شعر

حدُّ الشِّعْر ومنزلتُه عند العرب ومكانتُه في الاحتجاج النَّحويِّ

الشِّعْر مأخوذٌ مِن الشُّعور، وهو الإحساس والإدراك بلا دليل، وقد سُمِّيَ الشَّاعر شاعرًا؛ لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره. والشِّعر قَوْلٌ مَوْزُونٌ مُقفىً يدل على معنىً، أي إنَّ له عناصر أربعة هي: القول والوزن والقافية والمعنى.

وقد عرَّف ابن طباطبا (ت 232هـ) الشعر بأنه كلامٌ منظومٌ، بان عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم بما خُصَّ به من النظم الذي إن عُدل به عن جهته ملتهُ الأسماع، وفسد الذَّوق، ونظمهُ معلومٌ محدود، وزاد ابن فارس (ت 395هـ) على تعريف ابن طباطبا أن يكون أكثر من بيت، وعلَّلَ ذلك بجواز مجيء سطرٍ واحدٍ على وزنٍ يُشبه به وزن الشِّعْر عن غير قصد، فقد قيل: إنَّ بعض النَّاس كتب في عنوان كتاب:

لِلْإمامِ المُسَيَّبِ بنِ زُهَيْرٍ           مِنْ عِقالِ بنِ شَبَّةَ بنِ عِقالِ

فاستوى هذا في الوزن الذي يسمَّى (الخفيف)، ولعلَّ الكاتب لم يقصد به شعرًا.

ونفهم من زيادة ابن فارس على حدِّ الشِّعر أنَّ القصد شرطٌ للشِّعر يضاف إلى عناصر الشِّعر الأربعة السَّابقة، فما يكون الشِّعرُ إلَّا بمجموعها، فإن جاء الكلام موزونًا مُقَفَّىً غير مقصود لم يكن شعرًا، وقد وردت آياتٌ كريمة لها وزن الشِّعر، ولا تُعَدُّ من الشَّعر في شيء، لانعدام القصد فيها، منها قوله تعالى:  (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ( آل عمران: 92 ) على وزن بحر الرَّمَل، وقوله تعالى حكايةً على لسان امرأة العزيز: (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي) (يوسف:32 ) على وزن بحر البسيط.

وأكَّد ابن رَشِيْقٍ القيروانيُّ (ت 456هـ) هذا المعنى، فقال بعد ذكره عناصر الشِّعر الأربعة السابقة الذكر: “فهذا حدُّ الشِّعر؛ لأنَّ مِن الكلام موزونًا مُقَفَّىً وليس بِشِعْرٍ، لِعَدم القصد والنِّيَّة، كأشياءَ اتَّزَنَتْ من القرآن ومن كلام النَّبيِّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، وغير ذلك مما لم يُطلق عليه أنه شعر، والمتزِن ما عُرض على الوزن فقبِلَهُ”1.  

وحسبنا أن نشرح- باختصار- عنصري الوزن والقافية، فالوزن أعظمُ أركان حَدِّ الشِّعر، وأَوْلاها به خُصوصيَّةً، وهو مُشتملٌ على القافية وجالبٌ لها ضرورة، وتتألَّف القصيدة من أبيات، وكل بيت يتألف من شطرين، يسمى أولُهما صدر البيت، وثانيهما عجزه، ويبنى البيت مِن أقسامٍ مُوسيقية، يُسمى كُلُّ قسم منها تفعيلة، والتَّفعيلة مجموعة مِن الأحرف المـتحركة والساكنة، وقد كان العرب ينظمون الشعر محسنين وزنه، ضابطين إيقاعهُ بالفطرة السليمة، فما يخلون بالوزن وما يلحنون.

أما القافية فهي شريكة الوزن في الاختصاص بالشِّعر، ولا يُسمَّى شعرًا حتَّى يكون له وزنٌ وقافية، وحَدُّها – كما قال الخليل – مِن آخِرِ حَرْفٍ في البيت إلى أوِّل ساكن يليه من قبله مع حركة الحرف الذي قبل السَّاكن. وقد سُميَت قافيةً؛ لأنَّها تَقْفُو إِثر كلِّ بيت، وقال قوم: لأنَّها تقفو أخواتها.

وذهب ابن رشيق والسُّيوطيُّ إلى أن كلام العرب كان كلُّه منثورًا، فلما احتاجت العرب إلى الغِنَاء بمكارم أخلاقها وأحسابها وأنسابها وبُطُولاتها وغير ذلك، توهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، وعندما استقام الوزن عندهم سمَّوهُ شِعْرًا؛ لأنَّهم شعروا به أي فطنُوا. ومن قبل، كان سيبويه قد رأى أن الشعر وُضِع للغِنَاء والتَّرنُّم.

وينبغي لنا أن نعلم أنَّ الشعراء أعلم بالشِّعر من العلماء، وهذا ما قرره ابن رشيق فأهل صناعة الشعر أبصر به من العلماء بآلته من نَحْوٍ وغريبٍ ومثلٍ وما أشبه ذلك، ولو كانوا دونهم بدرجات، فكيف إن قاربوهم أو كانوا منهم بسبب؟


  • منزلة الشِّعر عند العرب

لمَّا كان الشعر ديوان العرب الذي حفظ أفكارهم ومعتقداتهم ومآثرهم، وخلَّد أيامهم، في الحواضر والبوادي، وجب على دارس اللُّغة العربيَّة نَحْوِها وصرْفِها وبلاغتِها وفِقْهِها، أن يتبيَّن الأساليب التي تميَّز بها هذا الشعر، الذي لم تُعرف له بداية على وجه اليقين والتَّحقيق، ولا دليل قطعي لما ذهب إليه الجاحظ (ت 255هـ) من رأيٍ في الشعر الجاهلي، فهو عنده حديث، لا يرجع لأكثر من مئتي سنة قبل الإسلام2.  

كان الشعر العربيّ سَلِيْقَةً، بل كان شيئًا يسري في دماء العرب، يصدر عن قلوبهم، يُعبِّر عن حالاتهم النفسية، واستطاعوا، من خلاله، أن يُخلِّدوا كل ما أحاط بهم. فالشعر ميزان العرب، كما قال عليٌّ، رضي الله عنه.

إن منزلة الشعر بلغت في نفوس العرب حدًّا جعلهم يتخيرون من الأشعار قصائد، رأَوْا أنها وصلت إلى الغاية في جودتها لفظًا ومعنىً وبلاغةً، فكتبوها بماء الذهب وعلقوها على أستار الكعبة.

ما مِن شكٍّ أنَّ المنزلة التي وصل إليها الشعر العربي، لا تضاهيها منزلةٌ مِن أنواع كلام العرب سوى القرآنِ الكريم والحديث النَّبويِّ الشَّريف، والشاعر عند العرب أفضل من الخطيب.

ولمكانة الشِّعر نجد أن جُلَّ علماء اللُّغة والنَّحْو والتَّفسير يحتجُّون به لمسائل كثيرة. وقد كان ابن عبّاس، رضي الله عنه (ت68هـ) حَبْرُ الأمة وفقيهُها وتُرْجُمانُ القرآن الكريم – رحمه الله- يقول: “إذا قرأْتُم شيئًا من كتاب الله فلم تعرفوه، فاطلبوه في أشعار العرب، فإنّ الشِّعر ديوان العرب”3.  وكان إذا سُئِل عن شيء من القرآن الكريم أنشد فيه شعرًا. وقد استطاع هذا الإمام المُفَسِّرُ أن يَحْتَجَّ لمعاني ألفاظ القرآن الكريم بالشِّعر الجاهلي، وذلك عندما سأله نافع بن الأزرق (ت65هـ) رأس الأزارقة عن مسائل، عُرِفت بمسائل نافع بن الأزرق، وطالبه أن يأتيَ بشواهد من الشِّعر على ما يُفَسِّره من معاني ألفاظ القرآن الكريم.  

ولا تقلُّ منزلة الشَّاعر عن شعره عند العرب، فقد حَظِيَ الشَّاعر العربيُّ بمكانةٍ مرموقةٍ في قبيلته؛ ذلك أنه المدافع عنها بلسانه، الممجد رجالها، المُخلِّد مفاخرها ومآثرها، وإذا ما نبغ الشّاعر في قبيلة في العصر الجاهلي، ركبت العرب إليها فهنَّأَتْها به، لِذَبِّهِ عن الأحساب، وانتصارهم به على الأعداء، وكانت العرب لا تُهَنِّئ إلا بفرسٍ يُنْتَجُ أو مولود يُولَد، أو شاعر نبغ، هكذا زعمت علماء العرب.

ومن مِظاهر عناية العرب بالشعر حفظه وروايته، وجمعهُ والتّأليف فيه.

1 – الحفظ والرِّواية 

يُروى أن السَّيِّدة عائشة أمَّ المُؤْمنين، رضي الله عنها، كانت كثيرة الرِّواية للشِّعر، ويقال: إنَّها كانت تروي جميع شِعْر الشَّاعر الجاهلي لَبِيد، وهي التي قالت: رَحِمَ الله لبيدًا، كان يقول:

قَضِّ اللُّبانةَ  لا  أبالكَ واذْهَبِ

                                         وَالْحقْ بأُسرتِكَ الكِرامِ الغُيَّبِ

ذَهَبَ الَّذينَ يُعاش في أكنافهم

                                        وبَقيْتُ في خَلْفٍ كجلْدِ الأجْرَبِ

فكيف لو أدرك زماننا هذا! ثم قالت: إنِّي لأَروي ألف بيتٍ له، وإنه أقل ما أروي لغيره. وهي التي كانت تحثُّ على تحفيظ الأولاد الشعر، فتقول: رَوُّوا أولادكم الشعر تَعْذُبْ ألسنتُهم4 .

وهذا المقداد بن الأسود يقول: ما كنت أعلم أحدًا من أصحاب رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، أعلم بشعر ولا فريضة من عائشة، رضي الله عنها.

وقال أنس بن مالك: قَدِمَ علينا رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، وما في الأنصار بيتٌ إلا وهو يقول الشعر، قيل له: وأنت أبا حمزة؟ قال: وأنا.

وهذا الأصمعيُّ يقول: ما بلغتُ الحُلُم حتى رويتُ اثنتي عشرة ألف أُرجُوزة للأعراب، كان خَلَفٌ الأحمرُ أروى الناس للشعر وأعلمهم بجيده. 

وقال الشَّعْبِيُّ: ما أنا لشيءٍ من العلم أقلُّ منِّي روايةً للشّعر، ولو شئت أن أُنشد شعْرًا شهرًا لا أُعيد بيتًا لفعلتُ.

وثمة خبر يرويه ابن قُتيبة (ت 276هـ)، يدلُّ على العناية الفائقة بالرِّواية، فيقول: جاء فتيانٌ إلى أبي ضَمْضَمٍ بعد العشاء، فقال لهم: ما جاء بكم يا خُبَثَاءُ؟ قالوا: جئناك نتحدث، قال: كذبتم، ولكن قلتم: كبرَ الشَّيْخ فنتلعبه، عسى أن نأخذ عليه سقطة، فأنشدهم لمئة شاعر، وقال مرة: لثمانين، وكلهم اسمه عمروٌ، قال الأصمعيُّ: فعددتُ أنا وخَلَفٌ الأحمرُ فلم نقدر على ثلاثين، فهذا ما حفظه أبو ضمضم، ولم يكن بأروى الناس، وما أقرب من أن يكون من لا يعرفه من المسمين بهذا الاسم أكثر ممن عرفه5 !

وهذا الأصمعيُّ يقرأ شِعْر الحُطَيْئة والنابغة على أبي عمرو بن العلاء، ويقرأ شعر الشَّنْفَرى على الإمام الشَّافعيِّ، وقرأ أبو حاتم السّجِسْتانيُّ على أبي عُبَيدةَ شعر عُروةَ بن الوَرْد، وقرأ أبو عمرو الشَّيبانيُّ دواوين الشُّعراء على المُفَضَّل الضَّبيِّ.


  • 2 – جمع الشعر والتَّأليف فيه

قيض الله تعالى للنُّهوض بهذا العمل العظيم علماء، لم يدخروا جهدًا، وكان لهم الفضل في حفظ ذلك الموروث الضخم، ويمكننا أن نذكر بعض العلماء وما صنفوه في الشعر، فمنهم: المُفَضَّل الضَّبيُّ (ت نحو 168هـ) الذي صنع المُفَضليَّات، والأصمعيٌّ (ت 216هـ) صاحب الأصمعيات، وابن سلَّام الجُمَحِيُّ (ت 231هـ) صاحب طبقات فُحُول الشُّعراء، وابن قُتيبة (ت276هـ) صاحب كتاب الشعر والشُّعراء، وأبو زيدٍ القرشِيُّ (توفي نحو أواخر القرن الثالث الهجري) صاحب جمهرة أشعار العرب، والمَرْزُبانيّ (ت384هـ) صاحب معجم الشُّعراء. 

على أن جمع الشعر مر بمراحل، لعلَّ أوَّلهَا جمع شعر شاعر مع شرحه، من مثل صنيع الأصمعيِّ الذي جمع شعر العَجَّاج وشرحه، وصنيع أبي العبَّاس ثعلب الذي جمع شعر زُهَيْر بن أبي سلمى وشرحه، وصنيع أبي سعيد السُّكَّريِّ الذي شرح ديوان كعب بن زُهير، وصنيع أبي عُبَيدة مَعْمَرِ بن المُثَنَّى في جمعه وشرحه النَّقائض، ويمثل جمع المعلقات المرحلة الثانية من مراحل جمع الشعر، بينما يمثل جمع أشعار القبائل المرحلة الثالثة، كالذي صنعه السُّكَّريُّ في جمعه شعر قبيلة هُذَيل، وتمثل كتب الاختيارات المرحلة الرابعة كالمُفضَّليَّات والأصمعيَّات وجمهرة أشعار العرب، أما كُتُبُ الحماسات، من مثل حماستي أبي تمام، الكبرى، والصُّغرى (الوَحْشِيَّات)، وحماسة البُحْتريِّ، وحماسة ابن الشَّجريِّ، فتمثِّل المرحلة الخامسة، وأما جُمع الشِّعر فيما سُمِّيَ بأبيات المعاني، من مثل ما صنعه ابن قتيبة في كتابه المعاني الكبير، فيمثِّل المرحلة السَّادسة.


  • مكانة الشعر في الاحتجاج النحوي

الاحتجاج لغةً واصطلاحًا

الحُجَّة لغةً: البرهان، وقيل: الحُجَّة ما دُوفع به الخصم، وحاجه محاجةً وحجاجًا نازعه الحجَّة. وحجَّه يحُجُّه حَجًّا: غلبه على حُجَّته، وفي الحديث: فحجَّ آدمُ موسى أي غلبه بالحجَّة.

والاحتجاج اصطلاحًا: الاستدلالُ بأقوال من يحتجُّ بهم في مجال اللغة والنحو، وهو يرادف الاستشهاد، ويقابله التَّمثيل، ويُراد بالاحتجاج إثبات صحة قاعدة أو استعمال كلمة أو تركيب بدليل نقليٍّ صَحَّ سنده إلى عربيٍّ فصيحٍ سليم السَّليقة.

مما لا شكَّ أن العلماء أدخلوا الشعر ميدان الاحتجاج منذ وقتٍ مبكرٍ، فالشعر من أهم مصادر الاحتجاج التي اعتمد عليها علماء العربية في تقعيد قواعد النَّحو واللغة، وقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يحتجُّون بالشِّعر الجاهلي لتفسير بعض ألفاظ القرآن الكريم، ومر معنا قبلاً احتجاجُ عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنه بالشِّعر في شرحه بعض كلمات القرآن الكريم لنافع بن الأزرق، وقد رُوِيَ أن سيَّدنا عُمَرَ بن الخطَّاب رضي الله عنه سأل عن معنى قوله تعالى: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) (النحل47)، فقال شيخٌ من هُذيل: هذه لغتنا، التَّخوف: التَّنقُّصُ، فقال عمر رضي الله عنه: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، قال شاعرنا أبو كبير الهُذليُّ يصف ناقته:     

تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْها تامِكاً قَرِداً     

                                  كَمَا تَخَوَّفَ عُوْدَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ

فقال عمر: عليكم بديوانكم، لا تضلُّوا، قالوا: وما ديوانُنا؟ قال: شعر الجاهليَّة، فإن فيه تفسير كتابكم، ومعاني كلامكم.

   ورُوي عن نافع بن أبي نعيم أنَّ عبد الله بن عبَّاس سُئِلَ عن قوله تعالى: (وَفُومِهَا) (البقرة 61)،  قال: الحِنْطَة، أما سمِعت أُحَيْحةَ بن الجُلاح:

قَدْ كُنْتُ أَغْنَى النَّاسِ شَخْصَاً وَاحِداً

                                              قَدِمَ المَدِيْنةَ عَنْ زِراعَةِ فُوْمِ

والأمثلة على احتجاج الصحابة بالشعر الجاهليِّ على تفسير بعض ألفاظ القرآن الكريم كثيرة، جلها مذكور في كتب التفاسير. ذكر شيئًا منها الدكتور ناصر الدِّين الأسد في كتابه القيِّم (مصادر الشعر الجاهليِّ وقيمتها التَّاريخية) ص 152، 153.

وقد دافع أبو بكر الأنباريُّ (ت 328هـ) عن احتجاج الصحابة والتَّابعين، ومن بعدهم النُّحاة، بالشَّعر على تفسير غريب القرآن الكريم ومشكله، والقول ما قال، قال الأنباريُّ: “قد جاء عن الصحابة والتابعين كثيرًا الاحتجاجُ على غريب القرآن ومشكله بالشعر، وأنكر جماعةٌ – لا علم لهم- على النَّحْويِّين ذلك، وقالوا: إذا فعلتم ذلك جعلتم الشعر أصلاً للقرآن، قالوا: وكيف يجوز أن يُحْتَجّ بالشِّعر على القرآن، وهو مذمومٌ في القرآن والحديث؟ قال: وليس الأمر كما زعموا مِن أنَّا جعلنا الشِّعر أصلاً للقرآن، بل أردنا تبيين الحرف الغريب مِن القرآن بالشِّعر، لأنَّ الله تعالى قال: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا) (الزّخرف 3)، وقال: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشّعراء195)”6.

إن حاجة العلماء إلى الشعر ليستعينوا به على شرح بعض ألفاظ القرآن الكريم جعلتهم يُسارعون إلى روايته وحفظه ودراسته وشرحه في أحايين كثيرة، وقد كان النُّحاة الأوائل يدركون ذلك، فأبو عمر بن العلاء الإمام النحويُّ – وهو أحد القراء السَّبعة- كان راويةً لذي الرُّمّة، الذي يُقَال: إن شعره يُمثِّل ثُلُثَ لغة العرب، وكان له اهتمامٌ كبير بالشعر الجاهلي. وقد كان الدافع الأساس لاهتمام النحاة بالشعر هو فهم القرآن الكريم والوقوف على معاني ألفاظه المشكلة أو الغريبة.

ومن المعلوم أن الشعر يأتي في المرتبة الثالثة من مصادر الاحتجاج بعد القرآن الكريم والحديث النبوي الشَّريف، وعلى الرغم من منزلته الثالثة إلَّا أنه كان أوفر حظًا في الاحتجاج، فالباحث يمكنه ملاحظة كثرة الشواهد الشعرية لدى قراءته في أيِّ كتاب نحْويٍّ، إذا ما قُورنت بشواهد القرآن الكريم أو بشواهد الحديث النَّبويِّ الشَّريف، ولعل سُهُولة حفظ الشعر وروايته وكثرة دورانه على الألسنة السبب الكامن وراء طغيان الشعر على غيره من الكلام المنثور في الاحتجاج عند النَّحْويين. فمثلاً سيبويه احتجَّ في كتابه بألف وخمسين شاهدًا شعريًّا، والمبرِّد احتجَّ في كتابه المقتضب بخمسمئة وستين شاهدًا شعريًّا.

وقد قسم النحاة الشُّعراء إلى أربع طبقات، وذكروا من يصحُّ الاحتجاج بشعره، وهي:

1 – الطَّبقة الأولى: الشُّعراء الجاهليون كامرئ القيس والأعشى.

2 – الطَّبقة الثانية: الشُّعراء المخضرمون، وهم الذين أدركوا الجاهليَّة والإسلام، كلبيد وحسَّان ابن ثابت.

3 – الطبقة الثالثة: المتقدمون، ويُقال لهم: الإسلاميون، وهم الذين عاشوا في صدر الإسلام، كجرير والفرزدق.

4 – الطبقة الرَّابعة: المُولَّدون، ويُقال: لهم المحدثون، كبشار بن برد، وأبي نواس.

وقد أجمع النُّحاة على صحة الاستشهاد بشعر الطبقتين الأولى والثانية، أما الثالثة فالصحيح صحة الاستشهاد بشعرها، وأما الطبقة الرابعة فلم يجوِّزوا الاستشهاد بشعرها. ويعد إبراهيم بن هَرْمَة آخر شاعر حضريٍّ يُحْتَجُّ بشعره، وهو مِن مُخضرمي الدولتين الأمويَّة والعباسية (ت 176هـ)، فقد قال الأصمعيُّ: “خُتِمَ الشُّعراء بابن هَرْمةَ وهو آخر الحُجَجِ”7.    


  • الهوامش:  

1 – ابن رشيق القيرواني (أبو علي الحسن بن رشيق، ت456ه)، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تح محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، ط 5، 1981م، 1/ 119، 120.

2 – ينظر: الجاحظ (أبو عثمان عمرو بن بحر، ت 255ه)، الحيوان، تح عبدالسلام هارون، مكتبة عيسى البابي الحلبي، مصر، ط2، 1965م، 1/74. لكنّ محمود شاكر- رحمه الله- ردّ مقالة الجاحظ وكشف بطلان ما ذهب إليه، انظر كتاب شاكر، قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام، مطبعة المدني، مصر، د. ت، ص 11 – 21.

3 – ابن رشيق، العمدة 1/30. وفي كتاب ابن الأنباري (أبو بكر محمد بن القاسم، ت328هـ) إيضاح الوقف والابتداء، تح محيي الدين رمضان، مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق، 1971م، 1/ 100، 101: أنّ ابن عباس قال: “إذا أعيتكم العربية في القرآن فالتمسوها في الشعر فإنه ديوان العرب”. وأنه قال: “الشعر ديوان العرب، فإذا خفي عليهم الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعوا إلى ديوانها فالتمسوا معرفة ذلك منه “. وفي العقد الفريد لابن عبد ربِّه الأندلسي (أحمد بن محمد، ت 328هـ)، تح د. مفيد قميحة و د. عبد المجيد الترحيني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1983م، 6/ 130: (قال ابن عباس: “الشعر علم العرب وديوانها، فتعلموه، وعليكم بشعر الحجاز”، فأحسبه ذهب إلى شعر الحجاز وحضّ عليه، إذْ لغتهم أوسط اللغات).

4 – ابن عبد ربِّه، العقد الفريد، 6/124.

5 – ابن قتيبة (أبو محمد عبدالله بن مسلم، ت276ه)، الشعر والشعراء، تح أحمد محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، د.ت، 1/60، 61. والعقد الفريد، 6/ 158.

6 – ابن الأنباري، إيضاح الوقف والابتداء، 1/61، 99، 100. والسيوطي (جلال الدين، ت911هـ)، الإتقان في علوم القرآن، تح الشيخ شعيب الأرنؤوط، اعتنى به وعلق عليه مصطفى شيخ مصطفى، مؤسسة الرسالة ناشرون، دمشق، ط1، 2008م، ص 258.     

7 – السيوطي، الاقتراح في علم أصول النحو، قرأه وعلق عليه الدكتور محمود سليمان ياقوت، دار المعرفة الجامعية، مصر، 2006م، ص 148.          


 

د. قاسم عثمان جبق – سوريا

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى