فكر وفلسفة

النقد والنقض في حرب الكراهية بين الإسلام والغرب

نصر حامد أبو زيد

 

بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر صار حدىث ((الإسلام)) فى أوروبا بصفة عامة، وفى ((هولندا)) بصفة خاصة، هو العنوان المفضل فى كل قنوات الإعلام المكتوب والمسموع والمرئى على السواء. ولىس معنى هذا أن موضوع ((الإسلام)) كان موضوعا هامشىا فى أى وقت من الأوقات خلال السنوات العشرىن الأخىرة، وتحدىدا منذ حَدَث ((الثورة الإسلامىة)) فى إىران ونجاحها فى إزالة عرش الطاووس سنة 9791، لكنه كان حاضرا دائما بدرجات ونسب تتفاوت وضوحا وخفوتا حسب الأحداث أو بالأحرى الحوادث التى تتواتر أنباؤها قادمة من أى ركن من أركان العالم الإسلامى الفسىح.

لكن الأمر فى السىاق الحالى جد مختلف؛ فالحدث الذى أعطى حدىث ((الإسلام)) مركز الصدارة بهذه الدرجة من الحدة لم تأت أنباؤه من داخل العالم الإسلامى، بل كان حدثا حىا بالصورة شاهده ملاىىن المشاهدىن ىحدث فى كل من ((نىوىورك)) و((واشنطن)).

أنشأ هذا السىاق واقعا مختلفا للحدىث عن الإسلام، وطرح بالتالى أسئلة مغاىرة لتلك التى كانت تُطرح عادة فى ندوات الحوار سواء عبر قنوات الإعلام أو داخل المؤسسات الدىنىة أو الأكادىمىة فى الغرب. بىنما كانت الأسئلة قبل الحادى عشر من سبتمبر تتعلق غالبا بهموم غىر المسلمىن وبقضاىا ((الأقلىات)) و((المرأة)) و((حقوق الإنسان)) فى الإسلام، فإن هذا السىاق الجدىد استعاد بأثر رجعي أسئلة القرنىن الثامن عشر والتاسع عشر عن ((الإسلام والعنف))، مفهوم ((الجهاد)) و((انتشار الإسلام بالسىف))، ((الإسلام والتخلف)) ومعاداة الحضارة والتقدم والتفكىر العلمي.. إلخ.

ورغم أن دلالات حدث الحادى عشر من سبتمبر ما تزال فى حاجة إلى كثىر من التحلىل والمناقشة لسبر أسبابه الفعلىة، أعني الأسباب العمىقة في بنىة النظام العالمى، وفي نسق أىدىولوجىة ((العولمة))، وما ىرتبط بها من عملىة تدفق المعلومات والأموال وسهولة الحصول على تكنولوجىا الحرب والأسلحة، وعلاقة ذلك كله بالتحول الهىكلي فى بنىة ((الإرهاب)) من قوى محلىة غاضبة، تقوم بعملىة هنا وهناك، إلى قوة دولىة مدمرة، فإن رد الفعل السرىع انشغل بالبحث عن ((الفاعل)) من أجل تحدىد المسؤولىة الجنائىة والقانونىة.

ولما كانت الأرض ممهدة من قبل لتنصىب متهم سبق اعتباره ((العدو الجدىد)) للنظام العالمي فى كتابات صموىل هنتنجتون عن ((صراع الحضارات))، فما أسرع ما تم وضع ((الإرهاب))، الذي ىرفع راىة الإسلام، موضع الاتهام. هذا رغم أن الحدىث ىدور دائما حول ((الإرهاب الدولي))، وهى ظاهرة تتجاوز حدود الأدىان والثقافات وتحتاج إلى تحلىل أعمق لمكوناتها وعناصرها وتارىخها.

وإذا كان رد الفعل فى العالم الإسلامى ىمىل إلى تفسىر هذا المىل فى الغرب لرد ظاهرة الإرهاب إلى ((الإسلام)) وحده بوصفه أى بوصف هذا المىل تعبىرا عن موقف عدائي أصىل ومتأصل ضد ((الإسلام)) وما ىمثله من قىم، فإن هذا التفسىر لا ىقل بساطة، وأخشى أن أقول سطحىة، عن مفهوم ((صراع الحضارات)) عند هنتنجتون. لقد اختصر هنتنجتون ((الغرب)) فى ((أميركا))، مثله مثل فوكوىاما صاحب نظرىة ((نهاىة التارىخ))، ضاربا عرض الحائط بالفروق الثقافىة والتارىخىة بىن ((أوروبا)) و((أميركا))، ووضع هذا الغرب بوصفه كتلة واحدة فى مواجهة كتلات أخرى جغرافىة وعرقىة ودىنىة، دون تمىىز بىن هذه التصنىفات.

والسؤال هو: هل ىمكن تفسىر الموقف الراهن باعتباره تعبىرا عن ((كراهىة)) و((عداء)) متأصلىن ضد الإسلام والمسلمىن، أم أن على الباحث أن ىتحدى مثل تلك الإجابات السهلة؛ لأنها جاهزة ومرىحة، وىبحث عن الأسباب الأعمق لتفسىر الموقف الراهن؟ وكىف ىمكن للباحث الموضوعي مهما حاول أن ىتخلص من الأحاسىس والمشاعر والانفعالات المعقدة التي تضغط على عقله وتشل أحىانا قدرته على التحلىل الهادئ.

لعلي لا أعبر فقط عن تجربتي الشخصىة حىن أذكر أنني حال مشاهدتى على شاشة ال CNN لحدث انهىار المبنى الأول من مركز التجارة العالمي، وما تلاه من اقتحام الطائرة للمبنى الثاني ثم انهىاره هو الآخر بعد دقائق، تبادر إلى ذهني فورا حالة رد الفعل المتوقعة ضد هذا الفعل الإجرامي البشع بكل المقاىىس، والمرفوض بكل المعاىىر والأعراف الإنسانىة.

لكنى وفى نفس اللحظة لم أستطع أن أمنع عقلي من مقارنة رد الفعل المتوقع والمبرر بحالة رد الفعل ((البارد)) الهادئ والمحاىد والموضوعي ضد القتل الىومي للفلسطىنىىن، والذى كان العالم كله ىشاهده على نفس القناة. صرخت فى أعماق نفسى: سىهتز العالم كله غضبا للدم الأميركى، نفس العالم الذي لم تحركه مشاهد الدم الفلسطىني الذي ىسىل ىومىا منذ أكثر من عام كامل.

ألىس الدم هو الدم؟ أم أن الدم الإنسانى ىكتسب قىمة تتوقف على محل المىلاد والجنسىة ولون البشرة؟ أي عالم هو عالم الألفىة ثالثة؟ وما معنى ((حقوق الإنسان)) و((حوار الحضارات)) و((حوار الأدىان))؟ ما أسهل أن ننصِّب من ((الغرب)) مجرما نصوِّب له سهام كراهىتنا، ونُنَفِّس فى كراهىته عن مشاعر غضبنا وإحباطنا.

لكن الأصعب ألا نستسلم لسَورة الغضب، التى هى فى النهاىة سمة من سمات الضعف وقلة الحىلة، بل والعجز.
استدعى حدث الحادي عشر من أيلول 1002 أخبار أحداث الانتفاضة الفلسطينية في أيلول 0002، التي كانت قد صارت جزءا من زادنا اليومي في الغربة، نتابعها بالصوت والصورة، ونتابع حالة البرودة العاطفية التي تُقابَل بها أنباء الانتفاضة ومشاهدها الحية في الدوائر السياسية والثقافية هنا. بالنسبة لنا كان لون الدم في أعيننا ورائحة الدم ملء أنوفنا، والحزن يعتصر كل اهتزازة في مشاعرنا وعواطفنا.

إن المقولة المريحة، التي مفادها أن الغرب هكذا دون تمييز أو تحديد يكره الإسلام ويتآمر ضد المسلمين، يمكن بلا شك أن تجد سندا لها في بعض حقائق التاريخ الحروب الصليبية والجغرافيا القضاء على الامبراطورية العثمانية وإلغاء الخلافة والاقتصادية المتمثلة في نهب ثروات الشعوب في فترة المد الامبريالي. تلك شواهد تُستدعَى دائما لتأكيد مقولة العداء الغربي المتأصل للإسلام والمسلمين.

لكن مقولة العداء الأصيل تلك لا تشرح لنا علاقات ((الصداقة)) بين ((الغرب)) وكثير من الأنظمة السياسية في العالم الإسلامي، خصوصا تلك التي تعتبر نفسها ويعتبرها الكثيرون في الغرب والشرق على السواء أنظمة ((إسلامية)).

ومن المؤكد أن مقولة الكراهية الأصيلة للإسلام والمسلمين لا تصمد في تحليل التحالف الإسلامي الأميركي للقضاء على الشيوعية، التي كانت تعد شارة الإلحاد. في هذا التحالف ضد الشيطان الأحمر وضع الغرب يده في يد الإسلام، ووضع المسلمون يدهم في يد الغرب ((المسيحي)) للقضاء على الإلحاد عدو البشرية، فأين كان العداء المتأصل؟ أليس هذا التحالف هو الذي سمح للإرهاب بتكوين ((قاعدته)) في أفغانستان، وذلك حين لم تمانع كل الأنظمة السياسية السماح للمجاهدين الإرهابيين محليا بالسفر إلى أفغانستان؟ من هنا هو المسؤول ومن هنا هو المجرم ومن الضحية؟

  • ابتكار العدو

هل كانت الحرب ضد الجمهورية الإسلامية وضد نظام الخميني حربا ضد ((الإسلام))، وهي حرب ساعدت في إشعالها قوى محلية ((إسلامية)) كثيرة؟ وهل كانت حرب ((تحرير)) الكويت ضد الاحتلال العراقي حربا مع ((الإسلام)) وضد العلمانية؟ ألم تشارك في هذه الحرب دول إسلامية كثيرة يدا بيد مع قوى الغرب بقيادة الولايات المتحدة؟ ليس معنى ذلك بأي وجه من الوجوه محاولة تبسيط العلاقة المعقدة تاريخيا وجغرافيا وسياسيا وثقافيا بين ((الغرب)) و((العالم الإسلامي)) باتساع رقعته الجغرافية وتعدد أبنيته العرقية والثقافية. إن التبسيط المخل يتركز في هذه المعادلة الساذجة بين ((إسلام)) يبدو ثابتا وساكنا ومفهوما وبين ((غرب))، يبدو كذلك ثابتا وساكنا ومفهوما.

هذا ما يحاوله هواة الصيد في الأيديولوجيا بينما يعلنون موتها ونهاية التاريخ. إذا سلمنا بمقولة ((نهاية التاريخ)) فمن السهل التسليم بوجود إنيات ثابتة ساكنة مثل ((الغرب)) و((الإسلام)).

في جذر الفلسفة الأميركية يمكن أن نتلمس أسبابا لهذا الحرص على نصب عدو ما، يكون جاهزا حين تتعرض الأمة الأميركية الناشئة التكوين والهشة التاريخ والقابلة للتشظي لخطر ما حقيقي أو وهمي. إن نمط التفكير الأميركي مبني معرفيا على أساس الفلسفة البراغماتية، التي وضع أسسها كل من ((تشارلز ساندرز بيرس)) (9381 4191) و((وليام جيمس)) (2481 4191).

وهي فلسفة تركز على مدى ((الفائدة)) العملية المباشرة للأفكار؛ فالفكرة تكون ((صحيحة)) إذا كانت فقط ((نافعة))، وتكون على العكس ((زائفة)) إذا لم يكن لها مردود نفعي مباشر. وليست الفلسفة البراغماتية مجرد رد فعل للفلسفة المثالية التي تؤمن بالأفكار بوصفها ((حقائق)) مستقلة ذات وجود موضوعي، بل هي تبالغ في ربط مفهوم ((الحقيقة)) ربطا مباشرا بالفائدة العملية، أو ((تحقيق المنفعة)).

ولما كانت فكرة أن ((الإسلام عدو)) فكرة نافعة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وزوال خطر التحدي الشيوعي سياسيا وعسكريا وأيديولوجيا، فقد أصبحت الفكرة ((حقيقة)) بقدر ما تحققه من نفع. أما لماذا يحتاج الواقع الأميركي إلى ((عدو)) فهذا سؤال آخر يجد إجابته في التكوين التاريخي لهذا المزيج المعقد من الجماعات والمصالح والصراعات، المعروف بالمجتمع الأميركي.

إلى أي حد يمكن المقارنة بين هذا التكوين التاريخي للولايات المتحدة والتكوين التاريخي لدولة ((إسرائيل))، فهذا سؤال آخر يكتسب شرعيته من حقيقة أن شكل التماسك الاجتماعي السياسي الوحيد يتحقق فقط في حالة وجود ((خطر)). فإذا لم يكن ثمة خطر حقيقي فعلي فلا بد من اختلاق حالة ((خطر))، تتطلب بدورها تعيين ((عدو)). هل يساعدنا هذا الشرح لأسس الفلسفة الأميركية في فهم أيديولوجيا البحث عن عدو؟ وهل يشرح لنا لماذا أصبح هذا العدو هو ((الإسلام)) تحديدا، وذلك دون أن نبتلع الطُّعْم الذي يراد لنا ابتلاعه؟

في أميركا يمكن أن نتلمس بداية تخلق مشاعر الخوف من الإسلام ابتداءً من نجاح الثورة الإسلامية في إيران، وما صاحبها من احتلال السفارة الأميركية في طهران واحتجاز عدد من الدبلوماسيين والعاملين في السفارة. خلق هذا الحدث اهتماما متزايدا بالإسلام في الدوائر السياسية والأكاديمية الأميركية، لكن هذا الاهتمام انصب بصفة أساسية على استراتيجية تجميع المعلومات التي من شأنها أن تساعد صانع القرار السياسي في التصدي لمشكلات التعامل مع العالم الإسلامي في إيران وتركيا والعالم العربي من جهة، وفي جنوب شرق آسيا من جهة أخرى.

وبعبارة أخرى يمكن القول إن الغايات النفعية هي التي حددت النهج الأميركي الغالب في الدراسات الأكاديمية للإسلام، وحصرتها في إطار المداخل السوسيولوجية والأنثروبولوجية والعلوم السياسية. وهذه المداخل على أهميتها تتجاهل البعد التاريخي للفكر والثقافة الإسلامية، وهو بعد لازم وحتمي لفهم الإسلام الحي، أي الإسلام كما تمارسه المجتمعات الإسلامية المختلفة عرقيا وثقافيا.

وفي تركيز المناهج الأميركية على دراسة الإسلام الحي معزولا عن سياقه التاريخي يكمن ((سوء الفهم)) العويص في الأوساط السياسية المسؤولة عن صناعة القرار. وكم كان حجم الفضيحة مرعبا حين فسر الخبراء عبارة ((توكلت على الله)) التي وردت على لسان الطيار المصري المسكين بأنها تعني إقدامه على ((الانتحار))! إنه ليس جهلا باللغة، بل هو جهل بالتاريخ والثقافة والتراث الذي تعد اللغة وعاءه الجامع.

هذا عن الوضع في أميركا من حيث علاقتها بالعالم الإسلامي من جهة، ومن حيث طبيعة المداخل التي فرضتها هذه العلاقة على دراسة الإسلام من جهة أخرى. الوضع في أوروبا وهي مكون رئيسي في مفهوم ((الغرب))، الذي تعد أميركا مكونا من مكوناته يختلف. ويكفي أن نذكر أن الاهتمام بالإسلام وتاريخه وآدابه يعود إلى بدايات انبعاث المد الإسلامي داخل حدود الامبراطوريتين القديمتين الرومانية والفارسية منذ أواخر القرن السابع وبدايات القرن الثامن. وقد واكب هذا التداخل الجغرافي تلاقح ثقافي اتخذ في البداية شكل المساجلات الدينية.

من المفيد في هذا السياق الإشارة إلى أن بدايات السجال المسيحي الإسلامي مذكورة في القرآن الكريم في سورة آل عمران بصفة خاصة، حيث تسرد قصة السيد المسيح بدءا من ميلاد السيدة مريم حتى رفع السيد المسيح (الآيات من 53 06) ثم تنعطف الآيات التالية (16 وما بعدها) مشيرة إلى الحوار الذي دار بين النبي عليه السلام ووفد نصارى ((نجران)) القادمين من ((اليمن)) الذي كان آنذاك تحت حكم ((الحبشة)) الخاضعة بدورها للكنيسة الرومانية.

في هذا السياق يتبيّن منطق القرآن الكريم في حالة وصول الحوار إلى طريق مسدود، تسليم الأمر إلى ((العلم الإلهي)) بالدعوة إلى الابتهال إلى الله بأن يصب لعنته وغضبه على ((الكاذبين)) (فمن حاجَّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمَّ نبتهل فنجعل لعنة اللَّه على الكاذبين).

هذا المنطق القرآني المحايد والموضوعي ظل منهج المسلمين في الاستجابة للتحديات اللاهوتية التي كان يطرحها المفكرون النصارى نذكر من أوائلهم ((يوحنا الدمشقي)) (ت: 131ه/947) الذي نشأ وتربّى وتعلَّم وعمل في بلاط الخلافة الأموية في دمشق، ولم يمنعه ذلك من تحدي صدق نبوة محمد عليه السلام ومن تحدي مصداقية القرآن الكريم ورفض كل المفاهيم القرآنية عن طبيعة السيد المسيح وحقيقته.

بل يمكن القول إن كتابات ((يوحنا الدمشقي))، أشهر لاهوتيي عصره وآخر آباء الكنيسة، عن الإسلام والقرآن وعن نبي الإسلام هي التي وضعت الأساس اللاهوتي للنقاش الذي ما يزال صداه مستمرا حتى الآن بين اللاهوتيين المسيحيين وممثلي الفكر الإسلامي. ومع ذلك فلم نسمع عن أي مضايقات تعرَّض لها ((يوحنا الدمشقي)) في عقيدته أو في شخصه. لم نجد سوى الاهتمام بكتاباته والرد عليها ومناقشة أطروحاته(1).

هذا الحوار، أو بالأحرى السجال، القديم الجذور، بدأ يأخذ شكلا منظما في القرن الثاني عشر حيث تمت ترجمة القرآن إلى اللغة اللاتينية لأول مرة في طليطلة سنة 1143. صحيح أن هذه الترجمة لم تُنشر إلا بعد ذلك بحوالى أربعة قرون سنة 3451 وذلك بتأييد ومساندة ((مارتن لوثر))(3841 6451) المصلح البروتستانتي المعروف.

كان الهدف من الترجمة هو إتاحة معرفة بالقرآن تمكن رجال اللاهوت من ((الدحض)) و((الرفض))، وهي الحاجة التي تزايدت مع تزايد خطر التوسع العثماني رغم انحسار الرقعة الجغرافية للإسلام بسقوط ((غرناطة)) 1492 تطور الاهتمام الأكاديمي بالإسلام وتاريخه وآدابه في أوروبا واتخذ مسارات مختلفة ومنحنيات شتى معروفة لكل من درس تاريخ الاستشراق.

ورغم كل السلبيات التي يمكن تتبعها في الدراسات الاستشراقية، وهي السلبيات التي حللها بكفاءة منقطعة النظير الدكتور إدوارد سعيد في كتابه المعروف، فإن الخدمات التي أسداها المستشرقون للثقافتين العربية والإسلامية لا يمكن تجاهلها.

من الجدير بالذكر أن ترجمة القرآن بهدف الدحض والرفض من منظور لاهوتي، لم تمنع ((التأثر))، ويكفي أن أشير هنا إلى دراسة رائدة بعنوان ((أثر الإسلام في إصلاح المسيحية)) للمرحوم الشيخ أمين الخولي، وهي دراسة تتبع بدقة تاريخية وبمنهج تحليلي الكيفية التي تسربت بها الأفكار والمفاهيم الإسلامية حتى ساهمت في بلورة حركة ((الإصلاح الديني)) التي تمثلت في كتابات مارتن لوثر، الذي كان يعتبر الإسلام، كما يتمثل في التوسع العثماني، ((عدوا)) لابد من التصدي لخطره.

هذا من ناحية التأثير الإسلامي في العالم المسيحي، ومن الناحية الأخرى، ناحية تأثير الدراسات الاستشراقية في المفكرين العرب والمسلمين، تكفي الإشارة إلى الاهتمام في الثلاثينيات من القرن الماضي بترجمة كل ما ينشر عن الإسلام في الغرب من أجل الدخول معه في حوار علمي. النموذج الواضح لهذا ((الحوار)) يمكن متابعته في الترجمة الأولى لدائرة المعارف الإسلامية، التي توقفت للأسف عند حرف ((العين)).

هل يجب التذكير بأن دائرة المعارف الإسلامية تصدر في الغرب، تصدرها مؤسسة ((بريل)) بمدينة ((ليدن)) بهولندا. وهي نفس المؤسسة التي أصدرت هذا العام المجلد الأول من الموسوعة القرآنية، التي يشارك في مجلس تحريرها وهيئة مستشاريها علماء وباحثون مسلمون وغير مسلمين. وقد كانت مجلة ((المنار)) التي كان يصدرها رشيد رضا وساهم في تحريرها الشيخ محمد عبده حتى وفاته عام 5091 قناة اتصال بين الشرق والغرب حتى وفاة صاحبها؛ فكانت مفتوحة لكل الآراء فكتب فيها المبشرون المسيحيون، وكان يتولي الرد والتعليق على هذه الكتابات رشيد رضا نفسه أو غيره من العلماء المسلمين.

  • السجال

هكذا يمكن القول إن ((السجال اللاهوتي))، الإسلامي المسيحي، الذي بدأ مبكرا جدا في القرن الثامن، تطوّر بالتدريج إلى حوار بين طرفين تبادلا مواقع القوة، لكن هذا ((الحوار)) لم يتخذ شكلا منظما إلا في منتصف القرن العشرين وبعد صدور الوثيقة الأولى عن ((حقوق الإنسان)) سنة 1948، ففي بداية الخمسينيات تم إنشاء اللجنة الدائمة للتعاون بين المسلمين والمسيحيين Continuing Committee for Muslim Christian Cooperation (CCMCC) ، وهي اللجنة التي قامت بتنظيم مجموعة من اللقاءات بين بعض ممثلي القيادات الدينية من الجانبين في لبنان.

وبالمثل نظم كل من ((الفاتيكان)) و((المجلس العالمي للكنائس)) لقاءات مماثلة، هذا بالإضافة إلى المؤتمر الذي نظَّمه العقيد القذافي في 0791 واللقاءات التي نظمها ((مركز البحوث الاقتصادية والاجتماعية)) في تونس، ولقاءات ((مؤسسة آل البيت)) في عمان.

والآن وبعد هذه الجهود المشكورة من الجانبين لماذا تبدو الصورة قاتمة؟ ولماذا لم تمتد جدوى الحوار الرسمي والأكاديمي لتمارس أي فعالية تذكر على مستوى وعي المواطن العادي، المسلم وغير المسلم على السواء، في المجتمعات الغربية؟ لماذا يظل خطاب الأمير تشارلز خطابا نخبويا، ولماذا تظل عبارات جورج بوش الابن وتوني بلير والرئيس الفرنسي شيراك عن التمييز بين الإسلام دينا وثقافة وحضارة وبين ((الإرهاب)) عبارات بلا مردود في سلوك مواطنيهم في أميركا وإنكلترا وفرنسا؟ وأخيرا لماذا هذه الفجوة بين صورة الإسلام في ((الإعلام)) وبين الصورة في الخطابين السياسي والديني الرسميين؟ تلك أسئلة آن أوان مواجهتها مواجهة شجاعة.

أعتقد أن جزءا جوهريا من الشجاعة المطلوبة هو شجاعة مواجهة النفس بالنقد، الذي لا يجب التقليل من شأنه لمجرد أنه صادر من آخرين. إن ((الآخر)) ليس بالضرورة عدوا أصيلا، بل هو بدرجات متفاوتة ((مرآة)) تتجلى فيها صورة ((الأنا)).

وعلى ذلك يجب علينا عدم المراوغة للتهرب من الإجابة عن السؤال التالي: لماذا يستشهد المسلمون دائما بالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تبرز الوجه السلمي المتسامح للإسلام ويتجاهلون النصوص الأخرى التي تحض على القتال والقتل والإرهاب؟ وهو سؤال أصبح يثار كثيرا بعد الحادي عشر من أيلول، خاصة مع تزايد حجم الإجابات الجاهزة، سواء ذات الطابع الدفاعي/ الاعتذاري apologetic أو ذات الطابع السجالي polemic.

في الإجابات الدفاعية/ الاعتذارية يتم تجاهل النصوص التي تحض على القتال والتربص للمشركين في كل مكان، أو يتم اللجوء إلى توظيف مقولة ((النسخ)) رغم كل ما تثيره من مشكلات من الوجهة اللاهوتية؛ فالنصوص التي تحض على القتال والتربص بالمشركين نزلت بعد النصوص التي تؤكد التسامح والمساواة بصرف النظر عن اللون أو اللغة أو حتى العقيدة.

في الإجابات ذات الطابع السجالي يقوم المحاور ببيان أن العنف ظاهرة موجودة في كل الأديان وفي كل الثقافات، ولعله يستشهد بمدى العنف الذي مارسه الصليبيون باسم المسيح لا ضد المسلمين وحدهم بل ضد المسيحيين الشرقيين واليهود معاً. وحين يؤكد المحاور حقيقة وجود العنف في كل الأديان وكل الثقافات فإنه يكاد يصل إلى تخوم تبرير العنف.

ومن أهم عناصر الشجاعة في مواجهة النفس أن يعترف رجال السياسة والعلماء والمثقفون في العالم الإسلامي بأن ثمة مشكلة يعاني منها العالم الإسلامي، تتمثل في ظاهرة وجود تفسيرات للإسلام يمكن استخدامها تبريرا لقتل الأبرياء. ولا بد من الاعتراف بأن هذه التفسيرات ستظل معوقا من معوقات التقدم والازدهار والترقي ما لم يبدأ العلماء والمثقفون في العالم الإسلامي في توظيف منهج النقد التاريخي في دراسة التراث وتحليله. ولا بد من الإشارة هنا منعا لسوء الفهم الناشئ عن الالتباس أن ((النقد)) لا يعني ((النقض)) والهدم.

ولا يمكن القول إن بنية ((العقل الإسلامي)) ضد ((النقد)) ومع التسليم والإذعان كقيم مطلقة؛ ذلك أن الحديث عن عقل إسلامي خارج محددات الجغرافيا والتاريخ من جهة، وبمعزل عن الشروط الاجتماعية/ الثقافية للمجتمعات الإسلامية بمرجعياتها التاريخية المختلفة من جهة أخرى، حديث ميتافيزيقي لا يستند إلى أسس واقعية. لعل الأكثر واقعية أن نبحث عن علة هذا الفزع العام من منهج ((النقد))، خاصة حين يطال أياً من الظواهر الدينية في التاريخ الحديث، في أزمة ((الحداثة)) و((التحديث)) وإشكالياتها النابعة من سياق العلاقة الملتبسة بين العالم الإسلامي من جهة، وبين أوروبا بصفة خاصة والغرب بصفة عامة من جهة أخرى.

ربما نجد في هذه العلاقة مؤشرات للإجابة عن بعض الأسئلة الحائرة. لماذا كان ممكنا مثلا في القرن التاسع الميلادي لمفكر موسوعي مثل جلال الدين السيوطي (ت 909 ه) أن يسرد الرأي القائل بأن ((القرآن)) الكريم أُوحيَ إلى محمد عليه السلام بالمعني فقط وأنه هو الذي وضع صياغته باللغة العربية، ولم يعد ممكنا اليوم مجرد مناقشة هذا الرأي أو حتى حكايته؟ لماذا إذا ذكر مؤرخ مجرد ذكر الحقيقة التاريخية المعروفة أن محمداً، عليه السلام، فشل في دعوته في مكة حيث تعرض هو وصحبه لاضطهاد غير محتمل من قريش، ومن ثم لم يجد مناصا من الهجرة إلى يثرب، تهيج الدنيا ويحتج المحتجون فيحاكم الرجل ويحكم عليه بالسجن؟

ولماذا ينجرح الشعور الديني بصدور رواية أدبية أو نشر قصيدة شعرية، أو عرض لوحة فنية أو رواية سينمائية، ويحشد الخطباءُ العامةَ في تظاهرات احتجاج ضد ما لم يقرأوا أو يشاهدوا؟ ما سر ذلك العداء العجيب للفنون والآداب، خاصة فنون الموسيقى والغناء، كأن ترتيل القرآن الكريم لا ينتمي إلى فن الأداء الصوتي، وكأن القرآن نفسه ليس نصا أدبيا وفنيا راقيا بامتياز؟ وأخيرا لماذا نحرم ثقافتنا من فنون المسرح والأداء بوضع محاذير ضد ظهور بعض الشخصيات التاريخية؟ في البدء انْصَبَّ التحريمُ على ظهور الأنبياء، ثم أخذ ينسحب تدريجا على الصحابة وآل البيت، والآن توضع المحاذير ضد الممثل أو الممثلة الذي يشخص دور شخصية مهمة من التابعين، كأن يقال مثلا إن عليه، أو عليها، أن يجعل من هذا الدور آخر الأدوار التشخيصية.

أليس معنى ذلك أن التمييز بين ((الشخصية)) و((الممثل)) الذي يشخصها غائب غيابا تاما من أفق الوعي العام؟ إنه التوحيد التام بين ((المثل)) و((الممثول))، سواء في اللغة بين الألفاظ والمعاني والدوال والمدلولات أو في الواقع بين ((الفكر)) و((الشخص))، أو في الأداء الفني والأدبي بين ((المتخيل)) و((الواقعي)). وكأن الثقافة الإسلامية ما تزال في مرحلة التفكير البدائي ((السحري))، الذي لا فارق فيه بين اللغة كنظام رمزي وبين ما تمثله وترمز إليه من دلالات، ولا بين ((الممثل)) والدور الذي يمثله والشخصية التي يقدمها، ولا بين العمل الفني أو الأدبي وبين ((العالم)) الذي ينبثق عنه، أو الفنان الذي يبدعه.

يبدو هذا كله غريبا في ظل ثقافة دينية انطلقت من آفاق مرجعية تراثية رحبة، انبثقت بصفة أساسية من ((قرآن)) تأسست دعوته على العقل نقيضا للجهل والتعصب وضيق الأفق المسمى ((جاهلية)) وعلى ((العدل)) نقيضا للظلم الذي يتأسس على قوة ((الجهل)) في كل مناحي الحياة، وعلى ((الحرية)) نقيضا للعبودية بكل معانيها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

  • النقد

إن التردد في تقبل منهج النقد التاريخي للتراث يرتبط بغياب قيمة ((النقد)) من أفق الحياة العامة بوصفه شرطا أوليا للمعرفة الحقيقية، أي المعرفة التي تنبثق من معطيات المعلوم إلى آفاق المجهول. وغياب ((النقد)) كقيمة إيجابية يمكن أن يفسر هذا التوجس من الديموقراطية باسم الإسلام. ويجعل من الصعب على المواطن في الغرب تصور إمكانية التعايش بين الإسلام والديموقراطية. وحين تُذكر الديموقراطية تُذكر حقوق المرأة، اعتمادا على شواهد الحال في مجتمعات إسلامية كثيرة.

علينا في ممارسة الحوار ألا نكون أقل شجاعة في نقدنا للآخر، وللغرب السياسي، خاصة حين يتصل الأمر بالكيان الصهيوني وممارساته القمعية ضد شعب فلسطين. إن ((إسرائيل)) هي نقطة ضعف أوروبا السياسية والثقافية، وليست نقطة ضعف أميركا وحدها.

علينا أن نذكر الغرب السياسي والثقافي بأن ((المشكلة اليهودية)) لم تُحل حين تم تصديرها لفلسطين استنادا إلى دعاوى لاهوتية سرعان ما تتهاوى أمام سلاح النقد التاريخي. وإذا كانت الكنيسة قد أصدرت وثيقتها البابوية بتبرئة اليهود من دم المسيح عليه السلام، فكيف يمكن أن يكون لهؤلاء اليهود، الذين لم يقتلوا السيد المسيح؛ لأنهم لم يكونوا موجودين آنذاك، أن يكون لهم حق في الأرض التي لم يعيشوا فيها أبدا؟ وإذا تبنّينا النهج السجالي لقلنا إن حقهم في العودة إلى أرض الأسلاف أرض الميعاد لابد أن يقارنه تحملهم لمسؤولية الجريمة التي ارتكبها أسلافهم؛ فالميراث لا يتجزأ.

علينا أن نكشف للغرب السياسي أن انتماءه الديني المضمر يجعل من ((إسرائيل)) طفل العالم المدلل. لكنه ليس الانتماء الديني المضمر فقط، بل يضاف إليه ((عقدة الذنب)) إزاء اليهود.

وبصرف النظر عن نهج التحاور واستراتيجياته وآلياته، فمن الضروري أن يكون حواراً نقدياً بنَّاءً، لا مجرد نقد للآخر وتبرئة الذات. وفي تقديري أن الأمر ليس أمر عداء متأصل ضد الإسلام في الغرب، بقدر ما هو غياب لروح الحوار النقدي المتبادل، والمستند إلى درجة عالية من الشفافية المنهجية. إن مشكلاتنا مع الغرب هي مع سياسات الغرب ومصالحه الاقتصادية، وفي القلب من هذه السياسات والمصالح ((الكيان الصهيوني)).

دليلي على ذلك مسألة ((تجريم)) النقد التاريخي إذا اتصل بموضوع المحارق النازية، وإذا اتصل بالحقوق التاريخية لليهود في أرض فلسطين. حين يتصل الأمر بإسرائيل يصبح الغرب شرقا حيث يصبح ((النقد)) جريمة.


الحوار المتمدن

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى