نقد

الأحداث وتناصية القراءة في رواية “الناسخ المغربي”

قراءة نقدية

  • توطئة

إن الدارس للأدب العربي القديم سيلحظ أن الخطاب النثري قد اتسم بعاطفة إنسانية قوية، تجلت في التعلق  بالوطن، وإظهار مواطن الحسن فيه، والرغبة في الارتفاع بشأنه من خلال الشعور بسمو الذات، وتميز الشخصية العربية.

لهذا نجد أن الأدباء خاضوا في مختلف القضايا والظواهر الأدبية والنقدية وعمدوا إلى توثيقها عبر مهنة احترفها كثيرون، تنافسوا في تجويدها والارتقاء بها، فأبانوا عن علو كعبهم، وهي مهنة النسخ التي انقرضت مع تطور المدنية وولوج الإنسانية إلى العالم الرقمي من بابه الأوسع، والاعتقاد بأنها باتت عديمة الفائدة … ومهنة غير مثمرة بما يكفي ويمكن لمن يزاولها ويمتهنها أن يبقى فقيرا حتى يموت (ص.174).

في هذا الإطار جاءت رواية ( الناسخ المغربي) أو (اكتب اليك من دمشق) للروائي محمود عبد الغني لتلقي الضوء على  هذه الحرفة العريقة والمتجذرة في التراث العربي والمغربي من جهة، ومن جهة ثانية لإبراز مكانة ومنزلة الناسخ ذاته الذي سعى إلى تحقيق التميز في قدرته على التذكير بما سقط من سجل التاريخ الكبير.

بذلك يكون محمود عبد الغني الناسخ المغربي يخلد في روايته مجالا ثقافيا تراثيا رائدا الا وهو (مهنة النسخ والنساخ) التي بواسطتها وبفضلها خلُدت أمهات الكتب.


من خلال استقرائنا لفصول الرواية، واستنطاقها للكشف عن الأسباب التي دعت محمود عبد الغني لكتابتها، نقف على الحب الشديد الذي يكنه هذا الأخير لبلده المغرب، وإن لم يعبر عنه صريحا، غير أن حديثه عن فاس حاضرة المغرب علميا، وعن أهلها، وعقده لمقابلة ضمنية بينها وبين دمشق حاضرة المشرق يقول: دمشق وفاس في بوتقة من التوأمة النادرة” ص.174 إنما هو نابع من غَيْرَةٍ كبيرة على هذا الوطن الذي يعيش أزمات آنية.

وهو ما يجعلنا كقراء نشعر بما يحمله بين أضلاعه من أسى عميق على هذا البلد وما آل إليه، ورغبة كبيرة مغلفة بسخرية مكلومة في عودة ما كان وانقضى. يقول: (انا شديد الحزن على الناس في القرون الماضية سيقتتلون فيما بينهم ، ويتفرج عليهم العالم وباقي الاقوام ستسلب منهم أراضيهم ونفوسهم وثرواتهم… ومن سيكتب تاريخ المدن؟ وهذا ما نعيشه في حاضرنا. 


  • أحداث الرواية

بعد قراءة رواية الناسخ المغربي مرات متعددة وجدت أنها تجمع بين جنسين ادبيين، وهما أدب الترسل وأدب الرحلة. أما الترسل فيبدو جليا في أن كل ما كتبه الراوي الشخصية الرئيسية هو عبارة عن رسالة يحكي فيها بالتفسير والوصف الدقيق لزوجته أم العيد التي تركها بفاس احداثا عاشها، يقول في ص 108 :(هذه عزيزتي ام العيد أكثر مدينة عرفت بخطورة قدرها وبذكر الأزمنة لها، وبتعاقب الملوك الصالحين والطغاة الطالحين عليها…).


أما أدب الرحلة، فيتجلى في كون الرواية هي سفر رحلي في الزمن والتاريخ، ومحاولة لابراز ثراء المخيال التراثي عبر استحضار فن الرحلة، واستحضار التاريخ المغربي والمشرقي في زمن الحافظ ابن عساكر في ما يشبه الوصف التقابلي بين فاس المغرب ودمشق الشام.


فالرواية رسالة توثق لرحلة تعود أحداثها إلى القرن الثاني الهجري، حيث  سيتلقى ناسخ مغربي يعيش بمدينة فاس دعوة للمشاركة في نسخ جماعي لكتاب يحمل عنوان”تاريخ دمشق”، الذي يقع في ثمانين مجلدا، يقول: (امسكني الحافظ بن عساكر مؤرخ دمشق من يدي وسحبني من فاس إلى دمشق …


قطعت الطرق والمسافات دون صعوبات كبيرة)ص.8. (انا مغربي من فاس جئت للقاء الحافظ وأساهم مع مجموعة من النساخ في نسخ كتاب تاريخ دمشق) ص. .134 وسيكون نصيبه منها عشرة مجلدات. يقول : ( (ثمانون جزءا سيكون نصيبي منها عشرة مجلدات بينما سيتقاسم الأجزاء الأخرى  ثمانية نساخ آخرين… سيكون عملي هذا وقفة بين الفصول والتواريخ والجغرافيات والبشر) ص.13 (مجلدات موضوعة على خوان صغير مجلد فوق آخر)ص.155.


بدا الناسخ المغربي في الفصول الأولى من الرواية متأهبا لخوض غمار رحلة بدأ يعد لها العدة إذ لا يفتأ يسأل ويقرأ عن ام الشام وعن دمشق، وعن ابن عساكر… لينتقل عبر فعل التخييل إلى دمشق محفزا القارئ على إعمال المخيلة والمشاركة في بناء الأحداث.


وهنا نجد أن الكاتب اعتمد أسلوب الاستطراد في نقل أحوال الوراقين والنساخ مقدما لنا صورة تاريخية بانورامية عامة تبرز مظاهر التحضر في الشام وهو يصف حاراتها ودروبها واسواقها وفنادقها محتفيا بالكثير من الأمكنة كدكاكين النساخ.


اكثر ما ميز هذه الأخيرة الضيق وشغف القراءة والكتابة ثم إن الكاتب اعتمد في وصفها تقنية الضوء و الظل في حركتهما، والتي لعبت دورا جماليات وفنيا في تطور العملية السردية  يقول في الصفحة 61:( بقيت أحتمي بالظلال من الشمس/ في الصفحة 131:( مضاءة أحسن ما تكون الإضاءة، والمظلم منها جزء يسير) في تقابل مع مدينة فاس.


نلحظ أن الكاتب وهو يسرد أحداث روايته قد أرجأ اللقاء بابن عساكر  الى حدود  الصفحة 134 وهذا ما يسمى في السرد بالحدث المرجأ حتى يتسنى له اطلاع المتلقي على العديد من تفاصيل الشام حيث الاحياء والمساجد والكنائس  والاحداث المثيرة والملغزة والشخصيات التاريخية (ابو موسى الوراق/ يحيى بن الحسن/ أبو القاسم بن سعيد/سعيد بن جبير/ ابن الجوزي/ الاصمعي/ ابوحيان التوحيدي/ الفرزدق/نور الدين محمود/جعفر بن يحي البرمكي/ الاصبهاني/النويري…) وعلاقتها بتطور دمشق.


كما انه أسرف في ذكر جنانها وبساتينها وثمارها وعيونها وآبارها. ومباشرة يأتي على ذكر الخراب الذي حل بدمشق (تحولت مدن الإسلام الى أسماء جوفاء … فهذه الارض التي لجأت إليها سالت عليها دماء كثيرة … يا للمفارقة اثقلت علي الفتن والمصائب التي وقعت هنا…) وكأن الكاتب يربط الماضي بالحاضر.

وكأني به يذكرنا بمأساتنا الازلية وهو يتحدث عن خراب دمشق( ما أشبه اليوم بالأمس والأمس باليوم ، وكأننا لم نتقدم خطوة إلى الأمام او كأننا نعيش ماضينا الذي مازال لحد الآن يعتقلنا ونحن رهينة لدى ماضينا الذي هو حاضرنا. 


نلفي أن السارد وهو يسرد أحداث الرواية يستنسخ الواقع من خلال العودة إلى التاريخ لفهم المستقبل. علاوة على أنه تعمد تقسيم المؤلف وتوزيعه على جنسيات مختلفة، ربما يريد من ذلك إبراز القاسم المشترك خاصة الحضاري و الديني منه الذي يجمع العرب المسلمين في كل بقاع العالم من الشرق الى حدود الغرب..


وفي تدرج مع أحداث الرواية اكاد أجزم أنها بما حملته من أحداث فهي تتغيى الانتصار للحضور المغربي في تفوقه في ما يسمى بفن النسخ والتقاليد المغربية في صناعة انواع المداد او الحبر، والريادة المغربية في هذا المجال كون مدينة فاس مدينة علمية عريقة عرفت بأول جامعة علمية. 


  • تناصية القراءة

يعرف رولان بارت النص على انه نسيج من الاقتباسات والإحالات … من اللغات الثقافية السابقة أو المعاصرة التي تخترقه بكامله، وهو تعريف انطلق فيه من تعريف جوليا كرستيفا التي ترى ان النص مبني على طبقات وتتكون طبيعته التركبية من النصوص المتزامنة له والسابقة عليه.

إن هذه التعريف يضعنا إزاء مفهوم جديد في النقد المعاصر وهو التناص. هذا المفهوم الذي نجده حاضرا في النقد القديم تحت مسميات متعددة … وهو ما يعني أن التناص هو استحضار النصوص الغائبة في نسق النص الحاضر.

و يظهر أن نص (الناسخ المغربي) قد اعتمد على تشربه لسجلات نصية متعددة ومختلفة أقحمها في نسقه الروائي وتفاعل معها تفاعلا حادا، حيث استدعى من القارئ إعمال قدراته المعرفية والإدراكية للقبض على دلالاته الرمزية.

وبالتالي يجد القارئ نفسه في مواجهة نصوص سابقة تستدعي قراءة تأويلية تعطل القراءة التقليدية، وبالتالي تكون رواية الناسخ المغربي ملتقى هذه النصوص وجامعتها ومحولتها من جهة، ومن جهة ثانية هي النص الأصل (الكتاب الكبير أو تاريخ دمشق ) للحافظ ابن عساكر.


فالملاحظ إذن أن الرواية تمكنت من صهر جميع الخطابات الخارجية وجعلها جزءا منها عن طريق إضفاء الخصائص الروائية عليها. يقول:(…لا نقتل الأسرى بل نفكهم/  أو ليست عادة المجوسي أن ينادي المنادي في هذه الساعة المتأخرة من اليوم؟) هذا التماس بين الخطاب الروائي والخطابين النبوي والقرآني يجعل القارئ يفهم أن السارد قام بإخفاء معالم النص الأصلي ( استوصوا بالاسرى خيرا/ فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ / واستمع يوم ينادي المنادي…) وإدماجها في النسق الروائي.


عادة ما يهدف استحضار هذا النوع من الخطابات  إلى تأكيد رؤية الكاتب وكذلك إلى خلخلة البناء الفني للرواية غير أن محمود عبد الغني يروم منه تعميق الرؤية الجمالية وجعلها غاية في حد ذاتها، هذه الرؤية التي ستكون حاضنة لقضايا مجتمعية غائرة في التاريخ العربي.

ثم إن الكاتب اعتمد السخرية في محاوراته النصية من كثير من الأفكار والتقاليد والمعتقدات( لو علم الله في خيرا لأكل الفقير طعامي)، والقضايا المجتمعية التي كان يتابعها عبر الفعل السردي كقضية المثلية، يقول: ( لقد توفي الفقيه الهائم بالصبي نصر الله/ لم يرض ابناؤه وزوجته زيارته وعيادته خجلا من الفضيحة/ لا أخفيك أني ضحكت بصوت عال لم يتوقف الا بعد قطع مسافة طويلة من الطريق / وانا اتجول رأيت جمعا من الناس يتحلقون حول رجل وجدوه ينكح كما تنكح المرأة ويرجمونه من الأعلى والأسفل…).


إن هذا النوع من الخطابات السردية الساخرة يجعل القارئ يستوعب أن السارد أراد إبراز حجم فظاعة الموقف الذي يعيشه البطل. يتضح من خلال هذه المقاطع العلاقة المتينة بين الإنسان والواقع، هذا الواقع الذي استدعاه الكاتب لغاية فنية حيث الإشارة إلى فضاءات تشهد غياب توازن نفسي.


ان استحضار النصوص الغائبة في نص روائي يحدث انسيابية في عملية القراءة التي يقوم بها القارئ في تفاعله النصي مع النص حيث يتمكن من توليد دلالة نصية جديدة.

يمكننا القول أفلح الكاتب في تحبيك صور ومشاهد  تأخذ بلب القارئ ،فنستسلم للحكاية الجديدة وقد غابت عن اذهاننا الحكاية التي من اجلها يتواجد الراوي وهي اللقاء بابن عساكر، الشيء الذي لم يتحقق إلا في الصفحات الأخيرة من الرواية. 


  • خلاصات عامة

يحيل مصطلح النسخ  في الرواية على دلالات كثيرة ذلك أن الماضي منسوخ طبق الأصل لما نحن عليه وكل ما نفعله هو نسخ وتقليد الماضي وتمجيده. وكل ما فعله الناسخ هو انه أخبر القارئ بأن ما نعيشه هو منسوخ طبق الأصل لماضينا واننا لم نتقدم قط.

وبالتالي يكون قد نسخ لنا تاريخنا العربي الاسلامي الأكبر
– كانت الرواية ذريعة للسفر تخييليا الى الشرق الاسلامي انطلاقا من الغرب ،وابن عساكر ما هو الا محور دارت حوله احداث لا علاقة له بها أحيانا كثيرة.

– اراد الكاتب من القارئ ان يقارن المكتوب على الورق من خلال التعرف على قيمة الورق وقيمة الحبر وانواعه وجمالية الكتابة بالحبر على الورق بالكتابة الحداثية التي تتم على شاشة زجاجية لا تحتاج لأدوات اضحت في عداد الماضي.


-الرواية في العمق مخاتلة روائية فيها ابداع ، يصعب على القارئ التمييز فيها بين ما هو حقيقي وما هو متخيل. وهذا ما يسمى ايضا الايهام بواقعية الأحداث.

– نلفي ضرورة تواجد الذات القارئة حيث نجد أن الكاتب ترك لها الكثير الفجوات والفراغات.

– يقدم الكاتب الأحداث وكأنه يريد من القارئ ان يميز الجيد من الرديء فيها، لانه لا يعطي ولم يعط  رأيه في اي حدث مما سرده ( والحكايات عديدة بما فيها هدم الكنائس وإقامة المساجد والزلزال ، والعادات المشينة اللواط). فالكاتب لم يقدم احكام قيمة بخصوصها بل ترك للقارئ حرية التقييم والتقويم وهي خاصية من خصائص الأعمال الروائية الحديثة حيث لا يقدم الكاتب مواعظا.

– يستفز الكاتب ثقافة القارئ في مجال ثراتي نادر وهو مهنة النسخ والنساخ

– قدم الكاتب الأحداث في توليفة من الحكايات المختلفة الضاربة جذورها في التراث العربي الشفهي والكتابي، والتي تصب في رؤية الكاتب لحال مركز حضارة العرب الا وهي دمشق. فالكاتب قدم لنا رؤية الحاضر بعين الماضي وحوار تاريخ دمشق الحالي والماضي.

– هناك احتفاء خاص في الرواية بالأمكنة، وخاصة الأمكنة السفلى المعتمة الضيقة الخفية المتوارية

– يبدأ الكاتب الحكاية دون أن ينهيها وهو في ذلك يمارس فعل الغواية واغراء القارئ على تكملة الحكايات مستعملا لعبة الارجاء حيث يترك القارئ في حالة انتظار ليكتب معه النهاية. 


أخيرا، إن محمود عبد الغني، يكتب بخلفيات ثقافية وجمالية. فالناسخ المغربي تجربة فريدة لا يتجرأ على خوضها الا مثقف ذو  ثقة في النفس، ويحمل من المحمول والزاد الثقافي ما يسوغ له السباحة في لجج التراث.

عتيقة هاشمي

عتيقة هاشمي، أستاذة الثانوي التأهيلي بالرباط المغرب، حاصلة على شهادة الدكتوراه وحدة التكوين (الإنسان والمجال في العالم المتوسطي) تخصص : (قضايا وظواهر نقدية وأدبية في المغرب الأندلس ) جامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية - الرباط، المغرب. حاصلة أيضا على ماستر في شعبة اللغة العربية، تخصص (التفاعل الثقافي الأندلسي المتوسطي) جامعة محمد الخامس كلية الآداب والعلوم الإنسانية-الرباط المغرب. عضوة الاتحاد الدولي للغة العربية، عضوة شباب الائتلاف من أجل اللغة العربية، عضوة المكتب الوطني لجمعية التنمية المغربية للقراءة (شبكة القراءة بالمغرب)، عضوة مجلس إدارة الاتحاد العربي للثقافة. عضوة مجلس إدارة مجموعة تغريدات نخلة العراقية ُنشرت لها الكثير من المقالات والدراسات النقدية في مجلات وجرائد مغربية وعربية ودولية ورقية وإلكترونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى