتوقان في ملء فراغ حيوي مثل رواية الشعر الجاهلي والمخضرم؟ هل لأن العلماء العرب انشغلوا بعلوم القرآن والكريم والحديث النبوي الشريف والصرف والنحو والعروض وأهملوا رواية الشعر؟ مع أن هذه العلوم كلها لا تستغني بحال من الأحوال عن التضلع بديوان العرب! أيا كان الأمر فإن من حسن حظ العرب والعربية،
أن مصادر الشعر العربي القديم، ورغم كل الفساد الذي عاثه حماد الراوية وخلف الأحمر، قد اضطلع بتحريرها ثلاثة من الرواة العرب الخلص الذين لا يساورنا شك في علمهم وهم على التوالي: المفضل الضبي صاحب (المفضليات) وعبد الملك الأصمعي صاحب (الأصمعيات) وأبو زيد القرشي صاحب (جمهرة أشعار العرب)!
نقلا عن حفريات