فكر وفلسفة

مفهوم الحقيقة الهامية

تدخل المناظرة التي دارت بين أبي سعيد النحوي، ومتى أبي بشر المنطقي سنة 326هجرية بمجلس الوزير الفضل بن جعفر الفرات في إطار أول محاولة لتقريب المنطق اليوناني إلى الثقافة العربية الإسلامية- بعد الكندي ـ والتي دونها أبو حيان التوحيدي في كتابه “الإمتاع والمؤانسة”. كشف فيها كل من السيرافي ومتى عن موقفه من المنطق الأرسطي والنحو العربي.


لقد كان متى يعطي اهتماما بالغا للعقل الكلي انطلاقا من علم المنطق لتجريده، وباتعتباره آلة من آلات الكلام تعرف بها صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه، وشبيه بالميزان الذي يعرف به الرجحان من النقصان.


وكان أبو سعيد يعرف صحيح الكلام بالنظم وبالإعراب إن كنا نتكلم العربية حسب زعمه .


وحول علاقة المنطق الأرسطي، والنحو العربي، اختار الوزير الفضل بن جعفر السيرافي لمناظرة أبي بشر، وهو اختيار موفق، أمام جمهور غالية السيرافي. وكانت البداية مع أبي سعيد النحوي، وكان أول سؤال توجه لمتى هو: حدثني عن المنطق ما تعني به ؟ فإذا فهمنا مرادك فيه، كان كلامنا معك في قبول صوابه(1).


قال متى: أعنى به أنه آلة من آلات الكلام يعرف به صحيح الكلام من سقيمه، فاسد المعنى من صالحه كالميزان، فإني أعرف به الرجحان من النقصان، والشائل من الجانح(2).


فأخطأ السيرافي متى، وأخرجه من مجال المنطق إلى مجال اللغة العربية ،وتركيبها، ونظمها، وإعرابها، قائلا في تخطئته له : إن الكلام من سقيمه يعرف بالنظم وبالإعراب إن كنا نتكلم بالعربية(3) مما يعني أن أبا سعيد رفض المنطق اليوناني لأنه ليس عربيا. وأن واضعه رجل من يونان، وبلغة أهلها، واصطلاحهم عليها وما يتعاقبون بها من رسومها وصفاتها.


يقول أبو سعيد لمتى: فمن أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه ويتخذوا منه قاضيا وحكما لهم وعليهم (4)؟ لهذا ، يخاطب السيرافي متى في مرافعته: إنك إذن لست تدعونا إلى علم المنطق، إنما تدعونا إلى تعلم اللغة اليونانية وأنت لا تعرف لغة اليونان(5).


وحول الحروف الهجائية العربية، وجه أبو سعيد سؤالا لمتى حول حرف “الواو” ما أحكامه؟ وكيف مواقعه؟ هل هو على وجه أو وجوه؟(6)


فال متى في رده عن السؤال: هذا نحو، والنحو لم أنظر فيه لأنه لا حاجة بالمنطقي إليه، وبالنحوي حاجة شديدة إلى المنطق، لأن المنطق يبحث عن المعاني، والنحو يبحث عن اللفظ، فإن مر النحوي بالمعنى فبالعرض، والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضح من المعنى(7).


وهنا عاب السيرافي على متى قائلا له: أنت تجهل حرفا واحدا في اللغة العربية التي تدعو بها إلى حكمة يونان، ومن جهل حرفا أمكن أن يجهل حروفا، ومن جهل حروفا جاز أن يجهل اللغة بكاملها.


وفي مرافعة أخرى خاطب السيرافي متى قائلا: وماذا تقول عن القولين 1) زيد أفضل الإخوة. 2) زيد أفضل إخوته. قال متى القول الأول صحيح، والقول الثاني كذلك صحيح.


قال أبو سعيد: أفتيت على غير بصيرة ولا استنابة. المسألة الأولى صحيحة وإن كنت غافلا على وجه صحتها، والمسألة الثانية جوابك عنها غير صحيح وإن كنت أيضا ذاهلا عن وجه بطلانها(8).


السؤال بالنسبة للمسألتين، هل بالفعل أخطأ متى وهو المنطقي والذي تولى رئاسة مدرسة بغداد المنطقية وأستاذ الفارابي المعلم الثاني؟


أولا: المسألة هل هي نحوية أم منطقية؟

فمتى لا يرى أي فرق منطقي بين القولين، لأنه يفهم “الإضافة” كمقولة منطقية من المقولات العشر. بينما يميز السيرافي بين القولين ويرى أن القول الثاني فاسد، لأنه يفهم معنى الإضافة فهما خاصا في إطار اللغة العربية وليس كما فهمها متى في إطار اللغة اليونانية.


لقد فهم متى الإضافة بالمعنى المنطقي: كمفهوم الأخوة ،و كعلاقة مفهوم الأبوة بمفهوم البنوة ، وكعلاقة الجار بجاره، وكعلاقة العبد بالسيد. أما السيرافي فقد فهم هذه العلاقة بمعنى “النسبة”. وهكذا نسب زيد إلى إخوته، أي جعله واحد منهم، يستغرقه الكل الذي ينتمي إليه، ومن ثمة رأى أنه لا يمكن أن يكون زيد أفضل الإخوة لأنه منهم.


فهذا التحليل يجرنا إلى تقابلات المقولات المنطقية الأرسطية والمقولات النحوية العربية.

فمقولات الإضافة والوضع والملكية المنطقية ليس لها ما يقابلها من المقولات النحوية العربية. والمقولات النحوية العربية كالمصدر واسم الآلة واسم الهيئة ليس ما يقابلها في المقولات المنطقية، معناه أن التواصل لا يمكن أن يكون تاما، وكاملا بين الفكر الذي يعتمد المنطق الأرسطي، والفكر الذي يعتمد النحو العربي.


فالتفاهم التام متعذر، بل هناك تصادم ، وتخارج بين الثقافتين مما يخلق فجوة ميتافيزيقية بين الرؤية اليونانية، والرؤية العربية الإسلامية (9)


لنعد إلى مرافعات أبي سعيد السيرافي، وماذا حملت بين طياتها هذه المناظرة؟

– لقد حملت معها عدة صور تعبر عن مواقف لكل من المنطق الأرسطي والنحو العربي، أحرزت تلك المواقف بعرض التقابلات ما بين الرؤية اليونانية(البرهانية)، والرؤية العربية الإسلامية (البيانية) لاختلاف المرجعيات، كل واحدة لها ثوابتها ، ولها مصادرها ،ولها جذورها.


– لقد كان للمناظرة دورا في انطلاق الاشتغال بالتقريب اللغوي للمنقول المنطقي.ولقد دارت المناظرة على ثلاث مسائل:

1- المنطق بين الشمولية والخصوصية

2- المنطق بين الاشتغال عن اللغة والتقيد بها

3- المنطق بين الصناعة والطبيعة (10). وقد تناولت المناظرة مسألة ما إذا كان المنطق اليوناني بحث في المعقولات الكلية التي تلزم الأمم كلها، أم بحثا في المعاني الخاصة التي لا تلزم إلا أهل اليونان(11) .


وتعرضت المناظرة للبحث في مسألة ما إذا كان المنطق والنحو حقيقتين مختلفتين فيما بينهما، أم كانا وجهين لحقيقة واحدة(12).


وتطرقت المناظرة كذلك لمسألة ما إذا كان المنطق صناعة تدفع بقوانينها الخلاف بين الأمم، وتوجه عقولهم إلى معرفة واحدة. أم كان نظرا طبيعيا في المقولات تختلف فيه الأمم كما تختلف في غيره(13).


أما دعوى الشمولية: شمولية المنطق، فيبطلها السيرافي ببيان أن مؤسسه أرسطو وضعه على مقتضى لغة اليونان، وأن معانيه فسدت بالترجمة(14) .


أما دعوى استقلاليته: استقلالية المنطق: فيردها السيرافي بتوضيح أنه لا سبيل إلى العلم بما جال في الفكر ما لم يوجد له اللفظ الذي يطابق المراد، وما من مسألة تبنتها علاقتها بالشكل اللفظي إلا ويتبين عن البحث أنها تنطوي على معان عقلية والعكس بالعكس(15).


أما دعوى صناعة المنطق: فيبطلها السيرافي في بيان أن معرفة الصحة في المقولات معرفة طبيعية وجدت مثل وجود المنطق الصناعي. ثم أن ما يدرك من هذه المقولات يختلف باختلاف اللغات الطبيعية بحيث لا ينفع مما رفع الاختلاف في المقولات كما لا يرتفع الاختلاف بين اللغات(16) .


فالمناظرة إجمالا تعالج من جهة إشكالية اللغوي، والمنطقي ومن جهة أخرى تعتبر أول محاولة لتقريب المنطق الأرسطي للثقافة العربية الإسلامية(17).

  • السؤال هل السيرافي بالفعل رفض المنطق الأرسطي؟

لقد سبق أن طرح محيي الدين صبحي على الأستاذ محمد عابد الجابري سؤالا في إطار الندوة التي عقدتها مجلة الوحدة العربية للسنة الثالثة في شهر نونبر 1986، وكان موضوع الندوة من الفصل الثاني عشر من كتاب التراث والحداثة للجابري. وفي هذا السياق، طرح صبحي سؤاله: هل السيرافي فعلا رفض العقل الكلي (المنطق الأرسطي)؟


وفي جوابه ، ميز الجابري بين موقفين اثنين: موقف الباحث الذي يبحث في المنطق العربي، أو في المنطق اليوناني، وموقف المجادل والمتكلم الذي يدافع عن عقيدته. فموقف السيرافي في المناظرة كان موقف المجادل والمتكلم والمرافع عن عقيدته ، وعن رؤية العرب والمسلمين للعالم وللكون(18).


لقد انهزم أبو بشر أمام السيرافي في مجلس الفرات لعدم تمكنه من اللغة العربية، وجهله للنحو العربي، ولم يكن مجادلا متكلما، لكن الفارابي تلميذ متى، أرجع الأمور إلى نصابها، وحاول بدوره إعادة ترتيب العلاقة بين النحو العربي، والمنطق اليوناني، علاقة اللفظ بالمعنى (..).


وهو الاتجاه الذي سار عليه ابن سينا في المشرق وابن حزم وابن رشد في المغرب والأندلس دفاعا عن المنطق الأرسطي وتقريبه إلى اللغة العربية.


  • هوامش

(1) أبو حيان التوحيدي . الإمتاع و المؤانسة.دار المعرفة . بيروت .ط1 .2004 . ص 66
(2) ن. م. ص67
(3) ن.م ص.67
(4)ن.م.ص67
(5)ن.م ص67
(6)ن.م.ص71
(7)ن.م.ص72
(8)ن.م ص72_73
(9) الجابري . ب.ع.ع. المركز الثقافي العربي , الدار البيضاء . ط1. 1991 ص51-52
(10)ن. م ص 330؟
(11) طه عبد الرحمان . تجديد المنهج .المراكز الثقافي العربي . الدار البيضاء . ط. بدون تاريخ2 ص330
(12) ن. م. ص.330
(13)ن.م. ص330
(14)ن.م.ص320
(15)ن.م.ص330
(16) ن.م ص331
(17) ن.م.ص331
(18) الجابري . التراث والحداثة . المركز الثقافي العربي . الدار البيضاء . ط1 .1991 ص313

  • المراجع

-أبوحيان التوحيدي .الإمتاع والمؤانسة.دار المعرفة .بيروت . ط1 .2004
-أبوحيان التوحيدي. المقابسات. تحقيق وتقديم محمد توفيق حسين . دار الآداب . بيروت . ط2 .1989
– طه عبد الرحمان. تجديد المنهج في تقويم التراث .المركز الثقافي العربي
الدار البيضاء .
-الجابري . نحن والتراث .المركز الثقافي العربي . الدار البيضاء . ط5 . 1986
– الجابري. التراث والحداثة.المركز الثقافي العربي . الدار البيضاء . ط1 . 1991.

بوعزة ساهل

بوعزة ساهل: أستاذ الرياضيات، باحث في فلسفة العلوم، له أكثر من 15 مؤلفاً؛ من بينِها كتاب سيصدر عن المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) بعنوان: "العقل العربي الجريح: قراءة معاصرة في تراثنا العربي العلمي"، وكتاب "جدلية العلم والعقل من منظور إبستمولوجي" و "أوراق بالشلارية".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى