سرديات

حياة القارئ في تجربة “موت المؤلف”

ترجع نظرية موت المؤلف للمفكر الفرنسي رولان بارت، والتي عرضها في مقال له بعنوان “موت المؤلف”، تلك النظرية التي لاقت رواجا كبيرا في النقد الأدبي المعاصر، وكانت لها ردود أفعال متباينة، فهناك من رفضها مثل المدرسة الرومانسية والواقعية، وهناك من أيدها مثل المدرسة السريالية والبنيوية وما بعد البنيوية، وتعني نظرية “موت المؤلف” تحرير النص بمختلف أشكاله وأنواعه من مؤلفه،


وترك القاريء لكي يقرأه بمعزل عن مؤلفه، وبمعزل عن المعاني والدلالات التي أراد المؤلف أن يوصلها من خلال الكلمات والجمل المكونه للنص الذي كتبه، ليحل بدلا منها تلك المعاني والدلالات التي يستخرجها القاريء بنفسه من النص. كما تسقط نظرية موت المؤلف كافة السياقات التي جاء في ضوئها النص، هذا فضلا عن العوامل المؤثرة في كاتب النص عند كتابته له … إلخ.


وللوقوف على طبيعة وماهية فعل القراءة يمكن إفتراضيا بلورتها إفتراضيا في بعدين، وكل بعد منهما له شكلين.


يمر فعل القراءة وممارستها لدى القاريء عند قراءته للنص بتجربة وجدانية ذات بعدين كل بعد منهما يمكن أن يظهر في شكلين، وذلك خلال إستخراج المعاني والدلالات من النص في الوقت ذاته، البعد الأول، ويمكن أن نطلق عليه البعد الخارجي، وهو البعد الخاص بالمؤلف، وفيه تتم قراءة النص وفقا لتجربة المؤلف الداخلية وذلك في ضوء كل التراكم المعرفي والثقافي من ناحية ، والعوامل المؤثرة فيه من ناحية ثانية، والسياقات الاجتماعية والدينية والثقافية والسياسية …. الخ السائدة في عصره من ناحية ثالثة.


ويظهر شكلان في البعد الأول لقراءة القاريء، يحدث في الشكل الأول ان يقرأ النص قراءة حرفية، وذلك عند الاقتصار على الوقوف على المعنى الظاهري من النص اي تفسيره تفسرا حرفيا، وإرجاع ذلك المعنى إلى المؤلف، اي هذا المعنى هو المعنى الذي قصده وأراده المؤلف من نصه، أما الشكل الثاني يحدث فيه ان يقرأ النص قراءة داخلية مجازية، وذلك عند تفسير النص تفسيرا مجازية وهو التفسير والمعنى الباطني غير الظاهري من النص، وهو ما يطلق عليه القراءة والتفسير التاويلي الهيرمنيوطيقي.


اما البعد الثاني ويمكن أن نطلق عليه البعد الداخلي أو البعد الوجودي، وهو الخاص بالقاريء، وفيه تتم قراءة النص وفقا لتجربة القاريء الداخلية، وذلك بمعزل عن تجربة المؤلف، وذلك في ضوء التراكم المعرفي والثقافي للقاريء من ناحية ، والعوامل المؤثرة فيه من ناحية ثانية، والسياقات الإجتماعية والدينية والثقافية والسياسية …. إلخ السائدة في عصره من ناحية ثالثة.


ويظهر البعد الثاني للقراءة في شكلين، يحدث في الشكل الأول أن يقرأ النص قراءة حرفية، وذلك عند الاقتصار على الوقوف على المعنى الظاهري من النص اي تفسيره تفسرا حرفيا، دون إرجاع ذلك المعنى إلى المؤلف، بل ان يكون المعنى نابعا من القاريء ذاته، اي هذا المعنى الظاهري هو المعنى الذي توصل آليه القاريء من خلال الوقوف على معاني الكلمات والألفاظ بمعناها الظاهري القريب،


أما الشكل الثاني يحدث فيه ان يقرأ القاريء النص قراءة داخلية مجازية، وذلك عند تفسير النص تفسيرا مجازية وهو التفسير والمعنى الباطني غير الظاهري من النص، وهو ما يطلق عليه القراءة والتفسير التأويلي الهيرمنيوطيقي، أي أن يقوم القاريء بكشف النقاب عن المعاني الباطنية الحيوانية والوقوف على الدلالات الرمزية التي تقف خلف النص، أي خلف الكلمات والألفاظ المكونه له.


إن الكتابة في حد ذاتها تجربة ذاتية، بل هي حالة وجودية يعيشها الكاتب تتجلى فس النص الذي يؤلفه، حيث يعبر فيه عن آرائه وأفكاره، بل يخرج ما يؤمن به وما يعتقد فيه من أفكار في النص الذي يكتبه. وبالتالي، يعتبر النص أداة يستخدمها الكاتب لينقل ما يدور في عقله وما يؤمن به قلبه إلى القاريء، أي أن النص مجرد وسيلة لنقل للأفكار وما تحمله تلك الأفكار من معاني ودلالات إلى القاريء.

وبالتالي فالنص مرآة نرى فيها تجربة المؤلف التي كان يعيشها والكلمات والألفاظ مجرد وسيلة لنقل المعاني والدلالات التي تعبر عن تلك التجربة التي كان يعيشها المؤلف. وطالما كتبت تلك التجربة في نص مكتوب أو مسموع فهي بالضرورة موجهة للقاريء، وليس بالضرورة أن يكون القاريء موجودا في البلد الذي يقطن فيه الكاتب أو في العصر الذي يعيش فيه، حتى ولو كان النص موجها لفئة بعينها أو لشعب بعينه.

فبمجرد الكتابة أصبح النص كالطير الطليق الحر يحلق في أي مكان وخاصة في ظل الثورة التكنولوجية والإنترنت ، فيمكن لأي قاريء في أي مكان في العالم قراءته النص.
ننتهي من كل هذا إلى أن القراءة تجربة مزدوجة، حيث تنكشف مدلولات المؤلف وما يريد توصيله من أفكار

للقاريء؛ ليقوم القاريء بدوره بتلقي تلك الدلالات والأفكار من المؤلف عبر النص من ناحية، وما تحمله من دلالات ومعاني وفقا لتجربة القاريء، وما يؤثر فيه، وما يعيش في ظله من سياقات متعددة، فتنتج في هذه القراءة تجربة جدلية متداخلة بين القاريء والمؤلف، يستقى القاريء من النص الأفكار المتضمنة فيه ليفهمها بطريقته الخاصة وبمنهجه الخاص سواء كان فهه له ظاهريا أو مجازيا.

ويمكن أن نطلق على تلك العلاقة الجدلية بين القاريء والمؤلف علاقة “فهم الفهم”، بمعنى أن القاريء يفهم النص وفقا لتجربته الذاتية والكاتب كان قد كتب نصه بعد أن أخرج أفكاره على هيئة كلمات تحمل معاني ودلالات متنوعة، وهي بدورها عملية فهم تحدث داخل العقل قبل الكتابة لتعبر الكتابة عن تلك العملية، وبالتالي ؛ فالعلاقة بين القاريء والكاتب هي علاقة فهم للفهم، وهي علاقة ترفض عند ممارستها لنظرية “موت المؤلف”.

كما أن “نظرية موت المؤلف” يمكن أن تسبب ما يمكن أن نطلق عليه إسم “اغتيال النص”، فالنص وحدة عضوية، لأنه يتكون من عدة أجزاء، ولا يكتمل النص إلا بوجود جميع الأجزاء المكونة له، ليس هذا فحسب لكن أيضا لا بد أن تجتمع تلك الأجزاء بالشكل الذي وضعه كاتب النص، ولا مجال للتبديل في تلك الأجزاء بالتقديم أو بالتأخير أو بالحذف أو بالإضافة، لأن حدوث مثل هذه الأشياء من شأنها أن يخرج مدلول النص عن معناه الذي هدف إليه كاتبه إلى معاني أخرى قد تصل إلى نقيض ما كان يهدف إليه، وهو ما قد يؤدي إلى نتائج تدميرية في المعنى سواء كان هذا النص بمفرده أو كونه أحد أجزاء مجموعة من النصوص.

فالمحافظة على النص من ناحية الشكل أمر ضروري، ويجب أن لا يشوه بالحذف أو الاضافة بأي شكل، ومهما كانت المكانة العلمية للشخص الذي سيقوم بالتغيير ، فالمحافظة على شكل النص الذي وضعه كاتبه على هيئته له قدسية وجب المحافظة عليها، خاصة إذا كان كاتب النص توفاه الله فلن يتسنى له الرد على ما قد يحدث لنصه من تشويه سواء عن قصد أو دون قصد.

و ينطبق الأمر بالمثل على كاتب النص حتى وإن كان على قيد الحياة، وذلك لأن كاتب النص ربما لم يعلم لك تم من تغيير على النص، وحتى إذا علم ورد وأوضح أوجه التعدي والتشوية على نصه، فكثيرا ما قد يحدث من عدم وصول هذا الرد لكل قراء النص الذين قرأوا النص بصورته المشوهة، وكذلك لم يتمكن كاتب النص -خاصة في ظل الثورة المعلوماتية- من حذف أو سحب هذا النص من المحيط التكنولوجي، وكذلك من الجائز أن ينتشر النص في صورته المشوهة بشكل أسرع من النص الأصلي، وبمرور الوقت ستوجد هناك نسخ مشوهة من النص وهو ما سيؤدي الى تناقضات فجة عند معالجته.

ومن الممكن أن لا يقتصر تشوية النص من حيث الشكل ( الحذف والإضافة والتبديل والتجزء) بل ينطبق الأمر كذلك على النص من حيث المضمون وذلك خلال التطرف في تأويل النص وذلك خلال تحميل النص لمعاني ودلالات تختلف بل وتتناقض مع المعنى الذي رغب فيه كاتب النص، وهو يحدث عند إسقاط السياق السياسي والفكري والثقافي والاجتماعي والديني والأخلاقي الذي كتب فيه ومن أجله النص.

هذا فضلا عن إغفال التطور الفكري لكاتب النص، لأن كل مؤلف كثيرا ما تتغير أفكاره وتتطور آرائه وفقا لزيادة تراكمه المعرفي والسياقات التي يعيش في كنفها.

وبالتالي، وفي سياق ما سبق، يمكن القول “نظرية موت المؤلف” لرولان بارت أحد أهم الأسلحة التي يمكن أن يتم بواسطتها إغتيال النص.


د. غلاب عليو حمادة عثمان – باحث وأكاديمي ومترجم، عضو هيئة تدريس بجامعة سوهاج مصر

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى