لا أغُشُّ … بل سأَغُشُّ
تُصدر “الرابطة المحمدية للعلماء” سلسلة تربوية موجهة إلى النشء المغربي ( تلاميذ السنوات الأولى ابتدائي) تحمل العنوان التالي ” أيمن ونهى”. وهي عبارة عن قصص ترويها الجدة عائشة إلى أحفادها كل ليلة.
يتعلق الأمر بصيغة تربوية هامة تعتمد ديداكتيك التشخيص، حيث يوضع التلميذ في مواجهة وقائع “خام” تستطيع ذاكرته الصغيرة استبطانها بسهولة، وبذلك تُجنبه وَعْثاء البحث في الكليات المفهومية المجردة. فالقصة في جميع الحالات هي أداة للتواصل والإخبار واستثارة الانفعالات، وهي، قبل هذا وذاك، أداة للإقناع والشرح وأداة للتضليل أيضا.
فما يُقدَّم للتلميذ في السنوات الأولى من التمدرس، هو في الأصل سلسلة من المفاهيم من قبيل العلم والجهل والخير والصدق والشر ضمن قالب سردي يروي قصة نساء ورجال علماء وجَهَلة وأخيار وأشرار، دون الإشارة إلى الأصل المجرد للقيمة.
فهذا الوجه يستعصي على إدراكه، والوعي المحدود عنده لا يستطيع تمييز الشيء بضده أو نقيضه، إنه مرتبط بالمراجع المباشرة، لا بمعادلاتها المفهومية المجردة. لذلك لا يَثِقُ الصغير بشيء ثقَته “بالوجه الحدثي” القادر وحده على “تصريف” المفاهيم في وضعيات إنسانية قابلة للاستيعاب والتدبُّر من خلال ما يمارسه الناس وما يرددونه في شكل محكيات وأقاويل.
وضمن هذا القالب تُصنف كل قصص السلسلة، ومنها القصة التي تحمل العنوان التالي: “لا أغُشُّ”، وهي التي نحاول في هذه الورقة الكشف عن بعض مُضْمراتها. تروي الجدة لأحفادها تفاصيل ما حاول حميد، التلميذ الغشاش المفترض، القيام به لاجتياز الامتحان دون أن يُكلف نفسه عناء مراجعة دروسه وحفظها، وكيف ساعده أيمن، النزيه المجتهد، على تجنب الغش ليصبح في نهاية القصة تلميذا مجتهدا هو الآخر.
وقد قُدم مضمون الأحداث بكثير من “التعالم” و”الأحكام” الجاهزة، حيث تبدو العوالم التي يتحرك داخلها صغار في بدايات التمدرس أوسع بكثير من وعيهم ومداركهم.
لا يُمسك التلميذ في هذه المروية المصورة “بالغش المجرد” أو “النزاهة المجردة”، بل يلتقط نسخة منهما، كما يمكن أن تصوغهما القصة، إنه يُوضَع ضمن سياقات لا تتحدث عن “غش مطلق”، بل تشير إلى غش مخصوص يتحدد مضمونه المباشر ضمن ثقافة بعينها بامتداداتها في النصوص الأصلية،
وفي كل المتخيل الديني أيضا؛ وهي الصيغة التي تُمكن السارد، أو صاحب السلسلة كلها، من الكشف أيضا عن المضمون الثقافي للقيمة الموضوعة للتداول؛ فقد يبدو الغش في القصة كونيا في ظاهره، ولكنه في الجزئيات الحدثية مرتبط بسقف ثقافي تلعب فيه الأحكام الدينية، بأوامرها ونواهيها، الدور الرئيس.
استنادا إلى وجود هذا السقف، تَنْكشف أولى المحددات المركزية لطبيعة الفعل التربوي المنشود القاضي بـ”نَهْي” التلميذ عن الغش والاعتماد على النفس، أي الانتصار للأمانة التي تَشْرط نجاحَه وتفوقَه بالجهد لا بالتدليس. يتم ذلك كله ضمن تقاطعات سردية تخلق، تخييليا، ترابطا بين “عالم النص” ( قصة أيمن ونهى)، وبين “واقع مفترض”، هو عالم الجدة وأحفادها.
وهي الصيغة التي توهم المتلقي /التلميذ، بأنه يعيش بين نصين: يعيش “واقعه” ضمن عالم الجدة، ويعيش محتوى “القيمة” ضمن عالم القصة المروية، وكلاهما يقدم نموذجا للاحتذاء.
يتعلق الأمر ب”تأطير” سردي مُحْكَم يستمد أسسه من موسوعة معلومة، هي القيم الإسلامية تحديدا، ويُسْقط في الوقت ذاته عوالم قابلة للتحقق استنادا إلى ما تبيحه هذه الموسوعة وحدها.
إنه جهد محمود حقا، ولا جدال في جدوى المحاولة، ولكنها في الطريقة غير موفقة، لأنها ترتكز، في بناء عوالم القيمة المنشودة، على صوت “خارجي” يهمش المعيش الحياتي، وينتصر للنص “القبلي” الذي تقدمه القصة متعاليا وكليا يسمو فوق المشاعر، بما فيها مشاعر أطفال صغار لم يدركوا بعد حتمية الموت وهول العقاب ونعيم الجنة.
فهذه العوالم ليست فطرية في النفس كما يتوهم البعض، بل تُكْتَسب من خلال وعي الإنسان لسلطة الزمن على الوجود وأثره في النفس والجسد. وهو ما يعني، أن التلقين القائم على “الأمر” و”النهي”، كما سنُبَيِّن ذلك، لا يمكن أن يقود إلى خلق كائن حر ومسؤول يعيش الإيمان باعتباره اختيارا فرديا، لا إرثا، ثقيلا أو خفيفا.
ذلك أن النهي، عندما يأتي من الخارج، لا يساعد على بناء موقف ذاتي مستقل، بل يقود الطفل إلى العيش ضمن عوالم تأتيه من حياة أخرى لا يعرفها، إنها حاصل مواقف مسبقة قد تُراكم معرفة، ولكنها لا تعلم المرء كيف يفكر.
وهذا هو مضمون “النفي” في البرهنة والاستدلال، وفي الموقف من الأشياء والكائنات أيضا، إنه “استبعاد لإثبات ممكن، وبذلك لن يكون سوى موقف يتخذه الذهن من إثبات محتمل، فإذا قلت إن ” الطاولة ليست بيضاء”، فأنا لا أعبر عن شيء رأيته، ذلك أن ما رأيته حقا هو الأسود، وليس غيابا للأبيض.
وفي هذه الحالة، فإن الحكم لا ينصب على الطاولة، بل على الحكم الذي يُعلن أنها بيضاء” (برجسون). ومؤدى ذلك أن النفي لا يقود بشكل أوتوماتيكي إلى إقصاء كلي لما لا نود وجوده، بل يشد الذهن، على العكس من ذلك، إلى موضوع النفي ذاته. فموضوع الحكم هو ما يتم النهي عنه، لا ما نود أن تكون عليه الأشياء.
وهو ما يعني، في حالة التلميذ، أن النفي لا يقود إلى إقصاء المنفي، كما توهم بذلك الجملة ” لا أغُشُّ”، بل يوجهه، خلافا لظاهرها، إلى التساؤل عن مضمون الغش ذاته، أي تنبيهه إلى شيء لم يكن يعرفه، وفي هذه الحالة يتحول النفي إلى “إثبات سلبي”.
بعبارة أخرى، إن نفي الغش لا يأتي عبر النهي عنه، حتى ولو كان ذلك بصيغة الامتناع الذاتي، بل يتحقق من خلال تعليم التلميذ كيف يكون نزيها وصادقا (فالأصل في الأشياء الإباحة). وفي هذه الحالة، لن يكون مصدر النفي صوتا خارجيا ينهى أو يأمر، بل سيرورة تربوية تقود إلى الاقتناع بقيمة الأمانة والصدق والنزاهة في المدرسة وفي الحياة كلها.
ذلك أن النهي لا يمكن أن يكون، في أغلب الحالات، مصدرا للأمانة المنشودة أو سبيلا إليها، فقد يتولد عنه “الردع” أو “الفشل” و”الكسل” و”الخمول”، أو تتولد عنه مواقف قد لا تُحبذ الغش، ولكنها لا تحفز على تبني نقيضه بالضرورة.
ولأن النص لا ينطلق من جزئية حياتية قابلة للتسريد، بل من حكم مُسْبَق، فإن صدى هذا “النهي”، يتردد من بداية القصة إلى نهايتها، فالطفل في عالم القصة ليس “وعيا في طور التشكل”، بل هو “مؤمن صغير”. لذلك تَنْهى الجدة أحفادها عن الغش في الابتداء السردي (هم المستمعون للقصة)، وتضع المتلقي أمام نفي مفهومي هو الكم الدلالي الموضوع للتشخيص في القصة.
ويقول أيمن لصديقه حميد، بلغة لا يعرف مضمونها سوى “الكبار”، في الإيمان لا في السن، بأن الرسول قد تبرأ من الغشاشين. ويختم الأستاذ، يوم الامتحان، مسلسل النهي هذا بأن ذَكَّر تلامذته بأن “الغش ممنوع”.
يتعلق الأمر بمعركة حامية الوطيس ضد “عدو” غير مرئي يقوم السياق التربوي بخلقه من عدم، ذلك أن “المصلحة”، التي قد تدفع المرء إلى خرق القوانين أو العبث بالقيم والأخلاق، لم تتبلور بعد في مخيلة تلميذ في سن الخامسة أو السادسة، فكل ما يحركه في هذه المرحلة هو انفعالات لحظية تخص امتلاك شيء ما أو التخلص منه.
والحاصل أن موضوع التعليم لا يمكن أن يكون شيئا لا وجود له، أو لا يمكن أن يوجد إلا في ذهن مربي يحتفي بالنص أكثر من احتفائه بمصير صغير ناشئ.
يفترض الفعل التربوي شيئا آخر غير ما تسعى القصة إلى إبلاغه، فالصدق قيمة نتعلمها من خلال سلوك قابل للتحقق الفعلي، فمن خلال مزاياه في النفس وفي العلاقة مع الآخرين، ننفي الغش ونبتعد عنه.
وهي طريقة أخرى للقول، إن “التعليم بالسلب” لا يؤدي إلى نتائج إيجابية دائما، أو على الأقل هو كذلك في حالة الأطفال الصغار، فقد تتضمن حياة الغشاشين تفاصيل هي ما تلتقطه الذاكرة الصغيرة وتحتفظ به، فأن تُنَفِّرني من التبذير من خلال رواية قصة مبذر يعيش حياة ترف دائم، قد لا يمنعني بالضرورة من أن تستهويني بعض مظاهره، فقد لا يستطيع المرء منع نفسه أحيانا من التلذذ بشيء مما ترويه القصة عن متع حياة المبذرين.
ومن جهة ثانية، يوحي هذا السلب بأن ذهن الصغير قادر على الانتقال بسهولة، ضمن برهنة منطقية صريحة، من قضية إلى نقيضها فيما يشبه الوعي الآلي. فيكفي أن تَذُم أمامه الغش لكي يدرك ميزات الصدق ومنافعه، وتبعا لذلك يتذكر العقاب والحساب. وهذا أمر مناف للحقيقة، فالتلميذ يتعلم في القسم وفي الحياة كل شيء، القيم الحميدة والأقل حمدا والسيئة منها، وتلك هي طبيعة الوجود على الأرض. فالشر ليس طارئا يمكن القضاء عليه بالإحالة على نص مقدس، بل هو جزء من الزمنية ذاتها.
والحاصل أن الأطفال ليسوا كراكيز طيعة يمكن التلاعب بهم في كل الاتجاهات، إنهم “يقاومون” بالفطرة، وبما تلتقطه آذانهم في الشوارع، وما تلقنه الجدات بالإيجاب والسلب (يرى الكثير من علماء النفس في الجدة مربية فاشلة). ولو كانت الأمور تتم وفق بساطة القصة، لنافس الناسُ في الأرض الملائكةَ وفاقوهم نزاهة وصدقا.
لذلك، فإن الإحالة الدائمة على نصوص تتحدث عن “قيم جاهزة ” في انفصال كلي عن تعقيدات الحياة لا يمكن أن تكون رادعا، ولا تصلح أسلوبا موفقا في التلقين، فهي في جميع الحالات تقدم جوابا ولا تستثير أسئلة، والأسئلة وحدها مصدر المعرفة.
ومن جهة ثالثة، لا يشكل تذكير الأستاذ ( “أذكركم أن الغش ممنوع”) إخبارا بشيء مجهول لا علم للمستمع به، بل هو في المقام الأول، تنبيه وتحذير وزجر وتخويف، وهو بعد هذا وذاك “اتهام”. فقد يتحول الأستاذ في تصور الوعي الصغير، من خلال صيغ النهي والتحذير، إلى دركي أو شرطي أو مراقب، أو أي كائن يبعث على الخوف والرهبة.
إننا من خلال هذه الجملة نسرب إلى وجدان في طور التكوين “هاجس الأمن”، في السياسة والأخلاق والدين، وفي تدبير الشأن الاجتماعي. فهذا “النهي” قد يقود إلى خلق إنسان يخاف الله، ولكن الخوف لن يمنعه من الغش في الميزان والجودة وكل المعاملات. يتحول النهي هنا، في هذا السياق بالذات، إلى عائق أمام التعلم، وليس أداة له.
بل قد يكون الأمر أخطر من ذلك، فالفعل التربوي، في جميع السياقات، لا يقتضي الحديث عن المنع، فالمنع لا وجود له في العملية التربوية أصلا، لأنه ليس جزءا منها. إن القواعد الأصلية تقتضي أن نلقن بالإيجاب، وبعد ذلك تتبلور صيغ المنع المتعددة، فيتحدد تارة باعتباره حدا من حرية الفرد في الوجود، وتارة أخرى يصبح قناعة يتعلم من خلالها التلميذ كيف ينتمي إلى قيم مجتمعه، وبذلك فهو سمة يتم بناؤها في السلوك الفردي من خلال وضعيات متباينة، وليس تطبيقا ميكانيكيا لتعاليم مسبقة يفرضها صوت خارجي.
وهكذا، عوض أن يكون الامتحان فرصة نقيس من خلالها قدرة الاستيعاب عند التلاميذ، ونتلمس درجة الوعي بالحياة عندهم، يتحول إلى أداة لتكييف اللحظة مع مقتضيات نصوص الدين، دون مراعاة للسياقات التربوية المخصوصة.
بالتأكيد، لا عيب في أن نستعين بأقوال الرسول ونصوص من القرآن ومن تراث الإنسانية جمعاء، ولكن يجب أن نفعل ذلك ضمن مقتضيات تراعي مستوى الوعي وحجمه ودرجته، وبذلك تصبح هذه النصوص جزءا من برهنة يتعلم من خلالها التلميذ كيف يتكيف استقبالا مع ” صروف الدهر”، لا أطروحة جاهزة تُغْنيه عن التفكير.
وهناك في النهاية واقعتان:
-حالة “الجدة” التي تعتمدها السلسلة مصدرا للمعرفة، أي المحفل الذي نقدم من خلاله العلم في شكل” فرجة حياتية” (بارث)، تصب المفاهيم في الفعل المباشر. يتعلق الأمر ظاهريا بتأكيد أصالة تراثية داخل سقف معاصر يبدو في لباس الأطفال ومحيطهم. ولكن الصيغة تخفي أشياء أخرى لا يمكن لعين المحلل أن تخطئها.
فصاحب السلسلة يعرف أن الجدة لا تلعب في هذا الزمن أي دور “تربوي”، بل إن طبيعتها تغيرت أيضا، فقد أصبحت الجدات، خاصة في المدن الكبرى، أكثر عصرية من أحفادهن. فلا شيء في عوالم الجدة يغري الصغار.
إن المبرر الوحيد لوجود الجدة في الحكايات هو هذه الرغبة في ربط الحاضر بالماضي من خلال صيغ يلخصها الكتاب في أدعية وأمداح وتراتيل ترددها الجدة في ما يشبه “اللازمة” التي يتحدد دورها في “إغماس” الطفل الصغير ضمن عوالم يجب أن تكون هي مصيره ومبتدأه ومنتهاه.
إننا لا نسير إلى أمام يسنده ماض لا يمكن التنكر لوجوده، بل نبني حاضرا لا يمكن أن يستقيم إلا في النصوص. فمصدر المعرفة هو الماضي، كما ترمز إلى ذلك الجدة، والروابط بين الأجيال سَلِسَة تحميها عقيدة ثابتة.
-وهناك من جهة ثانية الرسم الإيضاحي الذي يضع أيمن وحميد ضمن وِضعة عجيبة تُضمن نظر الرسام نظرة أخرى هي نظرة تلميذ آخر في هيئة ما يسمى في لغة الصورة “الثلاثة أرباع” (العينان وجزء من الوجه)، حيث تخفي النظرة حيرة وتوجسا واستغرابا ولغزا.
فأيمن، “الطفل المؤمن”، يضع يده على رأس حميد، “الطفل الضال”، في ما يشبه حنان الأبوة والعطف والشفقة، في الوقت الذي يضع فيه حميد يده على صدره استعدادا للغش وتحديا لأعراف المدرسة في الجد والاجتهاد والنزاهة.
يتعلق الأمر بإسقاط عالم الكبار على “عفوية” الصغار، في ما يشبه الاستنبات المتسرع لوعي لا يسمح سن الصبية باستيعاب كل أبعاده. فالصورة لا تمثل لعالم الأطفال يستهويهم لعب لا ينتهي، والمدرسة فضاء للعب أيضا، بل تشخص حالات وعي ممكن، هو وعي الذي يلتقط الصورة.
إن “وضع اليد على الرأس” ليس جزءا من لعب الصغار، وإنما هو رسم لحالات تفاوت في السن والحكمة والخبرة، وهو أمر غريب عن السياق الذي تتحدث عنه القصة.
والخلاصة إن القصة لا تتحدث عن “الحياة”، كما هي حقيقة، في أعين الأطفال والكبار، بل تقوم بإخراج سردي لمجموعة من الأحكام النصية هي الغاية من القصة: الدين أولا، والإنسان بعد ذلك.