يهوذا بن قريش: رائد اللغويات المقارنة بين العربية والعبرية والآرامية في القرن 19
(Judah ibn Kuraish)
يُعد جودة بن قريش أو (يهوذا بن قريش)؛ أحد أبرز علماء اللغة والنحو اليهود في الغرب الإسلامي، وواحدا من أوائل من أسّسوا لمنهج المقارنة اللغوية بين اللغات السامية. وُلد في مدينة تيارت (الجزائر حاليا) وازدهر نشاطه العلمي في القرن التاسع الميلادي. عُرف بكونه نحويا بارعا ومؤلفا لمعجم لغوي مفقود، إلا أن إسهاماته في فقه اللغة المقارن لا تزال حاضرة في سجل التراث اللغوي اليهودي-العربي.
- الريادة في المقارنة بين اللغات السامية
كان ابن قريش أول من طرح بوعي علمي فرضية التشابه البنيوي بين العربية والآرامية والعبرية، مدركا أن هذه اللغات الثلاث تنحدر من أصل سامي مشترك، وتخضع – رغم تفرّعها – لقوانين لغوية متماثلة. ومن هذا المنطلق، سعى في أبحاثه إلى إثبات وجود أنماط مشتركة في التصريف، وتبادل الحروف، وبنية الجذور، وتحوّلات الأزمنة والصيغ، متجاوزا بذلك التصورات الحرفية المتأثرة بالمشناه أو التلمود، ما جعل البعض يخطئه بكونه من القرّائين.
- الرسالة إلى أهل فاس: وثيقة مؤسسة لفقه اللغة المقارن
أهم أعماله التي وصلتنا تُعرف باسم “الرسالة إلى أهل فاس“، وهي مكتوبة بالعربية لكن بحروف عبرية، وقد حررها ونشرها المستشرقان بارجس وغولدبرغ (باريس، 1857). تعتبر هذه الرسالة من أقدم الوثائق التي رسّخت المنهج النقدي في دراسة اللغات السامية.
تقسم الرسالة إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
- تحليل الكلمات التوراتية في ضوء الآرامية: مقارنة دقيقة بين مفردات العهد القديم وما يقابلها في الترجوم (Targumim).
- المقارنة مع العبرية الربانية: تتبع تطور الكلمات في التقاليد اللغوية اللاحقة.
- العلاقات البنيوية بين العربية والعبرية والآرامية: يعالج فيه ظواهر لغوية مثل:
- تبادل الحروف (ألف مع عين، عين مع غين…).
- تغيّر الصيغ الزمانية.
- تحوّلات في الجنس والعدد.
- سقوط أو ظهور الحروف اللينة.
- المقابلات في الصوائت (الحركات).
ويختتم العمل بقسم إضافي خاص بتحليل العلاقات الصوتية والمعجمية بين العربية والعبرية.
- مؤلفات مفقودة وإرث علمي باقٍ
يُنسب إلى جودة بن قريش أيضا كتاب في الوصايا، وآخر بعنوان قاموس، إلا أن هذه الأعمال لم تصلنا. ويُعتقد أنه أشار إليها ضمن رسالته، لكنها ضاعت مع مرور الزمن. رغم ذلك، تبقى “رسالته” وثيقة فريدة تسبق عصرها وتثبت أن منهج المقارنة اللغوية لم يكن وليد القرون الحديثة فقط، بل بدأ في الغرب الإسلامي بجهود أصيلة مثل جهد ابن قريش.
- معلومات تقنية
1. الهوية والبيانات الأساسية
- الاسم الإنجليزي: Judah ibn Kuraish
- بالعبرية: יהודה אבן קריש
- بالعربية: يهوذا بن قريش
- ينحدر من تيارت (Tahert) في الجزائر، وبرز في القرنين الثامن/التاسع الميلاديين.
2. إسهامات علمية في فقه اللغات السامية
- يُعد أول عالم قارن بين العربية والآرامية والعبرية بمنهجية علمية واضحة، مع التركيز على:
- أصل لغوي مشترك.
- أنماط بنيوية صوتية وصرفية.
- تبادل الحروف (مثل: ألف–عين، عين–غين، زين–دال…).
- دراسة الجذور، ودراسة تغيّر الأزمنة، والجنس، والصوائت .
3. رسالته إلى فاس (Risāla)
- رسالة موجهة إلى مجتمع فاس، كتبت بالعربية بحروف عبرية، ونُشرت بتحقيق بارجس وغولدبرغ في باريس عام 1857م .
- تمثّل واحدة من أقدم الأعمال النقدية في مقارنة اللغات السامية.
4. مؤلفات مفقودة
- ذكرت الرسالة قاموسا وكتابا عن الوصايا، لكنه لم يَبقَ منهما شيء معلوم .
السياق التاريخي والتأثيرات اللاحقة ليهوذا بن قريش في تطور علم اللغة المقارن
برز جودة بن قريش (Judah ibn Kuraish) في زمنٍ كان يشهد تقاطعا ديناميكيا بين التيارات الفكرية اليهودية والإسلامية، خصوصا في المغرب الأوسط (الجزائر حاليا) خلال القرن التاسع الميلادي. كانت مدينة تيارت (Tahert) مركزا ثقافيا متقدّما في دولة بني رستم الإباضية، بيئة سمحت بتلاقح المعارف بين المسلمين واليهود والمسيحيين، مما أتاح لعلماء مثل ابن قريش الاطلاع على التراثين العربي والتوراتي معا، وابتكار مناهج تحليلية غير مسبوقة.
لقد وفّر هذا السياق الفريد – حيث ازدهرت حركة الترجمة، والحوار الثقافي، والاستقرار السياسي النسبي – مناخا ملائما لبروز اتجاهات لغوية عقلانية لا تخضع بالضرورة للموروث الديني الحرفي، كما هو حال ابن قريش الذي تجاوز سلطة المشناه والتلمود في تحليل اللغة، مع الحفاظ على مرجعيته اليهودية.
- 1- تأثيره في الفكر اللغوي اليهودي والعربي
شكلت الرسالة إلى أهل فاس حجر الزاوية في بناء ما يمكن تسميته اليوم بـ”الفقه اللغوي السامي”، وترك تأثيرا بعيد المدى في عدة مجالات:
أ. على الفكر اليهودي-الأندلسي
في وقت لاحق، سيقوم أعلام مثل سعديا الغاؤون ويونس بن جنّاح بتطوير مقاربات لغوية مشابهة، تعتمد على المقارنة بين العبرية والعربية، وربما استفادوا من نتائج ابن قريش بشكل مباشر أو غير مباشر. وقد دُرِسَت نصوصهم في سياق مقارن مع رسالته، حيث لوحظ تطابق في بعض الفرضيات الصرفية والمعجمية.
ب. على النحو العربي المقارن
على الرغم من أن معظم مؤلفات ابن قريش لم تنتشر على نطاق واسع في المدارس النحوية العربية، فإن الرسالة تشهد على استباقه لبعض أطروحات النحويين العرب، مثل مسألة التبادل الصوتي بين الحروف، وتفسير التحولات الدلالية في الجذر الثلاثي، ما يُظهر إدراكا مبكرا لـ”بنية الجذر”، التي ستُطوّر لاحقا في المدارس البصرية والكوفية.
القيمة التاريخية لرسالته
تكمن القيمة العلمية لرسالة يهوذا بن قريش في أنها:
- أول نص معروف يستخدم منهج المقارنة المنظّمة بين اللغات السامية الثلاث.
- تعكس وعيا بنيويا متقدّما بالبنية الصوتية والصرفية للغات.
- تتعامل مع اللغة كنسق متحوّل ومتفاعل، لا ككائن جامد أو مقدّس.
- تقدم نموذجا علميا لا يخضع لأهواء العقيدة أو السلطات التقليدية.
الإحياء الأكاديمي الحديث لرسالته
أعاد المستشرقون أمثال Bargès وGoldberg إحياء هذا النص في القرن التاسع عشر، من خلال نشره ودراسته في باريس (1857)، مما أتاح للأوساط الأكاديمية الأوروبية التعرف على أصول الدراسات السامية، ليس فقط من التراث العبري أو المسيحي، بل من صلب التراث المغربي-اليهودي-العربي كذلك. كما أصبحت الرسالة مرجعا أساسيا في دراسات اللسانيات التاريخية وفقه اللغة التوراتي.
ملحق توثيقي (Bibliography)
المؤلف | العمل | التفاصيل |
---|---|---|
Jewish Encyclopedia | “Judah ibn Kuraish” | سرد تاريخي من القرن الثامن/التاسع مع تفاصيل رسالة فاس (jewishencyclopedia.com) |
Encyclopaedia Britannica | “Judah ibn Kuraish” | تبيان لمساهمته في النحو والمقارنة اللغوية |
DBpedia | “Judah ibn Kuraish” | إشادة بمولده وتأثيره (dbpedia.org) |
Academia.edu | “Encyclopedia of the Bible and its Reception” | تحليل منهجي لرسالته وأثرها |
- خلاصة:
إن جودة بن قريش لم يكن مجرد نحوي من القرن التاسع، بل هو حلقة مركزية في سلسلة تطور علم اللغة المقارن، وقد مهد الطريق لفهم مشترك ومتوازن بين اللغات السامية، قبل قرون من ظهور علم اللسانيات المقارن في أوروبا. إن استحضار إرثه اليوم يعيد الاعتبار لدور العلماء المغاربة واليهود في بناء المعرفة الإنسانية خارج حدود الانتماء الضيق.